هنري ميلر: الكاتب الذي ابتلع الكناري


حوار: جورج ويكس /ترجمة: محمد الضبع

سبتمبر ١٩٦١، لندن

في عمر السبعين يبدو هنري ميلر مثل راهب بوذي ابتلع الكناري. سيدهشك بحس الفكاهة والدفء الذي يتمتع به. بصرف النظر عن فراغ الصلع في رأسه وشعراته البيضاء، لا شيء آخر يدل على أنه متقدم في السن. جسمه هزيل كما لو أنه مازال شابًا، كل حركاته وإيماءاته تدل على شبابه.
جورج ويكس
بدايةً، هل لك أن تشرح لنا كيف تشرع في الكتابة؟ هل تحدد أقلام الرصاص مثل همنغواي، أو تفعل أي شيء مشابه لجعل ماكينة الكتابة تعمل؟
هنري ميلر
لا، ليس بشكل عام، لا، لا شيء كهذا. عادةً ما أذهب للكتابة بعد الإفطار. أجلس أمام الآلة الكاتبة. إذا شعرت أنني لا أستطيع الكتابة، أتوقف فورًا. ولكن لا، لا أملك أي مراحل تحضيرية تسبق الكتابة.
جورج ويكس
قلت مرة بأن شيئًا ما يسيطر عليك حين تكتب؟
هنري ميلر
نعم، بالطبع. اسمع. من الذي يكتب الكتب العظيمة؟ نحن لسنا من نوقع أسماءنا على الكتب. من هو الفنان؟ إنه رجل لديه قرون استشعار، يعرف جيدًا كيف يربط التيارات في الهواء، في الكون بأكمله. من بإمكانه أن يبدع شيئًا من الفراغ؟ كل ما نفعله وكل ما نفكر به موجود قبل أن نأتي، ما نحن إلا وسطاء، هذا كل ما في الأمر. لماذا تظهر الأفكار العظيمة والاكتشافات العلمية الكبرى في أماكن مختلفة من العالم في الوقت نفسه؟ العناصر التي تشكل قصيدة عظيمة أو رواية أو أي عمل فني آخر هي ذاتها. هي موجودة في الهواء، ولكنها لم تمنح الصوت. إنها بحاجة إلى الرجل، المترجم، كي يحضرها للضوء. وبعض الرجال يسبقون أزمنتهم. ولكن في هذا العصر، لا أعتقد أن الفنانين بإمكانهم التقدم على زمنهم كما يفعل رجال العلم. الفنان متأخر في هذا الوقت، خياله لا يساعده على اللحاق بالعلم. 
جورج ويكس
لطالما كنت مفهومًا ومقدرًا في أوروبا أكثر من أمريكا أو إنجلترا. كيف تفسر هذا؟
هنري ميلر
حسنًا، من الأساس لم تكن لدي فرصة لأُفهم في أمريكا لأن كتبي لم تطبع هناك ولم يسمح بتداولها. ولكن بغض النظر عن هذا، برغم أنني أمريكي مئة بالمئة (وأنا أتأكد من هذا يومًا بعد يوم)، إلا أنني استطعت الاتصال بالأوروبيين على نحو أفضل. استطعت الحديث معهم، استطعت التعبير عن أفكاري لهم بسهولة، وهذا ساعدني على أن أُفهم بسرعة. لقد كانت علاقتي بهم أعظم من علاقتي بالأمريكيين.
جورج ويكس
قلت ذات مرة أن الفنان في أمريكا لن يُقبل أبدًا إلا إن قام بالمساومة على نفسه. هل مازلت تشعر بهذا الشعور؟
هنري ميلر
نعم، أكثر من أي وقت مضى. أشعر أن أمريكا ضد الفنان بشكل أساسي، الفنان هو عدو أمريكا، لأنه يقف بجانب الفردية والإبداع، وهذه فضيلة غير أمريكية بطريقة ما. ومن بين كل دول العالم -باستثناء الدول الشيوعية طبعًا- نجد أن أمريكا هي الأقرب للتحول إلى آلة وإلى روبوت.
جورج ويكس
هل التقيت بجورج أورويل؟
هنري ميلر
التقيته مرتين أو ثلاث مرات، خلال زياراته لباريس. لن أقول عنه بأنه صديق، بل مجرد شخص عابر. ولكنني كنت معجبًا بكتابه عن باريس ولندن؛ أصنفه من الكلاسيكيات. إنه أفضل كتبه. ورغم أنه كان رجلًا رائعًا بطريقته الخاصة، إلا أنني أعتبره غبيًا. كان مثاليًا كغيره من الإنجليز، وكنت أراه مثاليًا ساذجًا. رجل لديه مبادئ. وهذا النوع يصيبني بالملل.
جورج ويكس
برغم كل كتاباتك، إلا أنك تصنف كرجل متدين جدًا. 
هنري ميلر
نعم، أنا متدين ولكن دون أن أتبنى أي دين. ماذا يعني هذا؟ يعني ببساطة أن تملك مرجعًا للحياة، أن تكون في ضفة الحياة بدلًا من ضفة الموت. مرة أخرى أقول أن كلمة “حضارة” تقترن في ذهني بالموت. عندما أستخدم هذه الكلمة أرى الحضارة كشيء محبط ومعطّل ومسفّه. لطالما فكرت به بهذه الطريقة. لا أؤمن بالعصور الذهبية. ما أقصده أن العصور الذهبية كانت ذهبية لعدد قليل ومحدود من البشر. لمجموعة من المختارين، أما الأغلبية فدائمًا في المعاناة، لقد كانوا جهلاء ومتعلقين بالخرافات، لقد كانوا مسحوقين، تخنقهم الكنسية والدولة. مازلت مؤمنًا عظيمًا بشبنغلر، إنه يجمع المتناقضات بين الحضارة والثقافة. الحضارة هي تصلّب في شرايين الثقافة.
جورج ويكس
بماذا تشعرك فكرة أنك كاتب مشهور عالميًا تحصل كتبك على أعلى المبيعات بعد ثباتك على مأزق الفنان المبدع كل هذه السنوات؟
هنري ميلر
حقيقة لا أشعر بأي شيء تجاه هذا. إنه غير حقيقي بالنسبة لي. لا أجد نفسي متورطًا فيه. وعلى العكس، أجد أنني لا أحبه. لا أحصل منه على أي متعة. كل ما أراه هو المزيد من التشويش في حياتي، المزيد من الاختراقات، المزيد من الهراء. الناس يهتمون الآن بقراءة شيء لم يعد يهمني. يعتقدون أنني سأهتم به لأنهم مهتمون به ويبحثون عنه بشغف. يعتقدون أنه شيء عظيم بالنسبة لي أنني أصبحت مشهورًا ومقبولًا بينهم أخيرًا. حسنًا، أشعر أنني كنت مقبولًا منذ وقت طويل، على الأقل لدى مَن كنت أهتم لرأيهم. أن يعترف بك الغوغاء، هذا شيء لا يعنيني. بل إنه مؤلم بعض الأحيان. لأنهم يعجبون بأعمالي للأسباب الخاطئة إنها علاقة مثيرة لا تعني بالضرورة أن كل هذا التقدير خاص بقيمتي الحقيقية. 
_______
* عن مدونة “معطف فوق سرير العالم” للشاعر والمترجم محمد الضبع

شاهد أيضاً

فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“

(ثقافات) فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“ بقلم: إدريس الواغيش في البَدْءِ كان جمال الطبيعة وخلق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *