كل شيء عن مهرجان المدينة القرميدية



اختتمت مساء السبت الماضي الدورة الثالثة عشرة لمهرجان مراكش السينمائي (29 تشرين الثاني – 7 كانون الاول). تُوِّج الفيلم الكوري الجنوبي “هان كونك جو” لمخرجه لي سو جين بجائزة “النجمة الذهبية” التي نالها العام الماضي زياد دويري عن فيلمه “الصدمة” المستبعد من البلدان العربية. طالبة في المدرسة الثانوية تجد نفسها متورطة في قصة دنيئة تجبرها على تغيير المدرسة التي ترتادها. هذا ما يرويه الفيلم الفائز، وهو الاول لصاحبه (سبق أن نال جائزة في مهرجان بوسان).
من بين 15 فيلماً تسابقت في المسابقة الرسمية، كان على رئيس لجنة التحكيم مارتن سكورسيزي وفريقه اختيار عنوان وتوجيه الانظار اليه. التشكيلة المراكشية نالت رضا مخرج “الثور الهائج” الذي قال انه مطمئن لمستقبل السينما ما دامت الافلام بهذه المستوى. الخيار لا شكّ كان صعباً، فالأعمال المطروحة تنطوي على قدر معين من التنوع. مستوياتها متفاوتة وكذا بالنسبة للاتجاهات التي تفرعت منها هذه الأفلام التي ترتكز على الأصوات الجديدة. لا يمكن القبض على هذه الافلام من دون ان يتمرد بعضها على الاصابع. فالمسابقة المراكشية هي عموماً منصة لأفلام اولى او ثانية لم يُفسح لها المجال للانطلاق في مهرجانات كبيرة ككانّ او برلين. معظمها أعمال تنتمي الى تيار سينما المؤلف، بعضها تجارب غير مرضية او غير مكتملة العناصر، وبعضها الآخر ولد من خط سينمائي ينبغي تحريره من المعوقات.
من الأفلام التي يمكن ادراجها في هذا الاطار (اطار النوعية العالية): “ايدا” للبولوني فابيل فابليكوفسكي الذي يأتينا بصيغة حكائية مختلفة – بالأبيض والأسود البديعين – محورها راهبة شابة تريد الالتحاق بالكنيسة الكاثوليكية، ولكن قبل ذلك تزور خالتها التي لم تكن تعرف بوجودها الى اليوم، ما يضعها ويضعنا في مواجهة حقائق مذهلة تتسرب من الماضي. هذا واحد من النماذج المختارة في مسابقة مراكش هذه السنة، مسابقة استقطبت أفلاماً من كوريا وأسوج واليابان والمملكة المتحدة وايطاليا واسبانيا، الخ. هناك ايضاً فيلم من طراز “تحيا الحرية” للايطالي روبرتو اندو الذي يستبدل في فيلمه هذا، أميناً عاماً لحزب معارض بأخيه، لقول بعض الحقائق عن السياسة وما يدور في كواليسها من أمور تراجيكوميدية. والى ذلك نجد ايضاً “شَعر قبيح” للفنزويلية ماريانا روندون المتمحور على صبي في التاسعة من عمره.
بيد ان ما اعتُمد كأفلام مغربية في المسابقة هو الذي صار محلاً للاشكال منذ سنوات في المهرجان. “هل هذه الأفلام تمثل فعلاً السينما المغربية؟”، بهذه الجملة الديماغوجية يبدأ أعداء المهرجان (هم ليسوا قلة) بتسجيل اعتراضهم على ما يجري ضمه من افلام مغربية الى التظاهرة السينمائية الاهم في البلد. كأن الأفلام الايطالية في مسابقة البندقية تمثل السينما الايطالية، وكذا بالنسبة للأفلام الألمانية في برلين والأفلام الفرنسية في كانّ (المهرجان الذي يحظى في كثير من الأحيان بانتقادات مشابهة لتلك التي نراها في مراكش). فمنذ فترة، نلاحظ انه بدأت تتكون تحت اقلام بعض المغاربة نزعة شوفينية كانت سابقاً سمة بعض الأقلام المصرية التي تكتب عن السينما من زاوية وطنية قومية متعصبة.
في الحديث عن السينما المغربية، يتغاضى هؤلاء عن حقيقة انه لا يبقى هناك الا كمشة أفلام جيدة تعدّ على اصابع اليد الواحدة من اصل 20 تُنتج خلال عام واحد. مهرجان مراكش مهرجان دولي ذو همّ كوني في زمن تداخل الثقافات، ولا تنحصر مهمته في دعم السينما المغربية ولا أي سينما دون سواها، بل يشتغل على اعادة الناس الى الصالات المظلمة لمشاهدة أفلام قليلة العرض والانتشار، في بلد يصعب فيه انجاز تلك المهمة بسبب القدرة الشرائية وتقلص الصالات والقرصنة. على الرغم من ذلك، فالمهرجان يمنح ارضا للانتاج المحلي، من خلال ادراج فيلمين مغربيين في المسابقة وتخصيص حيز يدعى “نبضة قلب” تضمن هذه السنة اربعة أفلام مغربية، أحدها فيلم “هُم الكلاب” لهشام لعسري الذي سبق ان وقّع فيلماً كبيراً عنوانه “النهاية”، وها هو يواصل تجربته المميزة هنا مع حكاية معتقل يخرج من السجن بعدما قبع فيه لمدة 30 عاماً.
اذاً، كيفية الاعتراض على تمثيل السينما المغربية في المهرجان، على الرغم من أهمية خوض النقاش فيها، ليست دائماً بريئة، بل تتفرز نتيجة صراعات وتجاذبات مرتبطة بإصرار بعض النقاد على اعتبار “مراكش” مهرجانا كولونياليا ينظم في باريس وينفذ على ارض المغرب (التهمة التي رفضها نائب الرئيس المنتدب نور الدين الصايل شارحاً تركيبة المهرجان المستند الى تعاون مغربي فرنسي)، ولا بد ان يكون هناك كنتيجة مباشرة لهذا الأمر، تلاعبات ومؤامرات شيطانية تحاك في الكواليس ضد فقراء العشوائيات واللغة العربية.
بيد ان النقد شيء و”أبلسة” المهرجان في كل ما يقوم به شيء آخر، وخصوصاً ممن لم تطأ اقدامه “قصر المؤتمرات” في شهر كانون الثاني من كل عام، وهو شيء بات مملاً ومثيراً للسخرية من فرط تكراره وعدم مقارعة الحجة بالحجة. “المهرجان فرنسي كثيراً”، يقول صحافي يغطي المهرجان للمرة الاولى، مذكّراً برد الملك على موزار: “ثمة الكثير من النوتات في الموسيقى التي تؤلفها”. أياً يكن، على الادارة ان تدخل الاصلاحات في بعض الامور التنظيمية (ولاسيما لجعل الناس يشعرون بأن هذا المهرجان يعنيهم)، ولكن على الصحافة المغربية في المقابل أن تعيد النظر في نفسها وفي اهداف وجودها في تظاهرة ثقافية، مثلما بات ملحاً على الصحافة السينمائية العربية ان تعيد النظر في مناهج النقد المتبعة وفي المعايير التي تطبق لتقييم المهرجانات.
الى ذلك، أكثر ما اثار اعتزاز منظمي المهرجان هذه السنة، هو عدد الوافدين من قامات سينمائية كبرى الى المدينة القرميدية. “حتى في كانّ، لا يأتون بلجنة تحكيم كهذه”، قال لي احد العناصر الذي يهتم بالصحافة الأجنبية في حديثنا عن الجهة المكلفة اسناد الجوائز للفائزين. فلجنة التحكيم، الى تنوع اعضائها، تكونت من ارفع ما جيء به في لجنة واحدة ضمن أي مهرجان عربي: التركي فاتي أكين، الأميركية باتريشيا كلاركسون، الفرنسية ماريون كوتيار، المكسيكي أمات اسكالانتي، الايرانية غولشيفته فرهاني، الهندي انوراك كاشياب، الكوري الجنوبي بارك تشان ووك، الايطالي باولو سورنتينو (بالاضافة الى المغربية نرجيس النجار!). كل هؤلاء تحت جناج مارتن سكورسيزي الذي كان قرر الا يترأس أي لجنة تحكيم لو لم يتمكن المهرجان من اقناعه بالعزوف عن هذا القرار.
مارتي “قصة كبيرة” في هذا المهرجان. فهو زار المدينة مراراً، وصوّر في المغرب مرتين، وتربطه به أكثر من مجرد علاقة ضيف بمستضيف. انه فنان مرحب به من ارفع المناصب، ينزل في فندق “روايال منصور” خلافاً لبقية اعضاء لجنة التحكيم، وله حتى يد في التوسط مع شارون ستون كي تحضر حفل تكريمها ليلة الافتتاح. بعض الذين اصطفوا الى جانبه في لجنة التحكيم، كانوا من أشد المعجبين به في عمر المراهقة، مثل فاتي أكين الذي أخبرني بأن وجوده مع مارتي في لجنة تحكيم واحدة عبارة عن حلم. المكرمون أيضاً ليسوا أبناء اليوم. فواحدة منهم جولييت بينوش التي قدمت أخيراً دور عمرها في “كاميّ كلوديل” لبرونو دومون، والآخر هيروكازو كوريه ايدا، المخرج الياباني الذي قدّم اخيراً في كانّ فيلمه الجميل “كالأب كالإبن”، بالاضافة الى المخرج الارجنتيني فرناندو سولاناس، المناضل السياسي الذي حمل الكاميرا كما حمل غيره القذائف والصواريخ.
في عداد المكرمين أيضاً الممثل المغربي محمد خيي، الذي يا للغرابة قال ذات مرة انه “ليس لديه فرق بين المسرح والسينما والتلفزيون”. كل هؤلاء ليسوا من رموز الماضي الغابر وليسوا من الذين خفت نجمهم فصار الاتيان بهم سهلاً، كما كانت تفعل مهرجانات أخرى كدمشق أو القاهرة. فبينوش لا تزال في ذروة عطائها ولا يزال كوريه ايدا في قمة امكاناته الاخراجية ولا يزال نيكولاس ويندينغ رفن أو جيمس غراي أو برونو دومون (الثلاثة شاركوا في ما يسمّى “ماستركلاس”) من السينمائيين الذين لا يزالون تحت الاضواء، لا بل أن بعضهم كسكورسيزي يقف على بُعد ايام قليلة من مباشرة الحملة الترويجية لفيلمه الجديد “ذئب وول ستريت”. على مسافة ليست ببعيدة عن بدء العمل على فيلمه “الايرلندي” الذي سيجمع مجدداً روبرت دو نيرو (تاسع تعاون مع مارتي) بآل باتشينو. في مقابل الهرج المعتاد من المدعوين الفرنسيين الذين لا يأتون سوى للبهرجة واثبات الوجود، ومنهم من أفل نجمه منذ زمن طويل، ليس مفاجئاً أن نرى في مراكش احد اقطاب الانتاج في العالم، هارفي واينستين، مؤسس “ميراماكس”، وقد جاء لمواكبة عرض فيلم “فرصة وحيدة” لديفيد فرانكل. عباس كيارستمي هو الوحيد الذي تغيّب عن اللقاء لأسباب لم نعرفها، اذ كان منتظراً ان يلقي “درس السينما”.
من التكريمات التي شرعت الفضاء المراكشي على بقع جغرافية بعيدة، تلك التي خُصصت للسينما الاسكندينافية: نحو 50 فيلماً من الدانمارك وأسوج وفنلندا والنروج عرضت في هذه الخانة، ظللتها احدى كلاسيكيات السينما، “آلام جان دارك” (1928) لكارل تيودور دراير، مع الوجه المضيء لماريا فالكونيتي. ولم ينس المهرجان في هذا البرنامج الالتفات الى الرمز الأكبر لتلك السينما، أي انغمار برغمان، من خلال عرض أعمال له منها فيلمه الأخير “ساراباند”. في هذه المناسبة، وصل الى مراكش وفد اسكندينافي من نحو 40 شخصاً برئاسة بيل أوغوست (صاحب “سعفتين” في كانّ) وكان من ضمنهم نيكولاس ويندينغ رفن الذي قدّم معرفته السينمائية في لقاء مع الجمهور المغربي، واتيحت لـ”النهار” محاروته في شأن فيلمه الجديد “وحده الله يغفر” – حالياً في صالة “متروبوليس”. من الوافدين أيضاً من تلك المنطقة: توبياس ليندهولم، صاحب “اختطاف”، احد أفضل أفلام العام الماضي. فكانت هبة رياح شمالية ناعمة على هذا المهرجان الذي شكا من بعض الجفاف المبكر هذه السنة في البقعة التي حضنته، ساهم في تعزيزه اقفال فندق “منصور الذهبي” لأعمال الترميم، فتوزع الضيوف على الفنادق المتوافرة في المدينة ما قطع حبل التواصل بينهم.


– النهار

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *