الثُّنائيةُ اللُّغويَّةُ في المُجتَمعاتِ العَربيَّةِ


*مصطفى الشليح

للمسألة اللغوية، في الوطن العربي تحديدا، حيز مركزي من المنظومة المعرفية بوجه عام، من حيث موقع اللغة العربية من الهوية الثقافية العربية الإسلامية باعتبارها مكونا بانيا لتلك للهوية، وباعتبارها عمودا مركزيا لتفاعلها مع هُويات أخرى، ومن حيث إنها حاضنة لتراث عربي موغل في القدامة والنفاسة، وكان استشفافه مقدمة ماهدة لما يسمى بعصر النهضة في الحقبة المعاصرة؛ ثم إنه موقع يتداخل فيه التاريخي بالمعرفي والديني بالروحي ويتفاعل، عنده، الاجتماعي وما يكون فاعلا في تركيب المستويات المتبقية في بناء مجتمع عربي.

إنّ ذلك الموقع يصل اللغة بالتاريخ وصلا لا فصل له على امتداد الحقب الثقافية المسترسلة في الزمان، وعلى تنامي التجاور والتحاور مع الحساسيات الثقافية الغيرية واللغات المصبوبة فيها، وعلى اختلاف التجارب المعرفية والجمالية التي عرفها المشهد الثقافي العربي تراثا ومعاصرة.
ليست اللغة متماهية مع التاريخ، ولكنها التاريخ بكل شموليته، وبكل ما ينطوي عليه من مدونات في مختلف مناحي المعرفة الإنسانية؛ إنها تاريخ الذات في علاقتها بالوجود قبل أن تكون تواصلا معه، وقبل أن تكون صيغة تعبيرية عن التفاعل مع مختلف مكوناته وعناصره.
من ثمة تكتسب اللغة أولا الصدارة في سلم انتقال الكائن الإنساني من الطبيعي إلى الثقافي، ومن البيان إلى التواصل، ثم من الكشف إلى الإبداع في ضوء التحقق الذاتي للإنسان في أسئلته إلى الكون.
وتكتسب اللغة العربية، تخصيصا، قاعدية الصدارة لتميزها عما عداها بكونها لغة القرآن الكريم، وهي بذلك ذات منزلة خاصة إذا لم تكن مقدسة فهي قاب قوسين أو أدنى من القداسة، ولغةَ تراثٍ ثقافيٍّ تمازج عنده الدينيُّ بالدنيويِّ، وتقاطع المعرفيُّ والجماليُّ، وتواشج الذاتيُّ والموضوعيُّ، ولغةً ذاتَ حدوثٍ جغرافيٍّ ممتدٍّ من الخليج إلى المحيط، فمواقع ثانية اعتنقتِ الإسلام دينا حنيفا محتفلة بالمعرفة المؤطرة به والمترتبة عنه.
لذلك تتسمُ اللغة العربية، عن غيرها دونما نزوع إلى المفاضلة ولا ضلوع في المقايسة، بخصوصياتٍ تند عن لغاتٍ ثانيةٍ، وتجعلُ منها مثارَ أسئلةٍ في ضوء أمرين اثنين لعلهما أن يكونا متدافعين أو قد يكونان متضارعين.
أما أولهما فيتمثل في قدرة هذه اللغة على مواكبة التحولات الثقافية، وفي قابليتها التكيف مع مختلف الأوضاع الحضارية الناشئة عن تلك التعاقبات التاريخية، فإنبثاقتها التجددية إذا ران ركود وهيمن انكفاء وتعثر؛ ولا ريب في أنّ للمقدس أثرا جوهريا في توقي الاندثار وفي إعادة تأهيل تلك اللغة، من قبل علمائها والصفوة المتخيرة من أعلامها، لتنبعثَ وتعيد انتشارها كما حدث في لحظاتٍ حضارية متعددة، وأقربها ما اعتمدته المدرسة السلفية، مع الشيخ محمد عبده، من ” ارتفاع الصوت بالدعوة إلى أمرين ” .. ” ثانيهما إحياء اللغة العربية “.
وأما ثانيهما فنازعٌ عن السابق, ومدعاة إلى إعمال الفكر حتى لا يغدو ما تقدم وازعا إلى أنها لغة لن تعرفَ تراجعا، عن الراهن اللغوي العالمي، بحكم ارتباطها بالديني، وحتى لا يصير مانعا من الاجتهاد بشكل تطويعيٍّ لها مخول استثمارَها لغة تواصل وتفاعل داخل مجتمعاتها، وبينها والمجتمعاتِ الإنسانية بشكل عام.
هذان الأمران يعربان، في تصورنا، عن زمنين للعلاقة، تراثيٍّ وحداثيٍّ :
1-شقّ تراثي يتسم بإيلاء المحافظة على الأصول صدارة الانتباه توقيا لاستلابٍ يقتحمُ الفضاءَ اللغويَّ العربيَّ بما يؤثرُ، سلبا، على جوهره الصافي؛ وهذا الشق يتجذر في التراث الثقافي العربي منذ بداية الحديث عن ثقافتي الحاضرة والبادية، وفي الآن ذاته الحديث عن السواء واللحن اللغويين، وعن الأصالة والعراقة والهجنة والإقراف؛ مما تحتفل به أمهات المصادر اللغوية والأدبية. ولسنا نجانف صوابا إذا اعتبرنا هذا الزمن منغلقا وأكثر قابلية من غيره للاختراق، وإذا أعدنا تذكرة، وللتاريخ الثقافي العربي إجاباته، بكون حيوية الفكر الإنساني وامتداده المستقبلي يتأتيان من لانهائية التجريب الإبداعي للفرد، وكلما كانت فاعلية التوجه الى المستقبل قائمة على وعي بالأصول وبالهوية كان الإمداد بالتعدد والتنوع مسلكا إلى تطوير الممكنات وتثويرها لتستجيب إلى شروط الراهن الوجودي بكافة اختياراته وإكراهاته. 
2-شقّ حداثي يتبلور في التخفف من المحافظة مسايرة للعصر وتفاعلا تشاركيا معه، وليس بالمحدث أمرُه فقد توالتْ دعواتٌ متصلة حينا ومنفصلة حينا آخر، منذ العقد الثلاثيني من القرن الماضي؛ وبعضها كان بقصدية تحديث المجتمع العربي، والنزوح به عن وهدة التخلف الذي كان مستبدا بالعباد والبلاد، واختصار الفجوة الحضارية بما قد يكون وثبة لا يجيزها منطق التدرج التاريخي الذي دأب على تعليم الشعوب بكون الارتقاء يتم بتؤدة سعي وبتريث حثيث الدأب، وبعضها الآخر كان يرتئي تجاوز المشترك التراثي إلى فضاءاتٍ مختلفة تعكس الراهن الحضاري، وتجعل من الشعوب العربية مؤهلة لتخطي العالم الثالثي إلى ما يتقدمه من عالمين أو من عوالم. ولا ريب أن هذا الشق الحداثي لم يتيسر له أن يقرأ التاريخ بوعي استبصاري، وباستحضار تمثليٍّ لتجاربَ إنسانيةٍ سابقةٍ لم يتأتَّ لها بلوغ المنيةِ وإنْ بالتنصل من هُويتها أو من شذراتٍ هوياتيةٍ؛ فأخفقتِ الدعوات إلى اعتماد الحرف اللاتيني، ولم تتوفق تلك التي نادتْ بالعامية خطابا أدبيا عاما، لكونها تتعارض مع أعمدة تشكل الشخصية العربية الثقافية ذات الإيلاء الصدْري للغة مفتاحا جوهريا لقراءة الهُوية العربية ولكتابتها. 
ولا ريب أنّ تفرعاتٍ ثانية متنزلة عن الشقين معا، ولا شك أنَّ غير قليل منها سلك دربا يكاد يكون متطرفا و صداميا في نوعية تفعيل اللغة العربية وفي كيفية تواصلها مع المعيش؛ مما أفاض فيه الباحثون العرب وغير العرب القول سنواتٍ ذوات عدد، ومما لا يتيسر تفصيله في هذه المقاربة.
