الهندية أنيتا ديساي:مثقلة بحمولة الماضي




* ترجمة:لطفية الدليمي

**”صديقتي الروحية الروائية الهندية أنيتا ديساي(1937) التي لم ألتق بها، ولكني قرأت الكثير لها وعنها و قمت بترجمة روايتها المهمة ( ضوء نهار مشرق ) -صدرت قبل عام عن دار المدى – تربطني بها روحانيات الشرق وتقرب بيننا الخسارات الكبيرة التي تتجسد بفقدان وطن وذكريات وتاريخ ممتد في جغرافيا أرواحنا ويتشابه بيتها العتيق بصمته مع بيتي الصغير الصامت في غربتي ،كلانا كاتبة مهاجرة تشظت حياتها وتناثرت عائلتها ولبثت وحيدة مع كتبها وشخوص قصصها وأحلامها المتهاوية وكلانا تحاول بعث الذكريات المنسية وروائح الحياة المفقودة والتناغم مع التراث الإنساني و إيقاظ الأمل. أعترف أن العمل على هذا الحوار أطلق أحزاني من مكامنها ولكنه منحني العزاء في الوقت ذاته ،فكلانا نواجه الوضع البشري المضطرب مع ملايين من أشباهنا في عالم قاس نقاوم فواجعه بالكتابة والحلم والإبداع ، وأرى أن هذا الحوار الفريد بين روائيتين ، بين الأم وابنتها بين كيران وأنيتا ديساي الذي نشر 2011 في صحيفة الغارديان – لهو من أرق الحوارات الأدبية وأكثـرها شجنا وصدقا وعذوبة في بوح امرأتين مبدعتين أمام مرايا الذات والذاكرة”./**لطفية الدليمي


***(اعتدت عندما أزور والدتي على ركوب القطار من محطة ( هارلم ) في نيويورك ليأخذني القطار شمالا في سكة محاذية لنهر هدسون الذي يسميه الهنود المحليون ( Muhheakantuck ) و تعني ” النهر الذي يجري في الاتجاهين ” . يستقبلك منزل والدتي المشيد منذ 170 عاما بعتبة أمامية مبنية من حجر فضي، و أرضيات المنزل مغطاة بألواح كبيرة من خشب البلوط الذي يتوهج، باعثا خيوطا من ألوان براقة و يمكنك ان تلحظ ان المنزل غارق في الصمت على الدوام ،فهو منزل كاتبة مهاجرة إلى منفاها البعيد و يمكن للمرء أن يرى أكواما من المجلات و الصحف مكدسة عند العتبة و عندما نجتمع معا يعتريني شعور بأننا وحدنا نجلس على حصيرة كما كنا نفعل في منزلنا الهندي لكن عائلتنا تشظت والهند غدت حلما بعيدا و كل ما يشكل بصمة دائمة و قوية في حياتي تشكل هنا حيث أقيم في الولايات المتحدة . أعتدت أحيانا ان أشتري نسخة من ( India Abroad ) وأنا في طريقي إلى منزل والدتي أو ربما بعض ثمار المانجو الآتية من هايتي أو البرازيل و لم أكن لأنسى دوما الشريط المتحرك لآلتها الكاتبة . تمحور عمل والدتي واهتماماتها بمرور السنوات حول ثيمات : المنسي والعوالم المتلاشية و الفن و اللغة اللذين يقبعان في الهوامش و العبارات المقتبسة في رواياتها المأخوذة عن كتـّاب مثل : تي . أس. إليوت ، إميلي ديكنسون، خورخي بورخس، وغالبا ما تؤكد الإشارة رسوخ الذاكرة ، كتبت والدتي مرة :
” اعتقد الصينيون القدماء أن الزمن ليس سلّماً يرتقيه المرء صوب المستقبل بل ليأخذه نحو الماضي ” )***كيران ديساي
_____________

الحوار
× تدور روايتك ( تحت الوصاية In Custody ) في أجواء طفولتك البعيدة في دلهي القديمة . هل كنت تعرفين شيئا عن الأصول الألمانية لوالدتك و الأصول البنغالية الشرقية لوالدك ؟ هل كنت تعرفين شيئا عن جدتك و جدك ؟
– لا لم أكن أعرف أي شيء من هذا ،فقد كان الأمر دوما تركيبة منصهرة من حقائق معلومة قليلة ممتزجة بالخيال . الحقائق المعلومة المتاحة لي آنذاك كانت على الدوام شحيحة .
× أذكر كيف كنت تخبرينني عن والدك عندما كان طفلا في بنغلاديش . هل أخبرتني حقا بذلك أم أنني أتخيل هذه المرويات من قراءاتي الكثيرة لـ ( طاغور ) عندما غادر السكان قراهم هناك و ارتحلوا بمحاذاة النهر؟
– أخبرني والدي فعلا بكل ما ذكرتِ و بخاصة عن التضاريس النهرية الموحلة للبنغال الشرقية والأرض التي كانت مغمورة بالفيضان معظم أيام السنة مما يضطر السكان المحليون أن يتخبطوا وسط المياه و هم يجذفون بقواربهم الصغيرة دون ان تكون أمامهم وجهة محددة .
× هل عاش والدك تحت ظروف قاسية من تلك التي تصفينها الآن ؟
– نعم عاش هكذا معظم حياته في صباه و أخبرني قصصا عنها لا أستطيع حتى مجرد تخيلها اليوم ، كان ساعي البريد مثلا في تلك الأيام يمشي أميالا طويلة في الغابات و هو يدق ناقوسا ليخيف به النمور و هو يردد بصوت عال ” باسم الملكة فكتوريا افسحوا طريقا للبريد ! ” . 
× لا بد أنك رويت لي هذا من قبل لأنني سجلت شيئا من هذه التفاصيل في كتابي ” ميراث الخسارة Inheritance of Loss” و أحسب ان قراءة يوميات طاغور قد بدت لي شبيهة بمذكرات والدك في جوانب كثيرة ….
– عندما قرأت طاغور أعدت خلق عالم والدي أكثر بكثير مما فعلت بتأثير سماع القصص التي رواها هو لي . كان والدي رجلا يميل إلى الصمت و أذكر كيف انه تحدث لي عام 1950 عن دار للسينما تعرض فيها الأفلام البنغالية صباح كل يوم واصطحبني فعلا لمشاهدة فيلم ( Pather Panchall ) و بعد انتهاء الفيلم و خروجنا إلى أضواء دلهي البرتقالية البراقة رأيت وجه والدي مخضلا بالدموع و كان ينشج بصمت و لم يكن يقوى على الكلام فأدركت حينها ان الفيلم كان يحكي عن عالم قاس غادره والدي . و قد أثرت الأفلام التي صنعها ” ساتياجيت راي ” فيّ تأثيرا عظيما تلك الأيام ، أما والدتي فقد اعتادت ان تتحدث عن طفولتها على نحو مستمر و راسخ و كان بإمكانها ان تحكي لنا عن كل محل و كل منزل مرت به في طريقها إلى المدرسة ،عن القصاب و الخباز و الخياط و لطالما أعادت حكاياتها تلك كثيرا . كانت أعياد الميلاد و الفصح في برلين تبدو لي على ما كانت تروي والدتي حقيقية أكثر من مهرجان ( ديوالي Diwali ) في وطننا الهند .
× هل كان جدي نزيلا مستأجرا عند بيت جدتي ؟ هل كان ذاك الاستئجار سببا في لقاء جدي و جدتي ؟
-“تضحك” …أراك تخلطين هذا مع قصة ” فيكرام سيث ” . دعيني أسرد لك القصة : ذهب والدي قاصدا برلين لدراسة الهندسة و كان يتمشى ذات يوم في شارع من شوارع برلين و إذا برجل ما لا يعرفه يطلب منه ان يجلس أمامه ليعمل له بورتريها و عرف والدي لاحقا ان ذلك الفنان كان ( جورج كولبه George Kolbe ) الذي كان نحاتا أيضا و ذا شغف عظيم بالوجوه الآسيوية . جلس والدي أمام الفنان الذي عمل له بالفعل تمثالا نصفيا مع قاعدته الجذعية و تصادف ان كولبه كان يعرف والدتي و عائلتها و هو من قدّم والدي إليهم لاحقا و كان الشخصية الأبرز التي حضرت زفاف والدتي ووالدي . أذكر أننا كنا نحتفظ في غرفة الاستقبال بصور عن هذا الزفاف و صور أخرى لوالدي و هو وسط جمعية للطلبة الهنود في برلين برفقة طاغور عندما زارهم في برلين تلك الأيام البعيدة و قد رمينا كل تلك المجموعات الثمينة من الصور عندما غادرنا دلهي لاحقا .
× نحن أيضا تخلصنا من كل صورنا . هل تذكرين ( كاليمبوتغ ) عندما رشح المطر عبر سقف منزلنا و أتلف الكثير من الصور ؟ كنا نتخلص من مجموعات صورنا أيضا كل مرة نغير فيها منزلنا.
– السفر يعني من بين ما يعنيه أنك تخسر صورك ، و هكذا كما ترين تسبب المطر الراشح مع 23 تغييرا لمكان إقامتنا خلال حياتي حتى الآن في جعل ما كنت أحتفظ به من صور كومة من أوراق نصف مهترئة .
× كأنك تصفين بكلامك هذا ” بنكالو bungalow ” الذي ورد في روايتك ” ضوء نهار مشرق Clear Light of Day ” ؟
– نعم بالضبط تماما .
× هل كان والدك مثل حيدرعلي ؟ “تعقب كيران على سؤالها فتقول ان حيدر علي شخصية فاتنة تملك مكتبة و هي ذات دور محوري في رواية والدتها ” ضوء نهار مشرق ” المترجمة “
– لا … استمد والدي إلهامه من الشعر و الأدب المكتوبين باللغة الأوردية و اللذين نشأنا على سماعهما . كان لوالدي أصدقاء كثيرون من المسلمين و قد أتم بعضهم دراسته خارج الهند و كانت لهم زوجات أوروبيات و لكن هذا لم يكن ليدوم طويلا ،لأن والدي كان يعمل في شركة ألمانية و لم يكن بوسع تلك الشركة الاستمرار بالعمل في الهند البريطانية آنذاك خلال حقبة الثلاثينات وظهرت نذر بالحرب القادمة في أوروبا فكانت تلك الحقبة مدعاة لحزن عميق و قاس لوالدتي و كم كانت محقة في حدوسها إذ لم ينج أي من أفراد عائلتها من تبعات تلك الحرب المدمرة و ما عمّق مأساتها اكثر أن عديدا من أصدقائها الألمان حشروا في مخيم اعتقال هندي قرب ” داهرادون ” لكن لحسن الحظ أفلتت والدتي من مخيم الاعتقال لأنها كانت قد حصلت على الجنسية الهندية و صارت مواطنة هندية بالكامل . عندما أعلنت ( دكا ) عاصمة لباكستان الشرقية اختفى بيت أجداد والدي هناك و لم يعد والدي لزيارة ذلك المكان أبدا بعد ذلك التاريخ و استحال بيت أجداده أرضا مضاعة بجانب أراض مضاعة أخرى و كان علي كطفلة تذكرَ كل تلك الخسارات : خسارة التاريخ و خسارة تضاريس المكان رغم ان تلك الخسارات لم تخلف أبدا أيا من الظلال الداكنة في روحي فقد كنت طفلة كما تعلمين و الأطفال لا يميلون إلى ترسيخ الأحداث الداكنة في عقولهم .
× خسرت جِدَيك قبل ان تعرفيهما و كذلك خسرت تصوراتك عن دلهي القديمة عندما حصل التقسيم ؟
– نعم خسرت صورة المناظر الطبيعية و التضاريس الجميلة للمكان و اللغات التي كنت أتكلم بها ، لكن أحد الأشياء التي قاومت الخسران بعناد هي لغتي الألمانية فقد عاش والدي في ألمانيا لعشر سنوات و كان يتكلم الألمانية بطلاقة مميزة كما كانت المشرفات المسؤولات عن دار الحضانة التي وضعوني فيها ألمانيات أيضا و لم يبذل والدي أي جهد لنحتفظ بلغتنا البنغالية حية في عائلتنا.
.× تشيرين في كتبك أغلب الأحيان إلى خليط من اللغات . ففي روايتك ” ضوء نهار مشرق ” ثمة اقتباسات من ( إقبال ) و ( بايرون ) ، و تدور روايتك ” تحت الوصاية ” حول موضوعة اللغتين الأوردية و الهندية . تقتبسين الكثير من الأدب في رواياتك و تعملين بها خلطة مع الجغرافيات المتنوعة ؟
– نعم هذا صحيح فأنا أزيح نفسي بعيدا عندما أعمل . لندقق في الأمر ملياً : الأوردو كانت اللغة المحكية في دلهي أيام طفولتي و كان النطق بها في غاية الجمال تلك الأيام ، ثم كان دور الكتب التي كنا نقتنيها وقد اعتاد والدي قراءة بايرون و كان ينفجر بالبكاء و هو يتذكر أحيانا مقاطع مما يقرأ و تتطابق مع ما تختزنه ذاكرته المدرسية من قراءات لبايرون وسوينبرن و براوننك و كان يردد هذه المقاطع مرة بعد أخرى ، لكن كان هناك شذوذ غريب في سلوك والدي : فلم يكن يسمح لنا بسماع الموسيقى البنغالية في منزلنا وهو أمر أراه اليوم يدعو إلى الإشفاق و لكن ربما نلتمس له العذر متى ما عرفنا انه تحدر من عائلة سياسية وكان له ميل خفيف غير محسوس إلى الشيوعية فكان من الطبيعي ان يفضل الموسيقى الروسية على نظيرتها البنغالية . و أذكر أننا كنا نسمع ” أغنية البحار في نهر الفولكا The Song of Volga Boatman ” و هي تنبعث مرات و مرات من جهاز الغرامافون حتى ظننت أنها ستسكننا إلى الأبد ، و قد جلبت والدتي عند عودتها من برلين إلى منزلنا الهندي بيانو و ألبومات موسيقية كاملة لبيتهوفن و برامز و شوبرت مع مكتبة كاملة مغلفة كتبها بالجلد على طريقة المخطوطات الألمانية القديمة ، و عندما توفي والدي و غادرت والدتي دلهي تبرعت بكل الكتب إلى مكتبة جامعة دلهي التي كان فيها آنذاك قسم مستقل للغة الألمانية .
× و عندما توفي والدي قبل بضع سنوات تبرعنا نحن أيضا بمكتبتنا إلى كلية كاركي في دلهي ؟
– و تسألينني بعد كل هذا لماذا أكتب عن الماضي باستمرار و ثبات ؟ من المحتمل أنني لا أستطيع مقاربة الحاضر مباشرة لأنني مثقلة بكل حمولة الماضي الذي أحمله على كاهلي .
× هل هذا هو السبب الأبرز الذي جعل منك في النهاية كاتبة ؟
– لو لم أغادر الهند و لو ان كل شيء مضى بعقلانية و هدوء و ثبات كما كان متوقعا في بيئتي التي نشأت فيها ربما لم أكن في حاجة لأن أجمع كل هذه الأجزاء معا عبر الكتابة . أنجزت معظم كتبي في الهند التي غدت هندا أخرى بعد التقسيم : لقد أضعت الهند التي عرفتها في طفولتي . شرعت بالكتابة أثناء سنواتي المدرسية و بدأت النشر خلال دراستي في الكلية و انتظمت في الكتابة للصحف في دلهي و كنت أنشر بانتظام مراجعات للكتب و قصصا قصيرة و مقالات قصيرة أيضا و كتبتها جميعا باللغة الإنكليزية و كان اسمي قد بدأ يطرق أسماع العالم الغربي آنذاك .
× ما الذي قرأت لاحقا للمرحلة التي تكلمت عنها توا ؟ و ما الذي ترسخ في ذاكرتك و أي الكتاب ساعدوا في ارتقائك الأدبي ؟ أذكر عندما كنت طفلة انك كنت تحبين قراءة فيرجينيا وولف………..؟
– كان لفيرجينيا وولف تأثير عظيم على ما أكتب و أذكر إنني ذهبت مرة إلى مكتبة ( اتمارام ) واشتريت خانة كاملة من مجلدات دار نشر ( هوغارث ) مع أغلفتها الصفراء و اعتدت قراءتها مرة بعد أخرى ، و قد اعتدت لوقت طويل من حياتي أن أقرأ صفحة أو صفحتين من أعمال فيرجينيا وولف قبل ان أبدأ عملي الصباحي لأنني كنت أراها دوما ” شوكة رنانة ” تنغم عمل عقلي و قد غدا تأثيرها عليّ طاغيا حد إنني بت مذعورة من إنني سأكون نسخة باهتة منها بدل ان أكون أنا نفسي و صوتي فتوقفت عندها عن ممارسة طقسي الصباحي في قراءة فيرجينيا وولف ،لكنني ما زلت مواظبة على قراءة بعض الشعر قبل البدء في عملي الصباحي و أقرأ في العادة : ريلكه ، كافافي ، ماندلستام ، برودسكي .
× كلهم شعراء منفى ؟
– نعم كلهم شعراء منفى . الشعراء لهم ميزة انهم يتناولون مباشرة ما يبتغون الكلام عنه و لا يحومون حوله ،و هذه المقاربة المباشرة هي التي تجذب المرء في العادة و لست أعرف اليوم هل يمكنني ان أتعامل مع معظم أعمال تولستوي أو دوستويفسكي أو بروست، و لكنني على العموم أطمح لأن أعيد التجربة الرائعة في إعادة قراءتهم ثانية . 
× كيف تشعرين و أنت تقرئين المقدمات للطبعات الجديدة لكتبك التي ظهرت حديثا في الهند ؟
– أشعر بامتنان كبير لمن كتب هذه المقدمات الرائعة ،فقد كانوا في غاية الجدية و ان من المثير ان جيلا هنديا كاملا سيقرأ الأدب الهندي باللغة الإنكليزية ،فعندما كنت طالبة لم يكن ثمة شيء من هذا القبيل متاحا أمامنا و لم يكن بإمكاننا قراءة أعمال أي أديب هندي أبدا .
× تكتبين كثيرا عن الذين يمكثون طويلا في المنفى ، و اللامنتمين ، و المسافرين ، و المترجمين مع علمي الأكيد ان السفر يسبب لك متاعب صحية مؤذية ، فهل كان من المحتم عليك ان تغادري أولا لتمكثي في الهمالايا ثم لتغادري بعدها الهند بأكملها ؟ هل ترين ان الكاتب يكتب عن الحيوات التي يعيشها بقدر ما يكتب عن الحيوات التي يسمع عنها فحسب ؟
– لم يكن هذا ما خططت له عن قصد فقد كنت أتقدم خطوة لأؤخر أخرى و أتقدم ببطء حذر لكنني وجدتني أندفع إلى الإمام على عكس ما رتبت له ،لذا أرى ان ما يكتبه الكاتب يمكن ان يكون ” نبوئيا ” . عندما يكتب المرء يكون في حالة تماس مع قوة أخرى غير تلك التي اعتاد التعامل معها في حياته اليومية ،و عندما تتعامل مع تلك القوة العلوية ترتد عميقا إلى داخل ذاتك حيث يكون متاحا لك ان تستشعر إحساسات لم تكن لتلحظها من قبل .
× هل شعرت يوما بأن ثمة كلفة باهظة يدفعها الكاتب ثمنا لمهنته في حياته اليومية ؟لماذا نحن معشر الكتاب نملك إحساسا بأننا كائنات معزولة ؟
– لطالما تساءلت عن هذا و هل هو بسبب كوننا كاتبتين ؟ أنا متأكدة تماما انك شعرت بنظرة الحسد و الغيرة المنبعثتين من عيون أصدقائك الذين لهم حيوات و مهن أخرى مختلفة عما نفعل نحن . إنه لمن المؤثرات العظيمة على ما يفكر أو يعتقد فيه المرء عندما يشعر بأنه ” خارج السرب ” دوما و ليس ملكا خالصا لجهة ما . أقول عن نفسي بخاصة إن شعورا بالوحدة تملكني دوما لأن عائلتي كانت تختلف عن العوائل الأخرى التي رأيتها في حياتي .
× سافرت كثيرا إلى بلدان عديدة . هل غير السفر من نمط تفكيرك أو كتابتك ؟
– السفر كان تجربة مخيفة في حياتي و أرى ان ذلك النوع من الخوف قد مررت به أنت أيضا ، فموضوعك الذي تعملين عليه يقع في مكان ما و ينبع خوفك من عدم قدرتك على استعادة موضوعك عندما تغادرين ذلك المكان . عندما قدمنا لأول مرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وابتدأت العمل في التدريس انتابني إحساس مخيف إنني لن أكون قادرة على كتابة أي عمل هناك لأنني كنت بعيدة جدا عن الهند : بعيدة عن ماضيي ، و عائلتي و ماكان حولي في أمريكا لم يكن ينتمي إلي لكنني في النهاية كتبت ” وليمة الصيام Fasting Feasting ” و قد فعلت هذا بعد ان استعدت قدرتي على استحضار ماضيّ .
× لطالما عملت على موضوعات كنت أتصارع أنا معها على الدوام : التنقل بين موضوعات الحقب التاريخية ، و وجهات النظر المتباينة ، و الجغرافيات المختلفة ؟
– المسألة برمتها تشبه التعامل مع أحجية بانورامية و محاولة التعرف على القطع التي ينبغي ان توضع في مواضعها الصحيحة للحصول على الخلفية المضبوطة . كان عملي ” وليمة الصيام ” محاولة للتعامل مع أحجيتين بانوراميتين في بيت واحد و السعي للحصول على تركيبة صالحة تنبثق من الاثنتين معا . ورثت أنا عالما متشظيا في وقت كان لك أنت فيه عالم متكامل و متماسك لكنه ابتدأ بالتشظي عندما كنت أنت بعمر الرابعة عشرة وغادرنا حينها الهند إلى بريطانيا و بعدها إلى الولايات المتحدة ، و كان عليك بعدئذ ان تجدي وسيلتك للتعامل مع العالمين بعد جمعهما معا و هو عين ما أرى انك قد فعلتِه في كتابك ” ميراث الخسارة”.

× عندما تفكرين في خلق قصة ما ، هل تفكرين في شكل ما لها ؟
– في كتابي ” بومباي كما يراها بومكارتنر ” الذي أشرت له سابقا ، يحصل كل شيء في يوم واحد كما لو كان اليوم الأخير في حياة بومكارتنر . كنت اعرف انه سيموت في نهاية ذلك اليوم لكنني لم اكن اعرف أبدا كيف سيكون شكل هذا الموت و كل ما كان متاحا لي ان احشد لفعل الموت فحسب ، فقد كان يمكن ان يقتل على يدي رجل فقير يجول في الشوارع على غير هدى أو على يدي لص لكنه في النهاية مات بالطريقة المناسبة التي كان ينبغي له ان يموت بها .
× هل تشعرين بالغيرة إزاء الكتاب الهنود الذين اعتادوا الكتابة في بيئة واحدة ممتدة و مستقرة بلا تغييرات متلاحقة و تغييرات جامحة في مشاهد المكان ؟
– نعم يشعر المرء في العادة بالغيرة من الكتاب الهنود الذين ورثوا عالما واحدا غير متشظ ،مثل ( طاغور ) و ( نارايان ) ، و كتبي المبكرة تنتمي لهذا النوع من العالم لكن العالم الآن توسع كثيرا و تشظى و اختلط و تداخلت أجزاؤه……..
× و هل أنت نادمة على هذا التشظي؟
-أبدا و لا حتى بأقل القليل من الندم.
× لماذا ؟
كانت أحداث كبرى تجري خارج فضاء رواياتي و ليس داخلها و لطالما طالني الانتقاد بانني اكتب عن عالم محدود و محصور في حدود صلبة و ربما كان استيائي من هذا الانتقاد هو ما دفعني إلى فتح الأبواب مشرعة أمام أحداث العالم الأخذ في التشظي المتسارع لتجد صداها في رواياتي ، وقد كان شعوري عندما كتبت ” تحت الوصاية ” و ” بومباي كما يراها بومكارتنر ” بأنني كمن يفتح الأبواب و ينطلق راكضا في الشوارع ليرى و يجرب أماكن أخرى و أشياء أخرى غير التي تعامل معها . لو حصل و عشت كل حياتي في دلهي القديمة كنت سأشعر بإحباط وغضب شديدين بسبب ان عالمي كان سيغدو اكثر ضيقا و محدودية تبعا لضيق و محدودية تجاربي ، لكنني حتما أردت لحالي ان يمضي في مسار آخر و هو ما حصل فعلا و أنا سعيدة للغاية بما حصل . هل كان ما حصل رائعا ؟ ذاك سؤال آخر لكنني أعرف تماما انه كان مسارا شاقا و رائعا بذات الوقت .
× كل واحد من الأمكنة التي زرتِها ألهمتك شيئا مختلفا .إنكلترا مثلا بدت لك كأنها رحلة سفر إلى ذلك الجزء من العالم الأدبي الذي حدد معالم طفولتك ؟
– لم أكتب أبدا كتابا بالإنكليزية عن احد الأمكنة الإنكليزية و لكن كل ما قرأته عن ذلك الأدب تغلغل عميقا فيما كتبت . المكسيك كانت تجربة مختلفة و غريبة تماما علي و لم يكن ممكنا لي ان أفقه شيئا منها لو كنت بقيت في الهند و عندما تعمقت في جذورها وجدتها تتناغم مع أصداء ثقافتي الهندية ، لذا يمكنني القول ان إقامتي في المكسيك كانت بمثابة امتداد لعالمي الهندي .
× هل ترين ملمحاً من نمط ما ينتظم أعمالك عندما تعاينينها معاً ؟
– لم يحصل أبدا ان أجلس و أفكر في هذا الأمر و لكن ثمة ناقوس يدق في رأسي طيلة سنوات ويلح علي بموضوع جعلني أرى نفسي غريبة على ” الهند ” التي نعرفها اليوم و التي أرى أنها قد ابتعدت كثيرا عن الهند التي عرفتها من قبل.
________
* روائية ومترجة من العراق. / (المدى) 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *