ليشتنشتاين..نجم في سماء ‘البوب آرت’


*حميد زناز

في تلك الظهيرة الباريسية المشمسة من بداية يوليو/ تموز كان مركز جورج بومبيدو، بل منطقة بوبور كلها في الدائرة الرابعة تعجّ بمحبي روي ليشتنشتاين (1923 – 1997)، ذلك النجم اللامع في سماء “البوب آرت”، وربما يعود هذا الإقبال الجماهيري إلى خلو المجموعات الفنية الفرنسية من كثير من أعماله.

“إنه أهم حدث ثقافي في باريس لهذا العام”، قالت سيدة باريسية كانت أمامي وأنا على بعد أمتار من “الغاليري 2″، حيث تعرض أعمال ناحت “الرأس السريالية” وراسم “قرية الصيادين”، وعلى اتفاقي التام معها أجبت: ربما، لأضع حدا للحديث إذ لا أحبذ أن أعلق ولا أسمع ما يقال قبل الوقوف وجها لوجه مع الــ140 عملا والتي من بينها 46 منحوتة و30 لوحة، بعضها يعرض لأول مرة. ولئن سبق عرض بعض إبداعاته في باريس ابتداء من سنة 1963 في غاليري سونابند، فحقيقة هذا هو أول معرض استعادي تحتضنه العاصمة الفرنسية لأعمال الفنان الأميركي الذائع الصيت، والذي سمح للجمهور الفرنسي الولوج إلى عالمه الخاص لأول مرة (من 3 يوليو/ تموز إلى 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضيين).

بحث دؤوب
من أول وهلة يجد الزائر نفسه في صلب الموضوع الليشتنشتايني، أسلوب واضح جذاب للعين بألوانه الصاخبة أحيانا والباردة أحيانا أخرى. رسم ونحت ونقش وطلاء واستنساخ، تعدّد فعال سرعان ما يصل تأثيره إلى الذهن ويولد شعورا هو بين الحركة والثبات، بين السذاجة الظاهرة والعمق الضمني في آن.
فنان اهتمّ في نهاية الأمر بضربة الريشة والخطوط والألوان أكثر من اهتمامه بالشيء الذي يرسمه. من الأشياء المصنعة الملونة بالأسود والأبيض وصولا إلى إعادة قراءة كاتدرائية موني ومستحمات بيكاسو، نحن أمام بحث دؤوب عن الشكل، عن التجريب، عن مادة ما قابلة للاستغلال الفني.
ومما زاد الرؤية وضوحا تلك السينوغرافيا الراقية التي استغلت ضيق مساحة المعرض في تقريب الإبداعات من بعضها البعض ومضاعفة إبراز إنسانيتها وعمقها المعرفي.
وسرعان ما يشعر الزائر للمعرض وصاحب العين المدققة بمدى الاضطراب الذي أحدثه ليشتنشتاين في الفن التشكيلي المعاصر مستندا على الثقافة الشعبية من جهة ومن جهة أخرى على درايته الكبيرة بتاريخ الفن المتحفي، من دولاكروا إلى سيزان.
وهو ما يبدو في ذلك الحس التواصلي المباشر اعتمادا على الصورة، كما يظهر جليا في رائعته الشهيرة “وااام”. وربما ما ينفرد به هو تطويره لأساليب تقنية جديدة من أجل إعطاء مظهر ميكانيكي لأعماله الفنية ولا سيما تلك الخطوط البارزة وتلك النقاط الدقيقة والتي أصبحت تكبر شيئا فشيئا مع تتابع الإبداعات، وهو ما نراه مجسدا في “الفتاة الشقراء” مثلا. بالإضافة إلى تجريبه لكثير من المواد مثل الطلاء الزجاجي.
قصص مصورة
بدأ ليشتنشتاين في خمسينيات القرن الماضي تصويريا فجا ثم أصبح تعبيريا مجردا. وفي الستينات، وبالذات في سنة 1961، انتقل مع لوحته الشهيرة ”انظر ميكي” إلى أسلوب آخر في العمل، إذ بدأ يميل إلى انتهاج المحاكاة التكبيرية والتحويلية للقصص المصورة والمادة الإعلانية المتنوعة ومحاولة التعبير من خلال ذلك عن روح الحضارة الصناعية التجارية.
وليس من الغريب أن يقف الزوار طويلا أمام هذه اللوحة التي تمثل منعرجا كبيرا في حياة ليشتنشتاين الإبداعية، بل كانت البداية الفعلية لفرادته وأصالته وهويته الفنية. كان ينتقي الصور ويقوم بتكبيرها وإعادة تأطيرها وتشكيلها على اللوحة ويحاول أن يخلق من كل ذلك وحدة باستعادة النسيج الصناعي، ودون تعديل للمنظر الأصلي لما ينتقي ويقوْلب من جديد.
في المعرض مجموعة من اللوحات بالأسود والأبيض أنجزها ما بين 1961 و1965، تمثل أشياء مصنعة معزولة على خلفية محايدة تدفع بالتبسيط والتمثيل إلى حدوده القصوى.
ونقرأ على الجدار روي ليشتنشتاين يقول بأن آلان كابرو أفهمه أن لا حاجة لأعماله بأن تشبه الفن أو ذلك الخليط من الألوان المعدّلة والتي يعتبرها الناس كفن: “أنا كنت أرغب في قول أشياء مختلفة، لم يسبق لأحد قولها. ويبدو لي أن أحسن طريقة للوصول إلى هذا المبتغى هو إدخال الجانب الصناعي إذ العالم يشبه هذا في النهاية”.
وفعلا فنحن نستشف من أعماله ذلك الإعجاب الذي يكنه لقوة الصور التجارية وقوالب الثقافة الأميركية وقدرتها على تحويل الرسوم إلى أيقونات. وانهمك فترة في إبداع لوحات انطلاقا من أعمال لبيكاسو وسيزان وغيرهما.. ولكنه كان استحضارا لموضوع الأعمال ومادتها وإلباسها روحا أخرى كما نلاحظ في “كاتدرائية روان” المستوحاة من لوحة موني الشهيرة. وكان يعتبر ذلك كمن يستعير نغما موسيقيا شعبيا من أجل إدماجه في عمله التركيبي الذاتي.
ونتمتع في المعرض بأعمال أخرى مستلهمة من المدرسة المستقبلية والتكعيبية والسريالية ومن الانطباعية الألمانية، وهي لوحات وأشكال وألوان مبسطة تحاكي مجموعة من الرسامين، وتقدم نظرة سريعة تكاد تكون مرحة عن مرحلة من تاريخ الفن، ولكن مختصرة في كليشيهاتها.
وربما تكمن قوة فنه أيضا في ذلك الموقف المتميز من الفن والحياة عموما والذي يطبع كل عمله الفني، والمتمثل في ذلك الشكل من المسافة المسلية التي تركها بينه وبين الأشياء، إذ كان نقديا صارما دون أن يسقط في عدمية جذرية، وهو ما يبدو أكثر وضوحا في لوحاته التأملية في نهاية حياته والتي احتلت حيزا مهما في المعرض. وإذا كان لا بد من الاعتراف بأنه فنان كلاسيكي فبإعادة قراءته للحركات الطليعية، غامر صاحب “الفتاة النائمة” خارج فلسفة القرن العشرين الفنية، وبهذا يكون ربما أول فنان تشكيلي ما بعد-حداثي.
________
*( العرب)

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *