علي السوداني*
أعلم تماما، أنَّ الكتابة مثل عادة سريّة، لا تحتملُ البصّاصين والمتنطّعين، لكنني صمّمتُ اليوم على حملي وحقيبتي والقلم والقرطاس، صوب مقهى جميلة راكبة فوق طلة من طلّات جبل الياسمين. بي الليلة رغبة عظيمة لإنتاج قصة. لم أكن زبونا مؤبدا من زبائن المقهى، حتى أنّ النادل الضخم، لم يرسم على وجهه عشر ابتسامة أو بعض راحة، مع أنني دلقتُ عليه واحدة من النكات، التي لو أسمعتها لكائنٍ يتقدم بثبات صوب دكة موت، لَنَطَّ على حبل المشنقة، وصيّرهُ أرجوحة عيدٍ، من قوة البهجة تكاد تغنّي.
ثمة قطعة شوكولاتة بورجوازية إن وضعت كما مرافق إجباريّ صحبة فنجان القهوة الكبير، وحتى يكتمل مشهد البهجة والحبور والدهشة، استللتُ من بطن حقيبتي العزيزة، غليون الخشب المزيّف، وطسستُهُ بضمّة تبغٍ، هو من الصنف الذي يتباهى به سوّاق الشاحنات الطويلة، حال اندقاق مؤخراتهم الذاوية، فوق كرسيّ متهالك في حانة مسافرين مشمورة بطريق مظلم، أو قطّاع طرق مرحين. لا أدري إن كان هذا التوصيف دقيقا، أم أنني كنتُ شفتهُ عند أوشال فيلم كاوبوي، والآن أراني أنبشهُ من أخير الذاكرة. استوطنتُ طاولةً صغيرةً تأكل من الشارع، زاوية نظرٍ بمستطاعك أن تقنص فيها، حركة الكائنات السيّارة، وتفصيلات قد تستعملها في حشو وترميم ثنايا النصّ المنتظر على نار. ضربتُ بعود الكبريت حلقَ الغليون، وسحبتُ نفسا قويا وزفرتهُ قدّامي، فانرسمت لوحة غيلانٍ تتقاتل، ثمّ شفطتُ بصوتٍ مسموع، ربع فنجان القهوة، ولسببٍ لم أكتشفه حتى اللحظة المبروكة، صدرت عن طاولتي، متوالية سعالٍ مثل تلك التي تأتيك من غرفة الأب، وهو يتصارع مع أيامه المتأخرات.
بعد ساعةٍ من هذا الثبات على المنظر، نفد كوب القهوة، وتخلفت في صحنهِ، عضّة مؤجلة من قطعة الكاكاو. قبضتُ على غليوني البديع، بوساطة القواطع القوية، ونفثتُ عطر الدخان الشعبيّ، بوجه النادل غليظ القلب والجثة. يا إلهي، كم كرهتُ هذا السمين الذي كلّفَ الربَّ نصف طين الخليقة. لم أبصق بوجهه المتكاثر، ولم أترك فوق خدّهِ صفعة ثأر، ولم أقل له أن ثمة رائحة تنبعُ من جحر أبطيك، تشبه مزبلةً مغطّاة بتسع جثثٍ نافقات. لملمتُ حطام روحي ونثار حقيبتي وقلمي والوريقات البيضاوات غير المفضوضات بحرفٍ، وهبطتُ إلى الشارع الراقص كما مسرح فرجة. كان الهواء عذباً طيباً، ونداءات بائع ثمار الصبر التي يلوّنها بصيحة “ماعون الصبر بليرة” تجرّك من أرنبة خشمك العالي، شطر عربة الصبر الجميل. الطريق سالكة الآن إلى الدار، وعند أول رشّة نظرات رحيمات، على وجهَي الولدين الحلوين نؤاس وعليّ الثاني، تكون روحك قد تغطّت بدثار سميكٍ، من خلطة مشاعر يأسٍ وندمٍ وضحكٍ جوّانيّ، على فرمانك السخيف الذي سحَلَكَ سحلاً، كي تكتبَ قصة قصيرة في مقهىً.
في هدأة الدار المطمئنة، فرشتُ الورق، ورتّقتُ بياضهُ بما تيسّر من حروفٍ، كانت تتنزّلُ هذه المرة، بيسرٍ مبين.
-العرب