علي العامري *
يواصل الفنان التشكيلي جهاد العامري، انشغالاته الجمالية في تتبع الأثر والبحث في طبقات الزمن، عبر حساسية عالية تتناغم مع طبيعة الأثر البصري الذي يظهر في الأعمال الفنية، وكذلك الأثر التفاعلي الذي يبقى يحاور المشاهد، في معرضه الجديد الذي اختار له عنواناً دالاً هو «ستارة أندلسية». وبذلك يشير إلى أن أعماله في المعرض الذي ينظمه غاليري «أنيما» في العاصمة القطرية الدوحة، «يعالج» الزمن والأثر جمالياً وببعد فلسفي ينطوي في طبقات الألوان ودرجاتها وفي طبقات الحفر متعدد التقنيات. ويأتي المعرض تحية من الفنان إلى مكانه الأندلسي، حيث أثرت مدينة غرناطة في تجربة الفنان، بعدما عاش فيها خلال السنوات السابقة، إذ حصل في جامعتها على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف. وكان العامري أقام معرضاً في المدينة الأندلسية حاور فيه أثر الشاعرين الإسباني لوركا والفلسطيني محمود درويش، عبر مدينتيهما غرناطة والقدس. كما يأتي «ستارة أندلسية» لاستكشاف طاقات الجسد الأنثوي والعمارة الأندلسية، إلى جانب عمارة الضّوء، وفق الفنان.
مدينة غرناطة أثرت في تجربة الفنان ومنظوره الجمالي، خصوصاً أنه كان يعيش على مقربة من الحمراء المتلألئة على ربوة التاريخ. وفي قصر الحمراء الذي يعد أيقونة جمالية وتاريخية عظيمة، كان للعامري تأملاته في الزخرفة والنقوش التي تبدو سحرية من فيض جمالها، وهو يتبع أثر الزمن في المكان، حتى أنه استخدم رسوم المخططات الهندسية لتلك العمارة في كثير من أعمال الحفر والطباعة اليدوية.
ويقول الفنان العامري الذي شارك في ورش فنية، وأشرف على عدد منها في دول عربية وأجنبية، وأقام معارض شخصية، سابعها «ستارة أندلسية» إن «للحضارة العربية الأندلسية أثراً كبيراً في تجربتي التشكيلية، ففي قصر الحمراء في غرناطة التي درست فيها، تبدو المياه مثل مرايا سحرية تعكس الأشكال والخطوط والوجوه والنقوش والألوان، وتحركها فتنقلها إلى مستويات متعددة، تتبدل فوق ايقاعات الضوء والظل. وكان هذا الجمال الساحر موضع تأمل الخارج والذات في الوقت نفسه، حيث المياه الصافية تشرب الأشكال».
وكان الفنان العامري أقام معرضاً في غرناطة عام 2012 بعنوان «شاعران على قيد الحياة» اشتغل فيه على قصائد للشّاعر الإسباني لوركا، والشّاعر الفلسطيني محمود درويش، وعلى مدينتي غرناطة والقدس. وفي معرضه «ستارة أندلسية» اشتغل على قصائد لشعراء أندلسيين، من بينهم ابن خفاجة. ويقول «خلال إقامتي في غرناطة، أثارني الفعل البصري في الأندلس، واستولت على ذاكرتي العاطفة العربيّة التي أخلصت للجمال من خلال الحدائق والعمائر الرائعة. وارتأيت بوصفي فناناً أن أُمجِّد هذا الفعل عبر أدوات العصر، أداة الرّسم وتحبير المحفورات الحروفيّة والأشعار الأندلسية، وعلى رأسها ما نظمه الشاعر الأندلسي ابن خفاجة وغيره من الشّعراء الأندلسيين».
ويبين العامري أن اختياره لفكرة السّتارة جاء للكشف عن زمن غابر شكّل حياة جمالية مهمّة في التّاريخ الإنساني، والانفتاح على حضارة عربيّة أثّرت في تاريخ الفن العالمي، حيث تبدو الأشعار ستائر حروفيّة موشاة بأنفاس الشّاعر الذي كتبها في لحظة العاطفة الصّافية.
جهاد العامري الذي لا يتوقف عن البحث في جماليات الحياة، استخدم في معرضه «ستارة أندلسية»، الذي افتتح في الأول من ديسمبر بالدوحة، ويستمر حتى 30 يناير المقبل، تقنيات متعددة للتعبير عن انشغالاته، وتضمن المعرض أعمالاً بألوان الأكريليك ووسائط أخرى على القماش، وأعمال حفر، زاوج فيها بين الحفر على الخشب والطباعة الحريرية. وفي أعمال التلوين ظهر أثر الطباعة أيضاً في خلفيات الأعمال، وكذلك في تشكيل جسد المرأة.
معرض «ستارة أندلسية» للفنان العامري يكشف عن نقلة نوعية جديدة في تجربته التشكيلية، إذ إن الأعمال مشغولة بحساسية عالية، تستمد سحرها الخاص، من روح مبدعة ورؤية فنية خاصة. وفي الأعمال الجديدة وظف الفنان معرفته وخبراته في خلق جماليات مدهشة، تنقل أثرها إلى المشاهد، وتثير لديه حواراً متعدد الطبقات أيضاً، بدءاً من الأبجدية البصرية، حتى إنه يمكن وصف أعمال العامري بالسحرية البصرية.
الأثر هو العلامة البصرية الأولى في الأمكنة، وكل أثر يبدو مثل كتاب متعدد القراءات والدلالات، مثل تعددية التقنيات التي استخدمها العامري في أعماله الفنية. ويمكن وصف الفنان الأردني من أصول فلسطينية جهاد العامري بأنه «مجنون الأثر»، ومشغول بفكرة الزمن والمكان، ولا أثر من دون زمن، إذ تضمن بعض أعماله في المعرض الشخصي الجديد وهو السابع، أثراً لحروفية عربية، وأثراً لحفر وأثراً لورقة نبات وأثراً لنظرة وأثراً لجسد وأثراً لقصيدة وأثراً لذكرى، إذ يبدو العامري في تجربته «قصّاص أثر» ينسج علاقات بين طبقات السطح الفني، حيث الحاضر يغدو دليلاً على الماضي، يكشفه ويضيئه ويقود إليه أيضاً، كما في علم الجيولوجيا ودراسة طبقات الأرض والأحافير الدالة على العصور المتعاقبة التي تحدث فيها انزياحات، مثلما تحدث انزياحات المعنى في أعماله الفنية. كل تلك العلامات تحتشد في اللوحة لتسحر بصرياً وتشع دلالياً، عبر لغة بصرية عالية الحساسية، إذ تبدو الأعمال قصائد بصرية، عبر طبقاتها اللونية وخطوطها ومساحاتها وتكويناتها. وتظهر الأعمال أثر الزمن وتحولات الإنسان والمكان، إذ تكشف طبقات اللون والحفر عن أزمنة متعاقبة، وكل طبقة تكشف عن حياة وزمن.
كما تكشف لوحات الفنان العامري عن الانمحاء والتجلي، الظهور والتواري، وما بينهما، للتعبير عن فعل الزمن.
– الإمارات اليوم