إبراهيم الملا
حافظ مهرجان دبي السينمائي في دورته العاشرة على شغفه وجاذبيته الفنية، ورهانه كذلك على تقديم مفاجآت سينمائية لامعة لمتابعيه ورواده في كل دورة جديدة من دوراته المتلاحقة، واستطاع هذا الحدث الكبير أن يرفع وتيرة الإبهار فيما رأيناه حتى الآن ونحن في منتصف أيام المهرجان الذي يختتم في الرابع عشر من شهر ديسمبر الجاري، ولم يكن هذا الإبهار مقتصرا على حدود الاحتفاء بمناسبة مرور عشر سنوات على انطلاق هذا التجمّع السينمائي الدولي المهم، والذي تقاطع مع نجاح دبي والإمارات في استضافة معرض إكسبو 2020، ولكنه امتد ولامس طبيعة ونوعية الأفلام المشاركة برصيد كبير وصل إلى 174 فيلما في الفئات الرئيسية الثلاث وهي الأفلام الروائية الطويلة والأفلام القصيرة والأفلام التسجيلية، مع حضور مكثف للسينما العربية التي تجاوزت أفلامه مشاركتها سقف المائة فيلم، وهو رقم يؤكد ـ حسب ما أشار إليه مسعود أمر الله آل علي، المدير الفني للمهرجان ـ على أن دبي السينمائي أرادها أن تكون سنة عربية بامتياز، حيث اختار المهرجان ومنذ انطلاقته في العام 2003 أن يمتلك قلبا عربيا وروحا دولية.
حضور وغياب
وجاءت مشاركة الأفلام الخليجية والإماراتية ضمن هذا النسيج البصري العربي، في برنامجين منفصلين هما: “مسابقة المهر الإماراتي”، وبرنامج “أصوات خليجية”، وتضمّنت المسابقة الإماراتية 15 فيلما في أول عرض عالمي لها، منها أربعة أفلام تسجيلية هي: “أحمر أزرق أصفر” للمخرجة والشاعرة نجوم الغانم، و”أنشودة العقل” لأمل العقروبي، و”البيت متوحد” لمنصور الظاهري، و”حنين” لناصر اليعقوبي، مع مشاركة فيلمين استعانا بتقنيات التحريك أو الأنيماشن وهما: “هو والفتاة” للمخرج محمد فكري، و”الإيمان بالحب” لعلوية ثاني الذي جمع بين التحريك والنسق الدرامي، أما الأفلام الروائية القصيرة المشاركة فهي: “كتمان” للمخرجة والفنانة التشكيلية منى العلي، و”بحر” للمخرجين عبدالله الجنيبي وحميد العوضي، و”13:37” للمخرج عيسى السبوسي، و”لا تحكم على موضوع من خلال الصورة” لعلي مصطفى، و”لا تخلّيني” لخالد المحمود، و”الجارة” لنايلة الخاجة، و”الليلة” لخالد علي، و”حالة غروب” لمصطفى عباس، و”نفاف” لحمد الحمادي.
واحتوى برنامج أصوات خليجية على ثمانية أفلام هي: “تشولو” للمخرجة العمانية مزنة المسافر، و”حلم” للمخرج الكويتي فيصل الدويسان، و”ليل بغداد” للعراقية فرات الجميل، و”حورية وعين” للسعودية شهد أمين، و”ثلاثة” للإماراتية نايلة الخاجة، و”وهذه ليلتي” للفنانة والمخرجة العراقية آلاء شاكر، و”مزرعة يدّوه” للمخرج الإماراتي أحمد زين، و”رحل النهار” للعراقي زركار حسين.
وكان ملاحظا غياب الفيلم الروائي الإماراتي الطويل من أقسام ومسابقات المهرجان المختلفة، وهو ما يضع علامة استفهام بارزة حول أسباب تأخر هذا النمط السينمائي عن المشهد المحلي الحافل بتجارب قصيرة وتسجيلية مهمة، حضر الفيلم الإماراتي الطويل وعلى استحياء في الدورات السابقة لمهرجاني دبي وأبوظبي السينمائيين من خلال أعمال تعد على أصابع اليد، ولكنها ظلّت أعمالا محصورة في نطاق التجريب واختبار الأدوات ولم تصل للجودة والاحترافية والقدرة على منافسة التجارب العربية المتقدمة في هذا السياق.
أسباب وأمنيات
“الاتحاد الثقافي” نقل هذا التساؤل الملحّ، وهذه الحيرة النقدية المتعلقة بأسباب غياب الفيلم الروائي الإماراتي الطويل إلى مسعود أمر الله المدير الفني للمهرجان، حيث مازال حلم عرض فيلم محلي في حفل افتتاح المهرجان ماثلا إلى اليوم، رغم الطفرة الفنية والرصيد المعرفي والثقافي والتسويقي الذي شهدته ثلاث مهرجانات سينمائية كبرى في المكان وهي دبي وأبوظبي ومهرجان الخليج السينمائي، ويجيب أمرالله على هذا التساؤل بالإشارة إلى أن وجود الرغبة في ولادة فيلم محلي طويل بمواصفات احترافية وبمقاييس فنية عالية هو مطلب جميع السينمائيين هنا، مضيفا بأن هذا التساؤل هو جزء من استغراب عام طرحه النقاد والضيوف حول مغزى إقامة مهرجانات سينمائية كبرى في مكان يخلو من صناعة سينمائية وحركة إنتاج متواصلة، وقال أمر الله عطفا على هذه التمنيات المشروعة: “نحن كمشاركين فعليين في إدارة هذه المهرجانات لا يمكن لنا أن نتوارى خلف هذا السؤال المتكرر، ولا يمكن لنا أن نضع الحصان خلف العربة، لأن هناك مقومات يجب أن تتوفر قبل أن نحاكم أنفسنا بسبب غياب هذا النمط من الأفلام التي تحظى بنصيب أوفر من التغطية الإعلامية، وبإمكانية أكبر في التعريف بالسينما الإماراتية في المحافل الدولية”.
وتحدث أمر الله بتفاؤل عن مستقبل الفيلم المحلي الطويل قائلا: “المسألة هنا بحاجة لتأنّ، خصوصا أن الأفلام الإماراتية الطويلة التي عرضت في الدورات السابقة، رمت الحجر في الماء، واستطاعت أن تحرك الراكد في المشهد الروائي، رغم أنها تجارب بحاجة لمراجعات ولنظرة نقدية ذاتية، وعلى المخرجين الذين عملوا على هذه الأفلام أن ينتبهوا لحسابات دقيقة ومعايير غائبة عنهم تتعلق بكيفية صياغة سيناريو متماسك للفيلم الطويل، وكذلك معرفة خبايا وتفاصيل الإنتاج والتسويق والتوزيع، والإلمام بالتقنيات والاستعانة بالخبراء، هذا بالإضافة إلى الحماس والشغف والبحث والموهبة الفردية، وهي عناصر لا يمكن اكتسابها من دون رغبة ذاتية ملحّة ومتواصلة عند المخرج”.
وأكد أمر الله على أن المشاريع الحالية والورش التخصصية وفرص الدعم المادي والتعرف على آليات الإنتاج والتوزيع التي يقدمها مهرجان دبي للمخرجين الإماراتيين الراغبين للتصدي للفيلم الروائي الطويل، هي جهود ستظهر نتائجها دون خلال الأعوام الثلاث القادمة، والتي يمكن خلالها أن نشير وبثقة إلى ولادة فيلم إماراتي مؤهل للعرض في ليلة الافتتاح، والمشاركة كذلك في المهرجانات الدولية كأعمال تستحق الالتفات لها ورصدها فنيا ونقديا ضمن منظور احترافي ومتجاوز لأخطاء وعثرات السنوات التأسيسية الأولى.
ويبدو أن هذه النظرة التفاؤلية التي يطرحها سينمائي محنّك مثل مسعود أمر الله ـ الذي يعدّ من أهم المساهمين في ولادة حركة سينمائية إماراتية طموحة ومبكرة مقارنة بالدول المجاورة في المنطقة ـ هي نظرة نابعة من الرصيد الفني اللافت الذي راكمته الأفلام الروائية القصيرة والتسجيلية في مشاركاتها المختلفة محليا وعربيا ودوليا خلال الفترة الماضية، الأمر الذي انعكست تأثيراته الإيجابية على الأعمال المطروحة في الدورة الحالية من مهرجان دبي السينمائي، حيث باتت المنافسة بينها أشد وأكثر احتداما مقارنة بالسنوات السابقة، عندما كان يشار وبسهولة إلى الأفلام الفائزة، حتى قبل إعلان النتائج النهائية في مسابقة المهر الإماراتي.
عروض وتجارب
وهنا عرض لبعض الأفلام القصيرة والتسجيلية التي عرضها المهرجان في دورته الحالية وأفصحت عن ولادة مواهب جديدة وعن أساليب ومعالجات مبتكرة لمخرجين سبق لهم التواجد والمشاركة المتواصلة منذ السنوات المبكرة من عمر المهرجان، مثل خالد المحمود ونايلة الخاجة ونجوم الغانم وعلي مصطفى.
ففيلم بعنوان: “لا تخلّيني” ـ وتعني في المفردة المحلية لا تدعني لوحدي ـ يقدم خالد المحمود حالة إنسانية خاصة تتشكل وسط بنية واقعية يحيك خيوطها السردية أناس مهمّشين، يكونون في الغالب ضحايا لأحكام خارجية يغلب عليها النظرة الإقصائية والوعظية والتي لا تتفهم طبيعة هؤلاء البشر الضعفاء المأسورين خلف آلامهم الصامتة وغير القادرين أيضا على التعبير عنها بحريّة ودون خوف من ردات فعل هذا الآخر الاستعلائي، أو من نظرات الأشخاص المتهكمين وغير المبالين بعذاباتهم العميقة، فيلم: “لا تخلّيني” من تأليف السيناريست الإماراتي المعروف يوسف إبراهيم الذي لا يفارق هنا منطقته الأثيرة التي تناول الشخصيات المهمشة بتعاطف ملحوظ، يلقي من خلاله الضوء على الفواصل الاجتماعية الصعبة التي تقحم هذه الشخصيات في عزلة مضاعفة تحتاج لمن يتسلل إليها ويحاورها بشفافية روحية، وبوعي داخلي يقترب من تفاصيل هذا الوجع.
يحكي الفيلم قصة فتاتين توشك إحداهما على فقدان بصرها بسبب داء السكري وتجابه بتعنيف وعبارات قاسية من والدها بسبب إهمالها لهذا المرض، بينما تعاني الفتاة الأخرى من الفقدان المؤقت للذاكرة وتحتاج لعملية دقيقة في المخ، تلتقي الفتاتان صدفة بنظرات حائرة خلف زجاج السيارة، قبل أن يلتقيا مجددا على فراش المستشفى، بعد أن يخبرنا الفيلم بأنهما كانتا في ذات الفصل الدراسي أثناء طفولتهما البعيدة، وأصبحتا الآن من خلال الصدف والأقدار المتشابكة رهينتان لوضع متشابه يخفي في طياته الكثير من الذكريات المتروكة والذائبة مثل قطع السكر في هدير الحياة ومرارتها.
وتقدم المخرجة والفنانة التشكيلية منى العلي في فيلمها: “كتمان” مشاهد مشغولة بعناية وافتتان بصري وتعمل بقصد فني ضد عنوان الفيلم، حيث نرى صبيا يجمع الزجاجات الفارغة ويعيش عزلته الخاصة بعيدا عن أصدقاء الحيّ ومشاكساتهم المؤذية، كي يطلق صرخته وتأهاوته في الزجاجات فيما يشبه طقسا يوميا، قبل أن يحكم إغلاقها وغرسها في رمال الساحل كشواهد وتذكارات لآلامه التي لم يستطع البوح بها لأحد، وتستثمر المخرجة خبرتها في إنتاج اللوحات الفنية لتمنح الفيلم ما يستحقه من تناغم حسي يتجسد في مفردات تكوينية وجمالية ومن دون حوارات أو مونولوج داخلي، بحيث تعمل الصورة وحدها على تعويض فراغات النص، الذي لن يكون بأية حال أكثر قدرة على نقل كثافة الصمت بهذه اللمسات الرهيفة التي قدمتها كاميرا المخرجة منى العلي بإحساس يوغل عميقا في رمال الطفولة المهملة وسط تقلبات الزمن.
وفي تتبع مشابه لهذا المسار الشفاف والمتقاطع مع عوالم الطفولة وتداعياتها الذهنية الصافية، يقدم لنا المخرج الشاب حمد الحمادي في فيلمه: “نفاف” قصيدة بصرية حول دهشة الاكتشافات الأولى لطفلة تستيقظ من نومها على وقع “النفاف” وهي مفردة محلية تصف القطرات الأولى والخفيفة لزخّات المطر، الأمر الذي يدعوها للخروج من غرفتها للتعامل مع هذا الضيف السماوي بقدر مضاعف من الكرم الداخلي والانتشاء الروحي، اللذين يعملان بخفة ولطف على صياغة عالم من الرؤى والتشكيلات والعفوية الناطقة بالبراءة والبهجة والقادمة أيضا من فراديس الحلم، بحيث يمتزج الواقع هنا مع لعبة المخيلة، وتتلاشى الفواصل بينهما، عندما نرى الفتاة وهي تخرج من المنزل وتلامس المياه المتجمعة لتوهّا في الساحة الخارجية، بينما يقترب منها طفل على دراجته الهوائية ويأخذها في نزهة عشق وتجوال حميمي يتخطى كل الحواجز الخارجية المصطنعة كي يرسم الطفلان معا لوحة جدارية لشجرة يانعة تتناثر تحتها التفاحات الخضراء والتي نراها تفترش ظل الشجرة وظل الجدار، وكأنها تؤبّد هذا المطر العابر بكثير من العرفان والتقديس الملائم لهكذا وانجذابات نحو مشهديات مفتقدة تستحق أن توثقها سينما الشعر، وشعر السينما.
وفي عمل روائي يجمع بين تقنية التحريك والسرد الروائي الواقعي، تقدم المخرجة علوية ثاني فيلما ناطقا بالإنجليزية تحت عنوان “الإيمان بالحب” تتناول فيه واستنادا إلى العنوان الصريح والمباشر للفيلم إلى إعادة اكتشاف الذات واتخاذ القرار الحاسم حول شريك الحياة المناسب الذي يمكن له أن يضيف طعما مختلفا للوجود بحيث تتحول هذه المشاركة إلى تواصل مختلف يتجاوز مفهوم الحب المرتبط بالإعجاب فقط، إلى مفهوم أعمق يؤدي إلى الإيمان بهذا الحب، والتضحية والإخلاص من أجل الحفاظ على وهجه في مقابل كل الرياح الاجتماعية العاصفة والمعاكسة، تميز فيلم علوية ثاني بتقنيات الغرافيك الموظفة جيدا، وبكادرات بصرية قارئة لحالات الشخوص وترددها في اتخاذ القرار الحاسم في اختيار الطرف الآخر، ولكن بدا أن السيناريو كان بحاجة لعمل أكبر لنقل الشحنة الدرامية إلى الذروة، بينما كان أداء الممثلين متفاوتا بين مشهد وآخر، وكان الأداء العفوي طاغيا وغير متحكما به، مما أثّر على الطابع الدرامي لعمل قصير، كان بحاجة لنوع من التكثيف وربط خيوط الحكاية في قالب متماسك وأكثر انتماء لفكرة الفيلم.
43 لغة
حقق مهرجان دبي السينمائي الدولي، نقلة نوعية في دورته الأخيرة، من خلال تنويع وتوسيع فعالياته وعروضه. فقدم المهرجان عروضاً لـ 174 فيلماً، من 57 دولة، ناطقة بـ 43 لغة، يتضمّن ذلك مشاركة أكثر من 100 فيلم من العالم العربي، وإقامة حفلات خاصة، واستضافات لرموز صناعة السينما العربية والعالمية، وجلسات حوارية وندوات.
وأضاف المهرجان هذا العام، برنامجاً تحت عنوان “إرث عراقي: أطفال المستقبل”، بمشاركة مجموعة من المخرجين المستقلين التابعين لـ”مركز السينما” الذي أسسه اثنان من المخرجين العراقيين، هما محمد الدراجي وعدي رشيد، في أعقاب الاجتياح الأميركي للعراق.
سينما الشغف
أصدر مهرجان دبي السينمائي كتابا حمل العنوان: “سينما الشغف” تضمن دراسة تاريخية ونقدية للسينما العربية وفق قائمة أهم 100 فيلم عربي”، بقلم محرره الناقد والكاتب زياد عبدالله، الذي تناول بالتحليل والتأريخ ملامح السينما العربية من خلال الأفلام التي تم اختيارها ضمن القائمة، من خلال مقاربتها فنياً وسياسياً واجتماعياً، بالإضافة إلى معالجة نقدية لكل فيلم من أفلام المائة شارك فيها عشرون من النقاد العرب، متضمنا بيانات تاريخية حول الإنتاج وخلفياته الابداعية التي وقفت وراء خروج تلك الأعمال وصعود نجمها لتبقى ضمن روائع التراث السينمائي العربي.
– الاتحاد الثقافي