اللغة العربية وخطر وسائل الاتصال الحديثة


*عبدا لله بن علي العليان
تعتبر اللغة العربية في عصرنا الراهن، أكثر اللغات تحدثا ضمن مجموعة اللغات السامية، وإحدى أكثر اللغات انتشارًا في العالم، يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة، كما تذكر العديد المراجع البحثية، ويتوزع متحدثوها في الوطن العربي، بالإضافة إلى العديد من المناطق الأخرى المجاورة كالأحواز وتركيا وإيران وتشاد ومالي والسنغال وإريتريا. اللغة العربية ذات أهمية قصوى لدى المسلمين، فهي (لغة القرآن)،ولا تتم الصلاة (وعبادات أخرى) في الإسلام إلا بإتقان بعض من كلماتها. العربية هي أيضا لغة شعائرية رئيسية لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، كما كتبت بها الكثير من الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى. وأثّر انتشار الإسلام، وتأسيسه دولياً، في ارتفاع مكانة اللغة العربية، وأصبحت لغة السياسة والعلم والأدب لقرون طويلة في الأراضي التي حكمها المسلمون، وأثرت العربية، تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر على كثير من اللغات الأخرى في العالم الإسلامي، كالتركية والفارسية والأمازيغية والكردية والأدوية والماليزية والإندونيسية والألبانية وبعض اللغات الإفريقية الأخرى مثل الهاوسا والسواحيلية، وبعض اللغات الأوروبية وخاصةً المتوسطية منها كالإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية. كما أنها تُدرَّس بشكل رسمي أو غير رسمي في الدول الإسلامية والدول الإفريقية المحاذية للوطن العربي.فالعربية لغة رسمية في كل دول الوطن العربي إضافة إلى كونها لغة رسمية في تشاد وإريتريا وإسرائيل. وهي إحدى اللغات الرسمية الست في منظمة الأمم المتحدة.كما أن اللغة العربية من أغزر اللغات من حيث المادة اللغوية، فعلى سبيل المثال، يحوي معجم لسان العرب لابن منظور من القرن الثالث عشر أكثر من 80 ألف مادة، بينما في اللغة الإنجليزية فإن قاموس صموئيل جونسون، وهو من أوائل من وضع قاموسًا إنجليزيًا، من القرن الثامن عشر، يحتوي على 42 ألف كلمة.

ومع أهمية هذه اللغة العظيمة ودورها في الحضارة والعلوم الإنسانية، إلا أن هذه اللغة نالها الإهمال والإقصاء في الكثير من جامعاتنا وكلياتنا الوطنية, الحكومية والخاصة، وهذا التعليم باللغة الأجنبية، لم يقتصر على المواد العلمية الخالصة،بل امتد إلى العلوم الإنسانية، كالتاريخ والاجتماع والإعلام! وهذا للأسف مزاحمة واضحة للغة العربية، وإقصاؤها ، وهذا خطر واضح على الهوية الوطنية،وأيضا أصبحت اللغة الأجنبية، مفروضة في أغلب الشركات الوطنية والأجنبية، وهذا بلا شك ساهم في تراجع التعمين في القطاع الخاص في السنوات الماضية، بسبب سيادة اللغات الأجنبية على اللغة العربية،وللأسف أصبحت اللغة الأجنبية مطلبا للوظيفة، وأصبحت جامعاتنا وكلياتنا تتجه إلى اللغة الأجنبية، لأن اللغة الانجليزية هى السائدة في هذا الشركات ! مع أن أغلب الوظائف لا تستدعي هذه اللغة، وأن اللغة العربية ،لو فرضت على هذه الشركات، لنجح التعمين بصورة كبيرة، وأعطينا لغتنا العربية المكانة اللائقة بها ، كلغة عالمية، وأتذكر أنه منذ عدة سنوات حضرت مؤتمرا في أحدى دول مجلس التعاون، كان يناقش مسألة الهوية العربية،وكان أحد المتحدثين، السياسي الفلسطيني، د/ عزمي بشارة، وأنه بحكم أنه من سكان أرض 48، قال زرت كل مناطق عاصمة الكيان الإسرائيلي (تل أبيب)، ولم أجد مدرسة خاصة تدرس اللغة الانجليزية، أو أي لغة أجنبية، كل المدارس باللغة العبرية، فالعبرية لغة اندثرت منذ قرون، تم إحياؤها من جديد، مع أنها كانت لغة ميتة، وكان اليهود في العصور الوسطى وما بعدها، وفي فترة الحضارة الإسلامية، كانوا يكتبون باللغة العربية، لا باللغة العبرية.
الآن أصبحت اللغة العبرية في إسرائيل لغة العلم والأدب والتاريخ،ونحن للأسف نهمل لغتنا العربية، ونجعلها حتى تنافسنا في الوظائف الوطنية! وهذا للأسف مجازفة كبيرة، أن اللغة الانجليزية ،ليست ضرورة في كل المهام في الوظائف، حتى نجعل منها اللغة الأساسية في مدارسنا وكلياتنا، بل إنها قد تكون مطلوبة في بعض المهن الفنية،والفنية الدقيقة التي تستلزم نوعية من الأجهزة ذات الطابع التقني المتقدم،لكن وجود الأجنبي يكون مؤقتا حتى يأتي من هو في خبرته بعد تأهيله من أبناء الوطن، لذلك يجب أن نعزز اللغة الوطنية، ونجعلها أساسية في كل تعاملاتنا الإدارية والفنية، وهذا يتطلب أن نركز على التعريب ، فاشتراط اللغة الأجنبية يعطي الفرصة للعامل الأجنبي، بصورة واضحة وجلية، ويقفل الأبواب أمام العامل الوطني، أو العربي. إن أهمية اللغة الأجنبية ـ كما يقول د/ أحمد الضبيب ـ تندرج حسب اهتمامات الأشخاص، والمواقع التي يحتلونها في المجتمع ، من حيث قربها من مصادر اللغة أو بعدها عنها . ولذلك فإن اللغة الإنجليزية قد تكون مهمة جداً لبعض الناس الذين تتصل أعماله بها اتصالاً مباشراً ، ولكنها قد تكون أقل أهمية للآخرين ، بل إن الحاجة إليها تنعدم إلى درجة الصفر عند كثير من الناس الذين يجب أن تقدم لهم الخدمات والاحتياجات في بلادهم باللغة العربية ، كما يحدث لمعظم مواطني بلاد الدنيا .

إذن مادامت اللغة الانجليزية غير ( ضرورية) لكل مواطن ولكنها ( مهمة ) لبعضهم وتتدرج أهميتها حسب الاختصاص والثقافة والموقع ، فليس هنالك ما يدعو إلى تعليمها منذ الصفوف الأولى في المدرسة . لأن التعليم العام ملزم بتقديم الضروريات، التي لا يستغني عنها المواطن في حياته، أما ما يتفاوت فيه الناس فإن ذلك متروك لكل شخص على حدة ، فهو أقدر على إشباع رغباته واحتياجاته الثقافية بالطريقة التي يختارها ، من غير فرض أو إجبار “.

ثم لماذا نفرض تعليم أبنائنا منذ المراحل الأولى للدراسة باللغة الانجليزية ؟ ونضيف إلى مجهودهم في المواد المختلفة باللغة العربية ، لغة أجنبية! و نلزمهم حفظ مفراداتها وقواعدها في كل المراحل، وهذا ما يشتت مدارك الطلاب ، ويلقي عليهم أعباء أخرى تشتت أذهانهم ومداركهم، وهو ما يعرف بسلبيات الازدواجية اللغوية على المتلقي، فمن ناحية نجعل هذه اللغة الأجنبية تنافس اللغة العربية، اللغة الأم، ومن ناحية نربك الطالب ونشتت ذهنه، فلا هو أتقن لغته الأم اتقانا كاملا، ولا هو استوعب هذه اللغة الأجنبية استيعابا جيدا ، فنجعله ما تقول الأمثال، مثل ما فعل الغراب يوما، عندما أراد أن يقلّد طائر الطاووس، فلا هو أتقن مشية الطاووس، ولا أستطاع إتقان مشيت الغربان،مشيته الأصلية! وهذه مشكلة خطيرة تستوجب المراجعة الجدية من جهات الاختصاص، لذلك نود من هذه الجهات ، وخاصة وزارة القوى العاملة، ووزارة التجارة والصناعة، إلزام القطاع الخاص،وبعض المؤسسات الحكومية، فرض تعريب اللغة في هذه المؤسسات كاملا، مع استثناء بعض المهن الدقيقة التي تتطلب لغة أجنبية، مع الاتفاق مع الجامعات والكليات الخاصة، تطبيق هذه التعريب، واستثناء بعض التخصصات الفنية العلمية، وهذا هو الطريق الأنسب والأجدى، للحفاظ على الهوية الوطنية، ونجاح التعريب والتعمين في بلادنا .
________
*عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *