*أوس داوود يعقوب
أسئلة كثيرة تشغل بال المعنيين بالشأن الثقافي، والمتابعين له، بينما نحن نودع عاما ثقافيا عربيا مواكباً لعام آخر عاصف من أعوام “الربيع العربي”.
فمهما تعدّدت مقاربات المتفكّرين بالمسألة الثقافية، ومهما نوّعوا فيها من زوايا نظرهم لتحديد وظائفها، فإن الثقافة، سواء أكانت شعبيّة– ونعني بها ثقافة التقاليد والفولكلور- أم نقية عالمة، تظلّ فضاء رمزيا منفتحا على مجالات المعيش البشري، وتمثّل جسر الإنسان للعبور من هجانة تصوّراته عن الكون إلى تصنيع جماليات عناصر هذا الكون. ولا يتمّ ذلك إلاّ بجرأة المثقّف على اختراق المهترئ من المعايير الاجتماعية والأذواق الأدبية والفنية لمجموعته البشريّة، من أجلّ اقتراح أخرى جديدة لا تحفل بشروط الاستهلاك التظاهريّ والإشهاريّ، وإنما تمثّل سبيل الناس إلى قيام دولة الحضارة بما تعنيه من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية وانفتاح على الآخر وثقافاته.
واستنادا إلى ما سلف من أهمية للفعل الثقافي في تحقيق النهوض الحضاري للشعوب، وعطفا على ما تشهده ساحاتنا الثقافية العربية من تطوّرات هامة ساهمت فيها انتفاضات الربيع العربي وخضّاته، فإنّ السؤال عن قيمة المنجز الثقافي العربي الفنية والفكرية، ومدى تماهيه مع الوقائع السياسية والاجتماعية التي تعيشها شعوبنا صار أمرا شاغلا، وذلك من جهة يقيننا في أنّ التغيير نحو الأفضل لا يمكن أن يبلغ مداه وتحققاته، ما لم تعضده ثورة ثقافية للعقلية الاجتماعية المحرّكة له، والمنتجة لخطاباته في الأدب والفكر والفن. وهو أمر ستحاول “العرب” البحث عن إجابات له، عبر استطلاع شارك فيه مثقّفون ومبدعون عرب هم على صلة، من قريب أو بعيد، بأسئلة هذا الحراك الثقافي ومخاضاته.
تنوّعت مواقف المبدعين العرب من الأحداث التي تعيشها أوطانهم في ما سمّي الربيع العربي، حيث عمد بعضهم إلى تمرير بعض الرسائل، كالحديث عن حتمية وصول ذلك الربيع إلى بلده، ودعوة نظام الحكم في وطنه إلى ضرورة إجراء تغييرات جذرية في بنيته، واتخاذ الخطوات الضرورية لتأمين الانتقال السلمي نحو تعايش وطني ديموقراطي. فيما التزم البعض الصمت أو الحياد، كخيار وموقف ثابت رغم وجوده في قلب أحداث جلل، مكتف بمراقبة ما يجري حوله في وقت كان فيه نفر قليل من معشر الكتاب يبشرون منذ سنوات – سبقت نار الشاب التونسي – بربيع عربي رأوه آت لا محالة، لخلاصهم من أنظمة حكم الطغاة والاستبداد.
عواء ممكن
بداية تحقيقنا كانت من تونس، التي كان شعبها سبّاقًا للانتفاض في وجه طغمة الاستبداد والفساد، ناشدًا الخلاص من حكم الديكتاتور الجنرال زين العابدين بن عليّ. وكان أول المتحدثين لـ”العرب” الشاعر والروائي محمد علي اليوسفي، الذي قال: “عندما قررت الإجابة عن السؤال، قلت أجيب على وقع أغنية ” كتبنا وما كتبنا” لفيروز؛ فيروز التي يدعوها بعض “الثائرين” العرب الـ “مزنوقين” إلى مواكبة ثوراتهم المدعوة زورًا بــ “الربيع العربي”. وكانوا قد طالبوها قبل ذلك أن تتجند مع الحركة الوطنية اللبنانية ضد قوى اليمين، فاعتصمت بربيعها المحلِّق فوق تناقضات المؤقت والآنيّ كما يفعل كل فن عظيم دون أن يتخلى عن انخراطه الإنساني.
نعم كتبت لأقول إن النصف الفارغ من الكأس هو الذي يجعلني أكتب. بدأت بقلم يعزف خارج سرب الراكضين الجدد نحو المنافع المتجددة. كتبت عن العقليات العفنة التي تدّعي تحطيم اليومي وتجديده باسم المستقبل فيما هي تأخذنا نحو ماض قريب وآخر سلفي. كتبت في جريدة “ثائرة” (الأفضل أن أقول: مثيرة”!) ومعارِضة كانت أشد فتكا من القديم المتأسس على ضلالة، ربما لأنها تنتمي إلى القوى السياسية الجديدة التي تشبه ذئابًا جائعة في موكب ضباع متخمة بالفضلات القديمة والجديدة. هذا الكلام يشبه الحديث عن يمين ويسار، عن حكم ومعارضة، وطبولهما هنا وهناك.
لماذا أكتب؟ لأني، في هياج الصارخين والملتحقين بمناصب “الربيع″ الأخرق المتجددة، يجب أن أكتب. كل الصارخين عن الأهداف الموؤودة يعرفون أنها باتت أبعد. لكن هذا البعد يمكن أن يعيد ترتيب الأوراق والمناصب والمكافآت، حتى وإن كانت تقتصر على سهولة سبّ الرئيس، أو سهولة إنشاء كشك جديد أينما أمكن ليحل محل عربة الخضار أو عربة الثقافة. أكتب لأن العواء صار ممكنًا. لأن النباح… حتى في هذا، سوف يسبقونني، بل لقد سبقوني… وفيما أقول لك أنني أنبح… يكون أحدهم قد سبقني وألف كتابًا عنوانه “كلب بن كلب” ليكون من أكثر الكتب مبيعًا في معرض كتابنا الشاحب.
أما لمن أكتب، فأجيبك أنني أكتب الآن، لك أنت أولاً، لأنك سألتني هذا السؤال. وأكتب لمن سيقرأ تحقيقك في جريدة “العرب” .. ثانياً. أما ما كتبته وما قد أكتبه خارج سياق هذا السؤال، فهو لي أولاً، ولمن يريد، أو يستطيع، أن يقرأ ثانيًا”.
لست كاتبا ملتزما
ومن مدينة القيروان العريقة يأتينا صوت الشاعر التونسي والأكاديمي الدكتور المنصف الوهايبي، قائلاً: “حرصتُ دائمًا ـ قبل هذا “الربيع وبعده ـ على أن يكون صوتي واضحًا تفاديًا لكلّ تلبيس أضحى كثير من المثقّفين في تونس ماهرين فيه ويحذقونه بشكل يسمح لهم بالانتقال من موقف إلى موقف ببهلوانيّة يتصوّرونها خارقة لكنّها في حقيقة الأمر مضحكة؛ وشواهد ذلك كثيرة اليوم بعد 14 يناير.
قلت في نص قصير منشور في 12 يونيو 2010 أي قبل الثورة بسبعة أشهر:”عام 1935 كتب شاعر البرتغال الشهير فرناندو باسّوا، معرّضًا بسلازار الذي أرسى في البرتغال دكتاتوريّة امتدت من1934 إلى 1974:”هو لا يشرب الخمر ولا يشرب القهوة، لكنّه يشرب الحقيقة والحرّية بنهم عرّضهما للنفاد في السوق”. قد لا يكون ثمّة أبلغ من هذه الصّورة في وصف حال العالم العربي الذي آن لـ”أساطيل الحرّية” أنْ تفكّ الحصار الذي تضربه الأنظمة على شعوبها، عسى أن تعجّل بثورة “ياسمينيّة” إن لم تكن “قرنفليّة”. هذا بعض ما كتبت في نقد الاستبداد، وكنت أصرّح كلّما وجدت سبيلاً إلى ذلك، وأواري وأرمز كلّما استعصى الأمر أو تعذّر.
لكن ما ينبغي التّذكير به أنّي لم أنخرط في معارضة منظومة الحكم السّياسيّة والقيميّة في نصوصي الشّعريّة والأدبيّة؛ فأنا لا أعتبر نفسي كاتبًا ملتزمًا بالمعنى المعهود، وإنّما أسعى إلى كتابة قصيدة أفعّل من خلالها حياتي، ما هو يوميّ فيها وما هو ميتافيزيقيّ. ولذلك، فإنّ مناهضتي للمشهد السّياسيّ الذي احتلّه بن عليّ تعكس ما أتصوّره الشّرط الأدنى لعلاقة المثقّف بالشّأن العامّ، وهذا يقتضي تدبيرًا معيّنًا لهذه المناهضة قدّرتُ أن يكون من خلال انتسابي إلى هيكل سياسيّ واضح لأنّ نصّي الشّعري يتحرّك في أفق وجودي غير مسيّس بالمعنى الحرفي للسياسة وفي حساسيّة جماليّة لا تقطع مع السّياسيّ لكنّها ليست على أيّة حال مسيّسة. وحتّى القصائد التي كتبتها في تفاعل مع بعض الأحداث السّياسيّة أو تنديدًا ببعض المواقف والممارسات التي تورّطت فيها هياكل “نقابيّة” ما كان لها أن تورّط نفسها بذلك الشّكل الفجّ؛ إنّما أعدّها مناسباتيّة ومنبريّة ولا أعتبرها ممثّلة لتجربتي الشّعريّة.
لأقل إني لم أصمت في واقع الأمر. ولكن السّياق تغيّر؛ فلم نعد ضمن معادلة تقليديّة معقودة على تقابل بين سلطة وموالاة من جهة ومعارضة ليّنة أو راديكاليّة من جهة ثانية، وإنّما نحن في وضع انتقالي نتيجة “حدثيّة” استثنائيّة في تاريخ تونس المعاصر تأتّى لي أن أتمثّلها في بعض النّصوص الشّعريّة. وقد أتمثلها في نصوص أخرى. وفي الجملة، فأنا مثلي مثل مثقّفين كثيرين أتعلّم بعدُ كيف أتهجّى هذا الوضع الانتقالي…
لكن المخيف حقّا ألاّ تنتج الثّورة خطابها الثّقافي الخلاّق والرّيادي الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه أكثر من أيّ تحرّك “ثوري” آخر.. لا أحبّ التّنظير لمستقبل تونس؛ لكن أتصوّر أنّ ما يسمّيه بعض الشّباب “استكمال مسار الثّورة” هو مهمّة ثقافيّة عن جدارة وليس مجرّد مسيرة أو اعتصام.. لكن لا أدري كيف نضطلع بعدُ بهذا الرّهان..”.
مرض الكتابة
ومن أرض ليبيا المشتعلة والمنشغلة بأوضاعها المأزومة بعد الخلاص من الديكتاتورية “القذافية”، يقول الشاعر والكاتب فرج العربي: “الكتابة ﻻ ترتبط بزمن أو أحداث بل ترتبط بتجربة المبدع وهي التي تحدد حالة الكتابة وهناك سؤال عام ﻻ يرتبط بوقت أو بتاريخ لماذا نكتب ولمن؟.
في اعتقادي أن الكتابة أوﻻً ﻻ ترتبط بقارئ معين وخصوصًا الكتابة الإبداعية ﻷنها حالة قول للذات تتشكل في اللغة .. ويتحدد الشكل فيما بعد حسب الشحنة التي نحملها ويأتي القارئ بعد النشر وهذا ﻻ يعني بأن هناك فئة من الكتّاب يعنيهم القارئ في المقام الأول وكثيرًا ما تجد كتاباتهم مهلهلة ﻷنها كتابة معدة مسبقًا وتستهدف النشر.
في زمن الربيع أو الخريف أو أي فصل عربي حيث نعيش الفصول مجتمعة في زمن واحد وربما هناك وهم أيضًا بأن هذا الزمن يحتاج إلى كتابة مختلفة.. تجربة الخيبات الكثيرة التي عشناها تجعلنا ندرك بأن سقوط طاغية ﻻ يعني نهاية الطغيان بسهولة فهناك طغاة صغار هضموا ثقافة لها امتداد طويل في تاريخنا ولذلك الشعارات ﻻ تعني الديمقراطية وحرية إبداع.
ربما كانت الكتابة مرضا كما قال “بيكيت” ذات زمن ﻷنه ﻻ مهرب من اللجوء إليها عندما تحاصرنا بشاعة العالم أو جماله أيضًا ..
ربما كانت الكتابة ضرورة لمن أصيب بها وتبقى الحالة الحقيقية تلك التي نجد فيها أنفسنا، وأنا ﻻ يعنيني القارئ أثناء الكتابة ﻷنني أكتب دون أن أفكر في النشر أو من سيقرأ لي فيما بعد إﻻ إذا كنت سأكتب بيانًا أو مقالة مقصودة لقارئ معين ولكن حالة كتابة النص الإبداعي ﻻ تخضع لمعايير مسبقة أو لزمان ومكان فهي مشرعة أمام كل الاحتمالات”.
لا أعرف لماذا أكتب
من دمشق النازفة، يؤكد لنا صاحب “لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة”، الروائي خالد خليفة، أنه حتى الآن لا يعرف لماذا يكتب، مضيفاً: “لا أملك سوى إجابة واحدة بأنني أكتب لأني لا أتقن شيئًا سوى الكتابة التي أحاول أن أتقنها، وتحدياتها وأسئلتها التقنية مازالت طازجة بالنسبة لي، لم تتغير منذ ثلاثين سنة حين بدأت أكتب، ولا أعرف إن كانت هذه الإجابة مقنعة إلا أنها حقيقية بالنسبة إلي، وأفكر دومًا حين يقال كلام كبير عن التوعية ونشر المعرفة والجماهير، وأعتقد بأن القائلين بهذه الأسباب أيضًا غير مخطئين. طبعًا كل الكتاب يكتبون لقراء مفترضين، وهؤلاء القراء يفترض بأن القراءة تقدم لهم متعة وتنمي إحساسهم الجمالي وتساعدهم الكتابة عمومًا على طرح أسئلة شخصية وذاتية عن حياتهم وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وأنا هنا كقارئ أفكر بأن الكثير من الكتب غيرت حياتي نحو الأفضل، وكتابها أثروا في بشكل أو بآخر، وبأفكاري وطريقة حياتي لذلك كل ما يقال عن لماذا نكتب أراها صحيحة.
أما عن الكتابة في زمن الثورات فاعتقادي بأن الكتابة لا تختلف وظائفها حسب الأوقات أو الأزمنة، دومًا هي تريد قول الحقيقة المخفية أو المستترة لكن في وضعنا الحالي كسوريين قد تفرز الثورة كتابا يكتبون في أوقات الأزمات أو كتابا يستثيرهم الحدث ويجدونه فرصة ليعبروا عما يحدث، لكنني لم أغير من كتابتي ومازلت أتابع مشاريعي التي بدأت بها قبل الثورة، وأعتقد بأنني سأكتب عما حدث في وقت لاحق. مازلت أنتظر نهاية لكل هذه التراجيديا التي نحن نتقاسمها يوميًا مع أبناء شعبنا”.
الحب زمن الثورة
من جهته يقول صاحب “لقلبك تاج من فضة”، الروائي السوري عدنان فرزات: “أنا حتى قبل الثورة كتبتُ عن الثورة، وذلك في روايتي “جمر النكايات”، كانت بحسب النقاد هي نبوءة للثورة، خصوصاً وأنها صدرت عام 2010 أي قبل عام من الثورة. لذلك كان من الطبيعي أن أستمر في الكتابة عن الثورة وأثناءها.
وأكتب أيضًا عن الحب حتى في زمن الثورة، لا يستطيع أن يثور من ليس في قلبه محبة، وليس في عواطفه رهافة الضوء وإن كان يبرق من نصل سيف مقاتل لأجل الحق. وأكتب أيضًا عن الإنسان، الإنسان بغض النظر عن معتقداته وأفكاره وجنسياته.
أكتب للإنسان الذي لا يستطيع إيصال آلامه ومعاناته، أكتب عن البسطاء الذين يحاول السياسيون استغلالهم والثراء على أكتافهم. في رواياتي التي صدرت قبل الثورة وبعدها، وفي مقالاتي الصحفية مزجت بين معاناة الإنسان والحب والسياسة والوطن والاستغلال والعطاء.. تستطيع القول بأنني متخصص في الكتابة عن الإنسان بكل تفاصيله وانفعالاته وحالاته الإنسانية وغير الإنسانية
الثقافة الرمادية
بدوره يضيف صاحب “إبرةُ الرّعب”، الروائي السوري هيثم حسين: “في زمن الثورة، وفي الأزمنة كلّها، يقع على عاتق المثقّف واجب الدفاع عن القضايا الإنسانيّة التي يؤمن بها، والتي تمنح المعنى الحقيقيّ لمفهوم الثقافة، وتُكسبه مشروعيّة أن يكون مُعبّرًا عن أحوال مَن ينتمي إليهم. لا أستطيع أن أتصوّر كاتبًا خارج سياق الدفاع عن الإنسان ضدّ القتل والإجرام، ومهما يكن من أمر، لا تنفع مبرّرات ادّعاء الحياد في الثورة، فإمّا أن تكون مع القاتل وتفقد صفة الكاتب وتقع رهين ما يُفرض عليك، وتصنّف ضمن خانة الكَتَبَة، أو تواجه القاتل وتقف إلى جانب الشهيد وتتحدّى بكلمتك وصوتك، وتشهر سلاحك المُتمثّل بالقلم والكلمة لتفضح ممارسات المجرمين وتعرّي مزاعمهم. المناطق الرماديّة في الثقافة حيلُ الجبناء وخدعهم المكشوفة..!
لماذا أكتب؟ أكتب لأنّني يجب أن أكتب. أكتب لأنّ هذه رسالتي ومهمّتي وسلاحي. أكتب كي أوسّع مجال إدانة القاتل، ولا يمكن أن نستهين بدور الكلمة التنويريّ في عالم المعرفة وعصر العلوم، فالحرب على الشعب شاملة، ولا يجدي أن نكتفي بسلاح وحيد بأيدي الثوّار في أرض المعركة، بل لابدّ من استنفار الطاقات كلّها لنعرّف العالم بحقيقة ثورتنا بعيدًا عن محاولات توجيهها إلى مناطق غير مرغوبة قد تسيء لها ولنا. أكتب ليقيني أنّ الكتابة سجلّ الشعوب ومرسالها نحو الغد انطلاقًا من معرفة الماضي وإدراك الحاضر. لمن أكتب؟ ربّما يكون في تحديد ماهية المتوجّه إليهم للتعبير عن كينونتنا تقييد في سياق ما، ولاسيّما أنّ الكاتب يكتب للكلّ وعن الكلّ، وحين تكثر الكتابات يتعرّف من خلالها الآخرون إلى رؤى مختلفة تمكّنهم من بلورة تصوّر عام حيال الثورة، لا الاكتفاء بالجانب الإعلاميّ الدعائيّ الذي يكتفي بالصورة بعيدًا عن الكلمة والإقناع. أكتب لمَن ثار واحتجّ واستشهد ورحل، أكتب من أجلهم، أكتب عنهم، أكتب لمَن يمتلك حسّاً بالآخر عسى أن أكون نقطة في بحر ثورة تغيّر تاريخ بلد، وتلعن تخاذُل العالم عن نجدة شعب منكوب لأنّه يثور من أجل كرامته وهويّته”.
الكتابة موقف
وفي هذا الغرض يقول الشاعر السوري حسان عزت: “أنا أكتب من وجدان عميق ينتمي إلى الحياة الجديرة بالكفاح والمواجهة.. وأحاول وبكل تجربتي ووعيي أن أؤكد بأن الفن موقف، والحياة والوجود موقف، وأن الأمس بكتاباتي أبناء شعبي أو من يقرأ نصوصي منهم. على أمل أن تقرأني فيما بعد شرائح من شعبي العربي.. وطموحي كبير وإيماني كبير .. ورغبتي هذه لا تجعلني أتنازل عن فنياتي الشعرية والأدبية.. وإلى أرقى ما وصل إليه الشعر العربي والعالمي. وشخصيًا أعتبر تجربتي الشعرّية هي نتاج لمعاناتي وموقفي من الظلم وتوقي إلى الحرية. إضافة إلى ثقافتي المتنوعة ونهلي من الشعر العربي عبر عصوره وإعجابي بالشعر العربي الجاهلي والقصائد المتميزة والمعلمة عبر عصوره كالمعلقات ليس في جاهلية العرب (فأنا أعتبر لكل شاعر كبير معلقته كالسيّاب ومحمود درويش وأمل دنقل ومحمود السيد ونزيه أبو عفش – رغم خيبتي من مواقفه تجاه ثورتنا وسقوطه وسقوط أدونيس وغيرهما من كتاب وفنانين تواطؤوا على دم شعبنا وانحازوا للجلاد..).
وأنا أكتب لنفسي أولاً لأن الشعر معادل وجود ولأن الفن عمومًا هو الإبداع الذي يؤكد جدارة الوجود والحياة معًا وهو ما يرفعنا عن الاستهلاك والبهيمية.. وإني أؤكد بأن الحياة والوجود موقف.. وأن أمسّ بشعري شعبي وقضاياه وأن أكون مع شعبي في الدفاع عن هويته وحريته ووجوده.. وأن يكون لي مشروعي الذي هو مشروع شعبي السوري وهو الحب والحرية وتحرير فلسطين التي لا حياة ولا وجود ولا نهوض ولا تحرر للعرب وللسوريين بخاصة إلا بتحررها وهي قلب سوريا القديمة”.
______
*( العرب اليوم)