رجم الشّوك / قصة قصيرة


* ناصر الريماوي

خاص ( ثقافات ) 

بهذا كتبتُ لهم …
كلما تمايلت اشجار “الأكي دنيا” تحت النافذة، كنتُ أقول: هذه روحها قد اشتاقت للطريق وثرثرات البيوت. قالت لي يوماً: بأن الروح تظلّ توّاقة للمكان، تعْلقُ في آخر صوت شيّعها، وبأنها تظلّ شفافة، نقيّة تشتاق لكل شيء، يغمرها الحنين، ليحملها نحو آخر بيت وأمسية، وأخذتم تؤكدون: بأنها قد واظبت على ترك رسائلها فوق غبار المرآة في غيابي، ولأربعين ليلة…! 
لم تنقطع الرغبة في الانعتاق من قرية كهذه، همَسَتْ لي قبل رحيلي الأول: قريتنا هذه منهوبة بالرحيل والموت، هو مدخلها الذي يشحذ قاطنيها بهذه الرغبة، صدقني لن يبقى أحد…!
وهجرها أغلب الناس في غيابي، لمحت بين أكوام الشوك وشجر الزعرور، أضرحة كثيرة تناثرت حتى اختلطت بقبور الموتى، بعد شهور، تخلّت عن حضورها اليسير ليغدو مرورها رهنا بالصدف، فكلما أفتقدتُ لوشوشات الطيور على اشجار النافذة في الصباح، ليتراكم الظلّ سريعا على اعتاب الظهيرة، كنت أدرك بأن روحها لن تمرّ بالمكان، وبأني سأفتقد لحروفها على المرآة، ليس لأنها لم تترك رسالتها المعتادة عليها وترحل، بل لأن الطريق لم تعد تفضي لشيء، ولا حتى إليّ، وبأن أرواح الأحبة كالنفوس، قد تتبدل حين تألف عالمها الجديد… لتهجرنا خلسة. 
تكّوم شوك كثيف مع الوقت أيضاً، نبت من عدم، تطاول فوق سلاسل الحجارة حول خاصرة البيوت ثم جاور الباحات الخلفية وأشجار البساتين، ولم يأبه أحد ممن بقوا سوى للطريق ولحفيف اشجار الكينا على مدخل القرية، وأنا رحتُ احلم بتلّة اللوز الأخضر خلف غرف “العقد” القديمة، نسطوا عليها حين كنّا صغارا في غفلة من أهلنا، أيضا… تفشى بين ضريحي وقبرها شوك مماثل، تجاوز شاهدينا، ليزحف نحو نعش فارغ الا من بعض متعلقاتي وبين جسد مسجى لها انهكه الانتظار…، لكن أحداً منكم لم يبح لي بالسرّ، مثلما اخفيتم سرّ ضحكتها وما أوحت به حين تبدل وقعها على اسماع الجميع، قبل أن تموت… 
بهذا كتبتُ لهم بعد رحلتي الثانية، والاخيرة، لكنهم رجموني بالعتاب واللّوم في كل الردود :
– لا، لا … أنتَ لا تعرف شيئاً…، ضحكتها تلك لم تكن لتوحي بأي شفقة، أنتَ من جاء بعد ليلة الأربعين من موتها، وراح يجمع أسرار الملامح في عناد، يلتقط بقايا وجودها المقتضب من بين أشجار الطريق ويعبث بالوقت، ضحكتها لم تكن بهذه القسوة ايضا، كانت عسليّه تكسر من حدّة السواد بيننا حين يلفنّا السّهر بعتمة الليل، أنتَ من جاء بعد رسائل الشوق الأربعين، ليرمي لنا بدهر كئيب على رملها الطري ويرحل، لم تكن ضحكتها تتسول عطف أحد، حتى بعد موتها، لأربعين ليلة وهي تتلو حزنها وحيدة على مرآة سريرك الفارغ، 
حتى استقام موتها، لكنها لم تنبش ولا لمرة واحدة في اسرار غربتك، أو تستجدي منها رجوعك… !
يومها، عبَرَ نعشك اسفل النافذة وحاذى اشجار “الأكي دنيا” التي تطوق باحة “العقد” قبل أن تدلف به الاكتاف عطفة الشارع المترب نحو مثواك الأخير، كنّا نراها وهي تتكيء على حلق النافذة الحجرية، تغمض عينيها وتهزأ بالجميع… وكأن غيابكَ لا يعنيها، شيعتك ببرود يومها لتهمس لنا: أنا لا انكر غيابه، لكنه فأل سيء… “رجم الشوك” تقتلني بهذه العادة…!
“رجم الشوك” كانت كغيرها… فلكل قرية دربها الغافي على وجع الفراق، محفوفه إما بسرو الكآبة او كينا المرار، الزعرور شجر المقابر العارية، يلفها بستر أسماء كلحت على كل الشواهد القديمة…، وأبت هي ان تضيف شيئا إلى نعشك… مثلما فعلنا، سخرت منّا ونحن نلقي فيه بعضا من متعلقاتكَ الزهيدة، لمحْتُها تسترد ابتسامتها الساخرة أمامه لتلقيها في وجوهنا. امام حفرة الضريح، وبعد ان تفرّق أهل القرية، راهنت على قرب رجوعك وبأن رحيلك لا يستحق منّا إشهاراً كهذا، وبأنه مختلف تماما عن غياب الآخرين…
وحين اوغلتَ في الغياب أكثر… كانت تخطف منّا أبرة المذياع في النهارات القائظة، لتطارد ظل أشجار التين و”الأكي دنيا” في باحة “العقد” لتستمع لرسائل الشوق في الشتات، قبل أن تعود إلينا بجبين مقطب يشي بانكسارات عميقة. في الامسيات الكثيرة التي تلت، كنّا نراها تسرج وحدتها بالصمت، تشرد طويلا صوب لفيف اشجار السرو وقمم الكينا، حول مدخل القرية، ذلك الطريق الذي يلفظ بالراحلين إلى التلال البعيدة أو يأتي بهم من مدن الشتات، هكذا … حتى تغفو الحقول على لفح نسائم باردة لتستفيق هي، تطالعنا، تضحك بصفاء…
تغلق النافذة في وجه الليل، ثم تنام دون أن تطفيء السراج.
بعد حين… بدأت تعتاد على استباحة أطراف الطريق التي تمرّ بالمقبرة وتفضي للشتات، عند بوابتها كانت تذعن مرغمة تحت وطأة الشوق لقسوة غيابك، لتعترف أخيرا بأن النعش لميت وبأن الرحيل يلزمه اكثر من جنازة، قالت لنا ذات مرة وهي تشير إلى ضريحك: هذا الشوك، ينبت في صدري، ليكبر هناك …!
تعهّدَتهُ بالعناية ولزمن جاوز حد الصبر بكثير، واظبت على اقتلاع الشوك من حوله كلما تكوّم لتبقي عليه في صدرها… حتى فاض يوما بما تبقى لها من روح، روحها التي ظلّت لأربعين ليلة تطوف بالمكان قبل رجوعك. بعد زمن قصير… لم يبق من أهل القرية أحد، ليشيع نعشاً فارغاً بحق من غلبته الشهوة فرحل خلسة، وزحف الشوك بين الطرقات ثم طوّق البيوت لتستوطن بينها حلكة قاتمة، تلاها سكون أغرق الحقول بصمت مقيت، الا من اصوات الجنادب في الليل ونعيق البوم، وحده بيت “العقد” ظل على حاله، فذؤابة الفانوس في الغرف العتيقة لم تخمد، منذ غيابك الأول وهي ترشح بالظلال، ظلها الذي غاب وظل طفلين آخرين وقعا على تلة لوز أخضر حول فنائها الخلفي، ثم تفرّقا… للأبد!
______________
*قاص من فلسطين يقيم في السعودية 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *