سيرة أحمد فؤاد نجم.. من رحم الشعب إلى الخروج على السلاطين


إيهاب الملاح


مات أحمد فؤاد نجم، وكلنا إلى تلك النهاية صائرون، لكن حدثا كموت الفاجومي لا يمر هكذا، ولا ينبغي له أن يكون، فلا الذي رحل “هين”، ولا الغياب “عابر”.. كثيرون كتبوا، وغيرهم كثيرون سيكتبون عن أحمد فؤاد نجم، فأربعة وثمانون عاما عاشها “الفاجومي”، أكثر من نصفها كان ملء السمع والبصر، مشاكس مناقر ملاعب، “ما سابش حد ما نكشوش.. ولا هنّى حاكم بكرسي.. ولا جماعة بسُلطة”.. سفير الفقراء ولسانهم، “العمل الرّدي” للحكام والساسة المستبدين.. ومين ما يعرفش “الفاجومي” الذي عرف بعم “نجم”، أو كما هو مثبت في أوراقه الرسمية “أحمد فؤاد نجم”، لاذع اللسان عظيم الموهبة، المحب للحياة والدنيا والإنسانية، والمدافع عن الفقراء والغلابة وجماهير البسطاء.

رحل أحمد فؤاد نجم، الشاعر الإنسان، الحالة الفريدة والعجيبة في تاريخ الشعر، بالأخص شعر العامية في مصر، وفن الأغنية العريق، فالرجل عبر تاريخه الطويل وسنوات عمره التي ناهزت الرابعة الثمانين، ارتبط بنبض الشارع المصري والعربي، معبراً عن آلامه وآماله وأحلامه وأوجاعه وتطلعاته، واكتسب “نجم” صدقية كبيرة لم تتوفر لغيره من شعراء العامية المصرية على امتداد تاريخها العريض.

فهو “القطب الكبير” في الشعر العامي، واصل ما بدأه بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين، متألقا وسط كوكبة عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وعبدالرحيم منصور وحسين السيد ومرسي جميل عزيز.
لكن نجم اتسم بصفات أخرى لم تتأت لغيره، ومن خلالها كوّن مدرسته الخاصة في الشعر والغناء المصريين.

البعض يؤكد أن ثمة ما يغري دائمًا بالقراءة، وإعادة القراءة مجددا، في سيرة أحمد فؤاد نجم الشخصية ومسيرته الشعرية، فالشاعر الذي أقض مضاجع السلطة طوال عهدي عبدالناصر والسادات، ومن بعدهما مبارك وولده، ثم تصدى وهو الشاعر الذي تخطى الثمانين لجماعة فاشية دموية، وقف متحـديا وبارزهم بسلاح الكلـمة والسـخرية، ولم يستطيعوا عليه صبرا، ولم يملكوا إزاءه إلا السب والشتم والتكفير، لكـنه انتصر عليهم، وكان من الخــارجين في 30 يونيو الهاتفين “يسقط يسقط حكم المرشد”. 

بداية مبكرة


ولد نجم في إحدى قرى محافظة الشرقية (قرية “كفر أبو نجم” بمدينة أبو حماد) نهاية العقد الثاني من القرن العشرين (23 مايو 1929م).. وانطلقت قريحته منذ وقت مبكر فمارس الكتابة الشعرية التي جرّت عليه الكثير من المتاعب لنقده بعض الظواهر السياسية والاجتماعية ما أدى به إلى التردد الدائم على المعتقلات والسجون، ونظر إليه الكثيرون، مبكرا قبل ذيوع صيته وانطلاق شهرته، على أنه “أحد أهم شعراء العامية في مصر”، و”أحد ثوار الكلمة”، واسم بارز في الفن والشعر العربي على مدار تاريخه.

لم يكتب “نجم” شطرًا في قصيدة قبل بلوغه الثانية والثلاثين، وكان اكتشافه لملكاته الشعرية قد بدأ في السجن، الذي دخله لأول مرة في عام 1960 متهمًا في جريمة تزوير استمارات حكومية، وكان “نجم” قد عمل قبلها بأحد المعسكرات الإنجليزية وساعد الفدائيين في عملياتهم، بعد إلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية، ثم دعت الحركة الوطنية العاملين بالمعسكرات الإنجليزية إلى تركها فاستجاب “نجم” للدعوة وعينته حكومة الوفد كعامل بورش النقل الميكانيكي، وفي تلك الفترة سرق بعض المسؤولين المعدات من الورشة، وعندما اعترضهم اتهموه بجريمة تزوير استمارات شراء، ما أدى إلى الحكم عليه بـ3 سنوات سجنا، ليخرج بعدها في مايو 1962 لـ”حسن السير والسلوك”.

وفي السنة الأخيرة له في السجن اشترك في مسابقة الكتاب الأول التي ينظمها المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون (المجلس الأعلى للثقافة حاليا) وفاز بالجائزة، وبعدها صدر الديوان الأول له بعنوان «صور من الحياة والسجن»، وكتبت له المقدمة سهير القلماوي، ليشتهر وهو في السجن، وبعد خروجه من السجن عُين موظفا بمنظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية، وأصبح أحد شعراء الإذاعة المصرية، وسكن في غرفة على سطح أحد البيوت في حي بولاق الدكرور، بعد ذلك تعرف على الشيخ إمام في حارة “خوش قدم” ليكونا ثنائيا فنيا معروفا، هو الأشهر في تاريخ الثقافة المصرية والعربية، وأصبحت الحارة ملتقى المثقفين المصريين والمناضلين السياسيين.

ذاع صيت الشاعر أحمد فؤاد نجم كشاعر “ثوري” ذي تاريخ نضالي معروف عبر الأغنية والمواقف السياسية الملتزمة. قدّم “القصيدة الثورية” و”الأغنية الملتزمة” بقضايا الناس والفقراء منهم على وجه الخصوص، عقد صداقات مع الكثير من الفنانين، وكان من بين الأكثر قرباً إلى سندريلا السينما المصرية والعربية الراحلة سعاد حسني. واجه القهر الفكري والثقافي وأثبت هويته الثقافية العربية عبر التزامه بقضايا العرب أينما كان وبقي حديث الناس لعقود من الزمن. 

في فترة من الفترات، مال نجم إلى “القصيدة العاطفية”، وابتعد بعض الوقت عن القصيدة السياسية المهيجة، فغنى له عدد من المطربين والمطربات واتسمت أغنياته العاطفية أيضاً بحس سياسي كبير كشف عن نفسية الشاعر المرتبط بالأرض المصرية، فغنى له محمد الحلو “أهيم شوقاً” وغنت له زوجته السابقة المطربة عزة بلبع، وغنت له حنان ماضي من تلحين زوجها الموسيقار ياسر عبدالرحمن، وغنى له محمد منير “يا إسكندرية”، وكتب نجم كلمات مقدمة ونهاية حلقات مسلسل “زيزينيا” لأسامة أنور عكاشة وجمال عبدالحميد، من خلال صوت محمد الحلو المؤثر، في مصالحة من التليفزيون مع النجم المعارض دائماً والموافق قليلاً.

دفاعا عن الفقراء..


ولم يكن اختيار منظمة “النداء العالمي لمكافحة الفقر” للشاعر الشعبي الشهير أحمد فؤاد نجم سفيرًا فوق العادة للفقراء مفاجئًا له، فقد سبق هذا الاختيار ترشيحه للمنصب الرفيع من قبل الزعيم الأفريقي العظيم نيلسون مانديلا (لحق به مانديلا بعد أيام قليلة من وفاته)، إيذانًا بممارسة «أبو النجوم» نشاطه الإنساني بمجرد استلامه جواز السفر الدبلوماسي الأحمر، لكنه لم ينتظر.. إذ راح يجري مع نخبة من المتخصصين والباحثين الاجتماعيين والمتطوعين مسحًا للعشوائيات حول القاهرة، وتسجيل أسماء نحو ألف أسرة من الفقراء، والشروع في دراسة أوضاعهم المعيشية الصعبة، مقدمة لوضع الخطط والحلول الكفيلة بمساعدتهم سواء ماديا أو تأهيلهم مهنيا والبحث لهم عن فرص في سوق العمل.

والشاهد أن “نجم” أو “أبو النجوم” أو “الفاجومي” على نحو ما لحق باسمه من وفرة الأوصاف والألقاب، كان يستحق بلا شك هذا التكريم السامي عن جدارة، فهو قد عاش عمره منذ الطفولة يرتع في ألوان متباينة من الفقر، إذ كان ورفيق دربه الفنان عبدالحليم حافظ نزيلي ملجأ الأيتام في صباهما الباكر.. والقصة كما يروي طرفا منها، الدكتور هشام عيسى الطبيب الخاص لعبدالحليم حافظ بكل تفاصيلها المثيرة، يقول: 

(في أطراف مدينة الزقازيق وبجوار السكة الحديد ــ كما يقال في الريف المصري عن محطة القطار ــ أقام الموسر (الثري) عبداللطيف بك وهبة ملجأ للأيتام كان يتولى الصرف عليه من ماله الخاص، وفي هذا الملجأ تجاور صبيان كانا ينامان على سريرين متقابلين يحملان رقمي 49 و59، ورغم اختلاف المشارب بينهما والطباع، تشاء تصاريف القدر أن يرحلا إلى القاهرة وهما لا يزالان في عمر غض الإهاب، وأن تتجاوز إبداعاتهما وما تحقق لهما من الشهرة التي طبقت آفاق مصر إلى الوطن العربي والعالم، أحدهما وهو عبدالحليم حافظ الذي حاز على لقب «العندليب» وأحمد فؤاد نجم الذي حاز على لقب “الفاجومي”!)

عاش الفاجومي ومات، وهو يرفع راية التمرد والمقاومة، حرا طليقا، عصيا على الصمت والسكون، فخورا بكونه شاعر الوطنية، المكافح ضد الاستبداد والقهر والجور، الذي قدّم أمثلة رائعة على قدرة الإنسان على التحدي والبقاء، فقصائده وأغانيه انتصرت، وأسهمت في إطلاق الثورات الشعبية المصرية لأكثر من مرة، عاصر يوليو 52، وشق طريقه يكتشف العالم مع حلمها ومشروعها، وانكوى بهزيمة 67، وسخر من السادات بعد 73، وكوى مبارك ونجله بما سيظل راسخا بهما وشاهدا عليهما طيلة تاريخهما، وأخيرا انطلق صداحا وضاحا في 25 يناير 2011، واختتم عمره المديد وتاريخه العامر بثورة 30 يونيو التي دعا لها وشارك فيها وهو يكاد يقول “لعلنا في أول الطريق.. لعلنا نسير على الطريق”.

“مات المسيح النبي،

ويهوذا بالألوفات

مات الصديق الوفي

للخضرة في الغابات

مات بس فات الأمل

فوق الطريق علامات

لو سار عليها العمل

طول الطريق بثبات

تهدي الغريب سكته

وتقرب المسافات”..

أحمد فؤاد نجم


( الاتحاد الثقافي )

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *