جمال القيسي *
( ثقافات )
وجاء عام، أصابه الذهول من ملايين الأمنيات التي ألقيناها في رزنامته منذ اللحظة الأولى لقدومه. صدمته تطلعاتنا إليه بعين الأمل وفسحة التفاؤل إلى حد لا يحتمله، ولم يقل حقيقة ما هو عليه. لم يصارح غير القليلين بأنه المخلص الأمين لآلة الزمن وأنه لا يبالي بالعواطف، ولا تهز قلبه أية ضراعة للخلاص من الاستبداد أو التنكيل بالشعوب.
لا يكترث هذا العام بطيبة قلوبنا ولا يستعير أذنا من إصغاء. يشمر عن ساعديه ويقبض على منجله بإصرار الحصّاد الذي لا تلسعه الشمس الحارقة ولا يلين ظهره لتعب أو نصب. يبدأ مهمته المنذور إليها. يحصد ما يلوح في طريقه ويجعله قاعا صفصفا. يزرع المتفجرات متناسيا أن قتلاها توسلوا إليه بأن يكون عاما مختلفا وسعيدا فيفض على أحوالهم. يقود حملات التشريد والتجويع والأعاصير دون أدنى خوف من مساءلة أو مراجعة. لا علاقة له بدموع المنكوبين ولا جراحات المساكين. ولا يعنيه بؤس الصغار أو انكسار اليتامى والأرامل.
هل هو عام جديد. سيكون جديدا لو توقفت الآلام قليلا، ولا مفر من سنة أسلافه لتسير الحياة، ولكن لا نقبل منه تكرار الأعوام السابقة بالقسوة ذاتها والتفوق عليها، وإنبات مزيد الكوارث وبقاع الدماء على خرائط الكون.
أيها العام ليس من داع إلى تذكيرنا بأننا الضعفاء وأنت الأقوى والأقدر على تغليب كفة الشر على قسطاس الحق، نعرف وعلى يقين من بطش من مضوا وما جرى من قبل ولا تنقصنا الحكمة التي أشعلت قلوبنا قبل رؤوسنا بحرائق الضياع والأنين.
نتمناك تلهمنا أن الأمل لا ينطفئ وجذوة الإصرار لا تكافأ بالخذلان والخيبة. نريدك عاما أقل وطأة وأن لا تكافئ الأماني بالمنايا، وتكون لك فينا دالة الخير وسلامة المبتغى والإياب. سنغني لك في اليوم الأخير من إقامتك معنا بأنك كنت خيرا مما سبقك. لن نزفرك كما سلفك قبل أيام.
كن لنا صديقا فإننا الأوفياء إلى جلال الصداقة، وادنُ من شفاهنا لتسمع همس الخوف منك، والتضرع إليك بأن لا تقسو، حين تقرر القسوة، استمع إلى دعوات أمهاتنا فإنهن لا يعرفن غير صادق التمني وخير النهايات، وهن لا يطلبن المستحيل؛ فقط يجأرن إلى أن لا تنسحق زهور الربيع بقدم العدم الصماء.
لم يعد يلزمنا مطولات ولا كتابة على جدران الكهوف لمحاولات إبرام المصالحات مع الزمن، ولم يعد زمن المعلقات والاحتماء بالحمية أو الملاحم الكبرى ولا مقارعة طواحين الهواء. صرنا متفقين على الاستسلام تجاه الجديد. نربيه بحسن الظن ونخشى إغضابه. صرنا على درجة من المداهنة تواطأ الجميع عليها وغفرناها لبعضنا دون شماتة أحدنا بالآخر؛ لأن المصائب توحد أكثر من الأفراح.
ليس يعيينا اليأس، بل إنه أكثر انسجاما مع الضعف الإنساني وأكثر سلاسة في اختراق المناعة ومواطن الصبر، لكن استلهام القوة هو سجية الاختيار الطوعي من نفس تنظر إلى الحياة على نحو جديد لا تخالطه أوهام الانحدار في سفوح الخراب النفسي أو التشرد الروحي الذي تهون أمامه مصائب وكوارث المادة وفيزياء الانزياح من زمن ومكان نحو آخر أو تقلب في أحوال وطبقات وكذلك تهون دونه مأساة انعدام كفاف اليوم. جراحات الروح لا تشفى مثل أية جراح ولا تنام كما كل الاحتراقات والالآم.
لسنا ننذر بالشؤم ولا نتطير بقادم الأيام، ولسنا بمغيرين ولو شئنا ما في جوف الغيب القادم، وليتنا نطلع على زمن وموطن الطوفان كي نفر نحو جبل النجاة معتصمين أو نركب الفلك أو نستلهم حلا ثالثا بين الخيارين.
الأمل حادينا صوب نجوم السماء، وكلنا اشتياق إلى تبدل السواد بالبياض وأن يعود اللاجئون إلى بيوتهم لا أن نقوم بتحسين أوضاعهم في المخيمات.
* روائي وصحفي من الأردن يعيش في الإمارات