لكن تلك العلاقة حَرية بإدامة النظر فيها وإحاطته وفق تصور شمولي يتأمل موقع الذات من اللغة، وموقع اللغة من الذات، في ضوء جدلية الكلام واللغة وأثرهما في تشكيل الشخصية الثقافية بين ما هو عام / خارجي، وخاص / داخلي، وفي تركيبها لما اصطلح عليه بالهُوية في حوارها مع الأنوية؛ أي في إطار دراسة سلطة النسق في تصيير المسألة اللغوية إشكالية ثقافية، بل جعلها قضية وجودية بالدرجة الأولى.
إن للنسق الثقافي سلطة في تدبير التنشئة اللغوية للفرد بما يكفل له سواءً في إحقاق التواصل مع الغير والحصول على اعتراف بكينونته فردا منتميا إلى المجتمع ذا حقوق وعليه واجبات، فالثقافي يؤطر اللغوي، واللغوي يسهم في انتشار الثقافي، وفي استرساله تاريخيا وجغرافيا، سواء بالإقامة في الزمان أو بالترحال في المكان لاستقطاب الآخر قصد نقل اللغوي / الثقافي إلى سلوكه ومعيشه وحواره مع الوجود.
تلك السلطة خبَرَها تاريخ السَّفَر اللغوي بين المجتمعات الإنسانية، وسبر انتقال القيم الثقافية المهيمنة، وأدرك كيف أن صراع الهويات مدخل إلى صراعات أخرى أقوى وأشد استفحالا لعل الاستعمار أن يكون وجها من وجوهها، ولعل العولمة أن تكون تنويعا ” حداثيا ” على تلك الوجوه في الراهن من الزمان.
هكذا كان الانصراف إلى ما يدعى بـ ” الانتربولوجيا الاستعمارية “، حينما كانت التهيئة لاقتحام جغرافيات ثانية تتم بقراءة للأنساق الثقافية السائدة، وللقيم السلوكية الرائجة، وللبرامج التعليمية المعتمدة، وللقنوات اللغوية الموظفة، وللأطر التواصلية الكبرى التي تكفل انسجام البنية المجتمعية وتماسكها.
وبذلك كان التوجه إلى تحجيم اللغة الوطنية من حيث إنها عامل وحدويّ، ولكونها منافذ لشيوع ثوابت الهوية ومرتكزاتها، وباعتبارها عمودا لامتداد الخلف إلى السلف، ولأنها تفضي إلى المعرفة؛ حتى إذا تشربتها الذاتُ كانتْ إلى لفظ الدخيل أقرب، وكانت إلى احتواء الأصيل أدنى وأنسب.
في ضوء ما تقدم أملتِ الغلبة، منْ وجهاتٍ متعددةٍ يمثل الفضاء الرقميّ إحداها، استئثار لغات محددة بالخارطة اللغوية العالمية استكمالا لما انخرطتْ فيه، منذ عقود، إبانَ سكناها في المجتمعات ” المغلوبة “، وإبان سريانها، بتؤدة ذات مواظبةٍ، في عمق البنى المؤسسة لتلك المجتمعاتِ، لبناء تعددٍ لغويٍّ متوهَّم قوامه اللغة الوطنية واللغاتُ الثواني ? وينبغي أن نميز بين اللغة الأجنبية والثانية ? وجوهره تسييدُ اللغة الثانية على حساب اللغة الوطنية تسييدا يعيد استحضار علاقة اللغة بالطبقة الاجتماعية بنحو نأتي إليه لاحقا.
من الثنائية اللغوية إلى التعدد اللغوي كانت المجتمعات العربية تبحث عن ذاتها، وعن معرفتها، وعن اللغة التي تطرح بها السؤال، وعن الراهن مجسدا في الفاعلين المجتمعيين وتوزعهم بين الثنائي والمتعدد، وعن المستقبل الآتي مرتسما في الناشئة من الأطفال الذين كان قدرا أنْ يتفتحَ وعيهم اللغوي على وضع ملتبس اربدّ منه الأفق كأنه متاهة للهوية في انفتاحها وانغلاقها على اللغة باللغة. 
اللغة والذات والمعرفة مثلث السؤال في السعي إلى ” الثنائية اللغوية في المجتمعات العربية ” التي إذا توحدت في مظاهر فلعلها أن تختلف في مستويات أخرى من التمظهر؛ إذ إنها، في تركيباتها المجتمعية، ليست متماثلة، و في الناجم عن ذلك من ترتب سالب ليست متطابقة، وفي البحث عن سبل لتجاوز تلك الاختلالات ليست متشابهة، لاعتبارات تاريخية وجغرافية وتفاعلية مع الغرب.
ليست الثنائية اللغوية تعني التوسل بلغتين إحداهما أجنبية، لأن نسقين لغويين اثنين يؤطران المجتمعات العربية رمتها، وهما ما يسمى بالعامية والفصحى اللتين دار حولهما سجال نقدي طويل بين الداعين إلى الكتابة بالعامية والواعين بكون ذلك التوجه مفضيا إلى تشرذم لقومية عربية كانت المحافظة على اللغة العربية عنصرا وحدويا من أقوى عناصرها.
ألحت الكتابة بالعامية على مشتغلين بالشأن الثقافي العربي، ولا سيما في المشرق، إنْ في مصر وإنْ في الشام ? لبنان تخصيصا ? أما في بلاد المغرب فلم تكن الوجهة على هذا النحو بقدر ما كانت وجهة متشددة في اعتماد اللغة العربية لسانا ثقافيا وحدويا مناهضا للتدجين اللغوي الذي كان يسعى المحتل الفرنسي إلى إحداثه في المغرب والجزائر وتونس؛ وارتبطت المنافحة عن الإسلام باستنهاض الهمم لمواجهة الخطط التغريبية الهادفة إلى إقرار اللغة الأجنبية / الفرنسية لغة أولى في البرامج الدراسية الموضوعة لمدارس ” أبناء الأعيان ” التي أقامها المستعمر؛ فأقامت النخبة الوطنية المتنورة ما سمي بـ ” المدارس الحرة ” حيث كانَ تعليم اللغة العربية للناشئة جهادا وطنيا لا يقل عن المقاومة المباشرة لإجلاء المحتل عن البلاد. ولو شئنا بيانا عن حالة المغرب فقط لشط بنا القول عن القصد من هذه المداخلة المرصودة لقراءة الثنائية اللغوية في المجتمعات العربية، ولكن البغية أنّ ارتباط اللغة العربية بالمقدس أهاب بالمغاربيين إلى الاكتفاء بها، آنذاك، أداة تواصلية وكتابية حدّ إرجاء الكتابة المسرحية، ذاتها، إلى ما بعد إحراز الاستقلال. وهذا موضوع آخر.
هلْ يمكن اعتبارُ الكتابة بالعامية مدخلا إلى تحييدٍ تدريجي للغة العربية من التداول على مدى مجتمعي واسع ؟
وهلْ وضعت السياسات اللغوية العربية، في حسبانها، التباعد بين المقول والمكتوب في خارطة التدبير اللغوي داخل مجتمعاتها ؟
وهلْ كانت الكتابة الأدبية، في إيلائها حيزا من شكلها للعامية، موفقة في اجتذاب المتلقي إلى التجاوب مع صيغ تعبيرية مختلفة أو أنها عملت على سعةٍ يباين بها العاميُّ من اللغة فصيحَها ؟
وهلْ أجهز التعتيم اللغوي المتلمس في الكتابات ” الحداثية ” الموجهة إلى مجتمع يكاد يكون غير قليل منه أميا على ما تبقى من وشائج القربى بين اللغة العربية ومتلقيها ؟
وهلْ كانَ تأسلفُ الخطابِ عاملَ إعاقةٍ باعتبار توجهه المحافظ حال دون وصل التوسل باللغةِ العربيَّةِ واشتراطاتِ المرحلة الراهنة؛ حتى لا تضلّ الخطى عن واقعها ومتوقعها ؟
ليس يخلو مجتمع عربي من الكتابة العامية، في إطار ما يسمى بالأدب الشعبي مقابل الأدب المدرسي، ولكنّ حضورها، كما تقدم، يختلف من قطر إلى آخر؛ فإذا كان ” الشعر النبطي” قناة تعبيرية سائدة في الخليج العربي، لاعتباراتٍ تاريخية وجغرافية وثقافية، ومنتشرة بين الشعراء بكل تصنيفاتهم، فإن شبيها به يدعى ” الملحون ” لا تتوافر له السطوة ذاتها في المغرب الأقصى مثلا، من حيث إن المنخرطين في كتابته من ” الشيوخ ” ليسوا كثرة كاثرة، ومن حيث إن المنصرفين إليه لا ينتمون إلى الجيل الشاب بقدر ما ينتسبون إلى الجيل الكهل؛ ومن ثمة فإن أثره ليس بذي بال في المشهد الثقافي المغربي؛ وقد تلحق به الكتابة الزجلية التي تلتمس العامية أداة تعبير.
لكن التوسل بالعامية خطا تحريريا يرتسمُ، بشكل يحفز على شفع السؤال ووتره، في المشرق العربي؛ حتى ليتجاوز الأمر الإبداع إلى الإعلام، أكان مكتوبا أم مرئيا أم مسموعا، وحتى ليتم طرح القضايا الشائكة باللغة المتداولة في أوساط المجتمع. 
وإذا كنا ندرك المقصد التنبيهي الذي يستهدفه الاحتفال بالعامية بغية توعية وإرشاد وتعليم وتأهيل مختلف الشرائح المجتمعية، فإن منطقة الظل من الاستخدام تتمثل في خلق هوةٍ بين التفكير والتعبير، وفي إيجاد تقليد تتبعه أطراف العمر من الإنسان أكان طفلا أم شابا أم مكتهلا مقبلا على الشيخوخة، واتباع الطفل أبلغ حينما يقتفي سُنة تحويل المركب إلى البسيط، بتجريد الفكرة من شكلها وإلباسها شكلا ثانيا، وحينما يعربُ عن تمثل ثقافي ذي خصوصية بصوغ تعبيري قد يكون جاهزا أو مسكوكا؛ مما يفيد تعطيل القدرة على الارتقاء باللغة إلى حيث تكون منسجمة والفكر الصادرة عنه.
هذه ثنائية لغوية تعوق الطفل عن اكتساب اللغة الفصيحة نهجا تواصليا منذ تفتيح عينيه على عالم الكلمات، وتزج به إلى التماس أبسط السبل للإبانة، وتجعل منه يستشعر صرامة القوالب اللغوية حينما يكون مجبرا على استعمالها في مقام الدراسة، وتربكه حد انتساج مسافة بينه وتلك اللغة. 
ومنَ الأكيد أنها ثنائية تخلق تشويشا لدى المتعلم عندما يرى نفسه ملزما بنسيان المتداول اللغوي اليومي، وبالعبور إلى تذكر لغة ثانية تخول له أنْ يكون تلميذا قيد التعلم؛ لا سيما إذا كان فضاءُ البيت غير ذي التفاتٍ إلى هذه اللغةِ بالاقتصار على العامية أو على لغة أجنبية أخرى.
وليس غلوا اعتبارُ أنّ الدول العربية، إلا فيما عزّ وندر، ما قرأتِ التاريخ من حيث تجب قراءته، وما وضعتْ، في سياساتها اللغوية، خطط عمل على المدى المتوسط والطويل، بل إنها كانتْ مهتمة بما لا تندرج فيه الثقافة بوجه عام. ولرب قائل : وما علاقة الثقافة بالسياسة اللغوية ؟ قلْ إنَّ أساسَ عدم قراءة التاريخ كامنٌ في ازدراء الثقافة وحجبها عن أداء دورها في التربية والتعليم، ثمّ في الترويج للسلع ” الثقافية ” الاستهلاكية التي لا تبني مجتمعا بقدر ما تبتعد به عن أصالة التفكير والتعبير والتدبير، فالبرمجة ” التسطيحية ” الساذجة لكلّ ما يسعفُ في إنتاج ما لا يحقق ” الغرابة ” بلغة أبي عثمان الجاحظ.
وليسَ غلوا، أيضا، اعتبار أنّ النخبة المثقفة العربية لم تمارس دورها التاريخي في ” ردم الهوة ” بين المجتمع، بصغاره وكباره، ولغته. فعلى مدى خمسين عاما أو أكثر لم يكن النتاج الثقافي العربي بذي فاعلية في بناء إنسان مختلفٍ؛ ولعل الغاية لم تكن متبلورة في تقليص استشراء أميتين ألفبائية وثقافية مدخلا إلى إعادة تأهيل البنى المجتمعية بشكل عام، ثم لعلها كانت مقصورة على توه تجريبي / تكسيري يلبي رغباتٍ ذاتوية لمثقفين كانت جل كتاباتهم أبعد ما تكون عن اهتمامات العامة من القوم، وأقرب إلى حوار داخلي ليس مطلوبا من تأخر الإسهام فيه؛ وبذلك لم يكن لها أثر محمود في تحقيق إقلاع ثقافي في مختلف الأقطار العربية.
نلح على الفاعلية الثقافية لأنها منطلق اللعبة اللغوية ومنتهاها من موقعين اثنين: أولهما أنَّ القراءة عتبة أولى للاقتراب من اللغة وللانجذاب إلى جماليتها؛ فعلاوة على المعرفة المحمولة هنالك ذلك الإغواء الذي تمارسه كل اللغات على المبحر في أفضيتها؛ وللغة العربية سحر مخصوصة به، ولكنه يتأبى على الذاهب إليه عابرا وليس مقيما. وقد أخفق الكتبة العرب، بمقدار، في إغراء القارئ منذ عقود إخفاقا تتضافر فيه إكراهات ثانية متصلة بالسوسيو اقتصادي وما يدور في فلكه، فحدث تباعد بين الكاتب والقارئ، ولعله الآن اتخذ مسافاتٍ أخرى لأسبابٍ نأتي إليها في مختتم المداخلة، وقد تكون التكنولوجيا ” الاستهلاكية ” التي تعولمتْ بها المجتمعات العربية والعوالم الرقمية أهمها.
ليستِ القضية مسألة لغوية تتراوح بين الواحدية والثنائية والتعددية في استعمال الكلام، ولكنها أدق وأعمق، لأنها تهم النسيج الثقافي الذي يصل الراهن بالماضي وبالمستقبل، والذي يقوم بتهيئة مجال تفاعلي بين ما تقدم وما قدم لبرمجة تاريخية للقدوم الآتي. والقادمون إليه من الحاضر يمثلهم الطفل العربي الذي قد يسألُ عن مجاله الثقافي بعيدا عن إسقاطات تربوية لعلها أن تكون إعاقة إبداعية لطفولة نأى بها العصر عن التقليدية إلى آفاق أخرى لا مندوحة لها من التعامل معها، وإن شاء الكبار غير ذلك.
وقد يسأل عن الكتابات المدرجة في المسمى” أدب الأطفال “، وهل تستجيب لما ينتظره منها أو أنها مكسرة لأفق انتظاره، وهل هنالكَ تساوقٌ بين الثقافة المرئية التي تنهمر عليه من التلفزيون أو من الانترنيت وسَميتها التي يصادفها موجهة إليه مكتوبة باللغة العربية أو بلغات أخرى. 
عالمان متباينان هما المرئي والمكتوب لا يمكن للفرد، أكان طفلا أم كهلا، إلا أن يضل بينهما، وإلا أن يجنح للمشترك بين الجمهور وإن كانَ ليسَ بالسواء المنشود؛ بل لعلها عوالم ثلاثة إذا اعتبرنا اللهجة والفصيح واللغة الأجنبية الثانية ليكبر الإشكال الثقافيُّ شتاتا ثلاثيَّ الأبعاد يسربلُ تنمية المهارات اللغوية والثقافية لطفولة عربية مغيبة من السياسات التربوية الرسمية، ولا يُتحاورُ حولها إلا في الملتقياتِ، ولا يفعل أمرها إلا بتوصياتٍ يكون صداها باهتا عند التطبيق لغياب الخطط الاستراتيجية الوطنية ذات المدى البعيد، والتي لا تنفصل عن التنمية البشرية بشكل عام وعن التأطير الثقافي المفترض لها.
إن التفكير مستقبليا مهمة ينبغي أن تصير عربية، وإذا كان منطق المثقف التراثي ذا انحياز إلى الإجابة عن أسئلة لم تطرح، فإن إكراهات اللحظة الحضارية ملزمة لمثقفها أن يميل إلى منطق صوغ السؤال بحثا عن أسئلة أخرى يكون بعضا منها إجابة، والبعض الآخر حافزا على اختبار الذاتِ في حوارها مع الآخر حوارا إذا لم يكن متكافئا فقد يكون محافظا على ثوابته الخصوصية.
إن الثنائية اللغوية الأكثر هيمنة تتمثل في الصراع بين اللغة الأم واللغة الوافدة، بين لغة تدفع عنها الاحتواء لصون كينونتها من التلاشي ولغة قادمة بكل سطوتها الثقافية وسلطتها الاقتصادية وهيمنتها الدولية لإشاعة نموذج ثقافي واحد يتوسل فيه بلغة ذلك النموذج أو بلغاته.
وإذا كان المجتمع العربي الحالي ما زال ذا احتفال بقيمه الثقافية وتقاليده الحضارية وبلغته احتفالا نابعا من أنّ الفاعلين المؤثرين فيه عاشوا تجارب الاستعمار والوحدات العربية والإخفاقات السياسية والنكسات الحربية، وكان لذلك أثر في شحذ إيمانهم بكون مناعة الهوية مدخلا إلى بناء إنسان عربي مختلف، فإنّ القادمين إلى المستقبل، من أبنائهم، يرون الأمر مختلفا، لا سيما إذا كانوا متشبعين بثقافتين إحداهما أقل نفعية حياتية من الأخرى، وكانوا منجذبين إلى ما تمرره ثقافة العولمة وإعلامها منْ مادة تجد مستقرا طيبا في صدور شبابٍ خفت إيمانه بالثابت التراثي مقابل انصرافه إلى المتحول العولمي.
إن الثنائية اللغوية تحمل تعارض مفهومين ثقافيين ونسقين لغويين، وفي الراهن من الوقت فإنّ الاستئثار بالغلبة وقفٌ على القطب المهيمن على إدارة الشأن العالمي، ولعله يزداد استحواذا على أسواق الهويات، أكانت عربية أم غير عربية، وعلى أذواقها.
إنّ الأهم يتمثل في وجوب مقاربة السياسات اللغوية العربية لهذه الثنائية التي يمكن تصنيفها فيما يدعى بالتعدد اللغوي أو بالمثاقفة كحد معرفي / إجرائي أدنى، فلا يكفي أن نذهب إلى القول بوجوب مقاومة ذلك التسلل اللغوي لتلافيه، ولا أن نكتفي بالبحث عن سبل تيسير ذلك. 
بلْ يتعينُ أن نلتفتَ إلى أنه لا يمكن، في عصر المعلوميات والفضاء المنفتح، أنْ نسبح في النهر مرتين بالدعوة، غير الحضارية، إلى المقاطعة، وأنّ الأحقَّ المبادرة بإعادة النظر في السياسة الثقافية، بكل مكوناتها التربوية واللغوية وما عداها، على المدى البعيد، وجعلها مدخلا إلى التنمية البشرية لتكون كفيلة بكتابة تاريخ ثقافي عربي مختلف ليست اللغة إلا مظهرا من مظاهره.
-كيفَ يقرأ الطفل العربي تاريخه بلغة أخرى ؟
سؤال قد تكون هذه المقاربة ألمعت إلى كيفية تدبره ثقافيا وحضاريا.
لكن آخرَ يستدركُ على ما أنفَ تداركه ؟
-كيف يكتب الطفل العربيّ تاريخه ؟
ألفنا الطفولة متلقية. 
-أفلم يأن بعد أنْ نتلقى الطفولة مبدعةً لحظتها الحضارية ؟
لعلها ثنائية تربوية / ثقافية نحن ملزمون بارتياد الفضاء الفاصل بين قطبيها.
وليست الثنائية اللغوية إلا مظهرا شكلانيا لذلك الفضاء حيثُ الهوية والآخر يتدافعان.
قدمت المداخلة إلى مؤتمر: ” لغة الطفل العربي في عصر العولمة ” بالقاهرة 17 ? 19 فبراير 2007، بمقر الأمانة العامة للجامعة العربية. وترأس المشارك الجلسة الختامية بإلقاء عرض تركيبي لما تدوول في المؤتمر، ولما يُقترح انتهاجُه في السياسة اللغوية العربية.
_______
*العلم المغربية 

شاهد أيضاً

بدء البث التجريبي لأول تلفزيون ذكاء إصطناعي في العالم العربي

(ثقافات) بدء البث التجريبي لأول تلفزيون ذكاء إصطناعي في العالم العربي جميع المذيعين والمذيعات والبرامج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *