حوار مع كولن ويلسون : رؤية بطولية لعصرنا





كولن ويلسون كاتب غزير الإنتاج و ذاتي التعلم عاش حياة غرائبية في شبابه و كان يمضي معظم أوقاته بين أروقة المكتبة البريطانية و عرف ومازال يعرف حول العالم بأنه مؤلف ” اللامنتمي The Outsider ” الذي نشره عام 1956 و لا يزال يلقى صدى واسعا بين القراء في العالم والقراء العرب.

ولد كولن ويلسون عام 1931 و عاش حياة درامية مثيرة قبل أن يكرس كاتبا ، ويفضل ويلسون ان يوصف بأنه “كاتب و فيلسوف ” كتب في موضوعات واسعة الطيف : الرواية ، الجريمة ، الباراسايكولوجي ، التصوف ، تأريخ الأفكار ويروق له ان تدعى فلسفته ” الوجودية الجديدة ” . ذاع صيت ويلسون في أوساط الشباب بخاصة في العالمين الغربي و الشرقي أثناء ثورات الشباب العنيفة في أعوام الستينات التي تمازجت فيها الليبرالية الجنسية مع الدعوة الى تجربة عقاقير صانعة لعوالم متخيلة ( و أهمها عقار ال اس دي LSD و المسكالين ) ثم خفتت تلك الحركات في العقود اللاحقة . 

يرى بعض النقاد الكبار و- بخاصة الإنكليز منهم- في كولن ويلسون شخصية شعبوية تجيد التعليق على الأفكار المطروحة أكثر من انتاج أفكار تتسم بالجدة و الأصالة ، إنما و برغم كل شيء يبقى ويلسون كاتبا مقروءا ذا مقروئية عالية و تلفت غزارة إنتاجه و تنوع موضوعاتها نظر مؤيديه و منتقديه معا – أصدر نحو 100 كتاب- و شاع معظمها في الأوساط الثقافية العراقية و العربية ، وفي مقدمتها : ” اللامنتمي ” عام 1956 ، ” الدين و المتمرد ” عام 1957 الذي ترجم في العالم العربي تحت عنوان سقوط الحضارة ، ” طقوس في الظلام ” عام 1960 ، ” ضياع في سوهو ” عام 1961 ، ” أصول الدافع الجنسي ” عام 1963 ، ” ما بعد اللامنتمي ” عام 1965 ، ” القفص الزجاجي ” عام 1966 ، ” طفيليات العقل ” عام 1967 ، ” فن الرواية ” عام 1975 . 

تلويحة امتنان ووداع للكاتب الذي كنت –في شبابي – مولعة بكتبه و أفكاره أنا وكثير من أبناء جيلي ولبثت أتابع أعماله وأعيد قراءة بعضها بين حين وحين . وكان آخر ما قرأت له كتاب( طفيليات العقل ) وكتابه المهم ( فن الرواية)، وقد أسهم كولن ويلسون في توسيع آفاق وَعينا و صياغة الكثير من مفاهيمنا وأفكارنا المستنيرة وتمرداتنا فتفتحت عقولنا اليافعة على عوالم مثيرة ورؤى غيّبتها الأيدلوجيات من جانب والعقل السكوني في مجتمعاتنا المستسلمة لسباتها من جانب آخر .

توفي كولن ويلسون في 5 كانون الثاني عام 2013 جراء مضاعفات رئوية بعد إصابته بجلطة دماغية عام 2012 وهذه ترجمة لأسئلة مختارة مع إجابات كولن ويلسون عليها من حوار نشر في موقع Poetic Mind الإلكتروني 
لطفية الدليمي
__________
■ كيف تصف اتجاهك الفني : هل ترى نفسك كاتبا أم فيلسوفا أم متصوفا أم ربما ناقدا أيضا ؟
• أرى نفسي فنانا – فيلسوفا ، عندما كنت في مقتبل شبابي أعجبت أيما إعجاب بمسرحية برناردشو الشهيرة ” الإنسان و الإنسان الخارق ” و ما زلت أراها المسرحية الأكثر تأثيرا في القرن العشرين إذ طرح فيها برناردشو نظريته في الفنان – الفيلسوف ، و لهذا تراني أكتب روايات و أعمالا نقدية و فلسفية على نحو متتابع : يمكنني هنا ان اذكر مثالا كتابي ” اللامنتمي ” الذي أعقبته برواية ” طقوس في الظلام ” و قد درجت على هذه العادة منذ أن بدأت مهنتي في الكتابة أواسط الخمسينات ،و منذ ذلك الحين كانت أعمالي الفلسفية و النقدية على الدوام تنشر متزامنة مع نشر رواياتي التي كانت تعالج عادة موضوعات سبق لي تناولها في كتبي الفلسفية و النقدية .

■ نشرت ” اللامنتمي ” عام 1956 و بعد أكثر من نصف قرن من الزمان ما زال هذا العمل يأسر عقولنا – لنقل بعض العقول في الأقل – . هل ما زال هذا الكتاب قادرا على كشف ما أنت عليه اليوم ، و إلقاء ضوء على الطريقة التي ترى فيها العالم الآن ؟
• نعم بالتأكيد ، فكما ترى لقد تواصل عملي في طريق مستقيم لا يحيد يمينا أو يسارا عن الأفكار التي طرحتها أولا في ” اللا منتمي ” ، و ما زلت أحسب أن اللامنتمي هو بصورة أساسية مقاربة لسؤال ” كيف يمكن للكائنات الإنسانية أن توسع مديات وعيها ؟ ” وقد يظن البعض ان روايتي ” طقوس في الظلام ” أجابت على السؤال السابق بإمكانية توسيع مديات وعينا عبر التجارب الجنسية التي يعتقد بها بطل الرواية : جيرارد سورم وهو الذي رأى ما عاناه أحد الضحايا جرّاء هذه التجارب فيرتعد رعبا و يعيد التفكير في ما اعتقده ويسائل نفسه ” ليس هذا ما اردته من هذه التجارب ” . يقول بودلير :” كل شيء في هذا العالم ينضح بالجريمة ” و أظن هذا محض زيف رومانتيكي ، فقد تخدم الجريمة كهدف مثالي بعض الفنانين ذوي السلوكيات المرضية لكنها ليست بالفكرة الثمينة لأنها تعجز عن الإيفاء بمتطلبات اختبار الحقيقة .
■ هل ما تكتبه مدفوع بتوهج عالمك الداخلي أم بمحض
أحداث خارجية ؟
• أرى هذا سؤالا شاقا للغاية لأننا نعيش بين عالمين و هو ربما مجمل الموضوعة التي اشتغلت عليها في ” اللامنتمي ” : ففي ذلك الكتاب أحكي عن أناس يستشعرون في دواخلهم أنهم يعيشون في برزخ بين عالمين و ليس في أي واحد منهما بالكامل !! . دعني أوضح فكرتي بهدوء : قبل أن أكتب ” اللامنتمي ” عملت في أعمال كثيرة لطالما كرهتها من أعماقي ،مثل ساعٍ للبريد ، غير إنني كنت محظوظا لأنني كنت ألمعيا لقدرتي على التعبير عن نفسي بمصطلحاتي الذاتية و قد نتج عن أفكاري كتاب ” اللامنتمي ” الذي منحني فرصة لأكون كاتبا و أتوقف عن تعاطي الأعمال التي تمقتها روحي . أغلب الناس يعيشون على الحد الفاصل بين عالمين و ما عملته انا بالضبط هو انني حاولت منذ البدء العيش في عالمي الثاني الذي أحب : أعني عالم العقل و هذا هو ذات الفعل الذي قام به ييتس Yeats و رومانتيكيو في القرن التاسع عشر اللذان اعلنا أن هوية العالم الآخر الذي يتوقان إليه هو عالم ” الكينونة الجوانية ” أو باستخدام مفردات كيركيكارد ” الحقيقة هي الذاتية الكاملة ” فقد اقتنع ييتس بعالم من الجنيات fairies كبديل عن عالمنا و هو في أقل تقدير بذل مجهودا معقولا ليستبدل عالمنا اليومي المثير للضجر بعالم آخر يراه أكثر واقعية و قدرة على تحفيز و خلق الأفكار .
■ ما الذي يلهمك في ابتكار أعمالك ؟ أعني هل يلهمك الانغماس مع الطبيعة أم ينبعث إلهامك من الصمت الذي يتيح لك سماع الكلمات التي تبحث عنها ؟
• أنا في الأساس شخصية عملية و براغماتية للغاية و هذا ما يفسر كيف تدربت في حياتي المبكرة لأكون عالما ،أكتب بوعي كامل و بعد تمحيص هادئ و بحث و استقصاء دقيقين و انضباط كامل و ليس ثمة من انزلاق نحو طقوس تبتعد كثيرا عن المألوف .
■ هل صحيح انك تدعو الى مستوى آخر من الحياة ينبغي التركيز عليه جنبا الى جنب مع الحياة اليومية الاعتيادية ؟ و هل ان هذا المستوى من الحياة ينبثق من ” اليومي ” ذاته أم بإمكانه ان يثري هذه الحياة منفردا ؟
• هذا هو بالضبط ما أتحدث عنه دوما و أراه السؤال الأهم بين الأسئلة جميعا ، و قد بذل الرومانتيكيون ما في وسعهم للتعبير عنه و لكن ما يميز ييتس و يجعله الأعظم بينهم هو انه تساءل دوما : ” هل يوجد هذا المستوى من الحياة الذي يتجاوز الحياة اليومية ؟ ” في الوقت الذي رأى فيه الرومانتيكيون الآخرون أن ليس هناك ما يمكن ان يتجاوز هذا العالم العفن الذي رأوا فيه فخا قاتلا للإنسان و بخاصة للشاعر .
■ هل ترى العمل يسيرا عندما تتناول الأفكار الروحانية مع جمهور واسع و هل ترى ضرورة لتقليل جرعة الأفكار فيها بغية تيسير وصولها الى جمهور أكبر و بالتالي تحقيق استيعاب أكبر لها ؟
• لا أقلل محتوى المعلومات أبدا و كل ما افعله أنني أكتب افكاري بأوضح ما يمكنني و أتوقع انها ستجد صدى طيبا لدى كل عقل واع .
■ ذكرت في مواضع كثيرة مما تكتب أن الرؤيويين Visionaries من الناس لا يمكنهم التعبير عن تجاربهم بالكامل عبر الكلمات حسب . هل ترى ان هناك محدودية متأصلة في اللغة ؟ و هل هناك وسائل تعيننا على تعزيز قدرتنا في التعبير عن أفكارنا ؟
أكثر ما نعجز في التعبير عنه بالكلمات هو الرؤية Vision ،التي أسماها بروست ” اللحظة المباركة ” : تلك البرهات الغرائبية من الدهشة النقية المطلقة . يقول بروست تحديدا : ” قد نظن بأننا قد اختبرنا كل شيء في هذه الحياة حتى لم يعد ثمة ما نضيفه الى جملة خبراتنا او نضعه في حسباننا ثم نكتشف في لحظاتنا المباركة الكاشفة أن ملايين الأشياء قد نسيناها و هي ذات أهمية فائقة .” . إن المشكلة مع الكائنات البشرية هي إمكانية ان تصبح انتحارية لأنها تنسى إمكانية وجود هذه اللحظات المباركة في حياتها وهي الحالة التي عبر عنها هيدجر ” نسيان الوجود ” .
■ عندما كنت طفلا هل كانت لديك رؤية او إحساس طاغ عما يمكن ان تكتب عنه مستقبلا ؟
• نعم ، فقد كانت لحظتي الرؤيوية الأساسية أو لنقل ” لحظتي المباركة ” – إذا ما استخدمنا المفردات البروستية – تأتيني أوقات أعياد الميلاد التي كنت أسائل فيها نفسي ” يا إلهي ، أ ليس العالم جميلا بما يفوق التصور ؟ كيف تهيأ لي أن لا أفكر بجماله الخارق من قبل ؟ كيف يمكن أن أكون ضجرا في تشرين الأول و أنا أعلم ان أعياد الميلاد قريبة للغاية ؟ ” و يمكن أيضا ان أدعو رؤيتي القائمة على لحظتي المباركة بأنها ” الوعي المصاحب للعطلة ” : لأنني كنت انطلق أثناء العطلات خارجا و كان ينتابني و أنا في الطبيعة المفتوحة الأرجاء تساؤلات من نوع ” أ ليس هذا عالما معقدا و رائعا الذي نعيش فيه ؟ ” . أراه أمرا في غاية الصعوبة اليوم أن أستعيد و لو شيئا بسيطا من هذه التجارب الثمينة في وقتنا هذا .
■ ماذا يعني الإلهام في الفن حسب ما ترى ؟
• الإلهام يعني أن تصل إلى ذلك الشيء الجوهري و الأساسي الذي تعلمه و تؤمن به : هو طريقة في رؤية الأشياء و متى ما امتلكت هذه الطريقة في رؤية الأشياء ستعرف لماذا كان الفنان سيزان يرى الأشياء بطريقة هندسية غريبة و قد تقول لسيزان حينها : ” ولكن الأشياء لا تبدو في الحقيقة هكذا ؟ ” و سيجيبك هو : ” و لكن هذا هو ما تبدو به هذه الأشياء لي عندما أستخدم نظارات الإلهام الرؤيوية الكاشفة ” .
______
*المدى 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *