*محمد محمد الخطابي
( ثقافات )
بمناسبة اليوم العالمي لفلسطين
إخواننا الفلسطينيون ما فتئوا يعانون الأمرّين، التعنّت والتنكيل الإسرائيلي من جهة فى السّاحة أيّ على الأرض فى مختلف المناطق والجهات الفلسطينية، ومن جهة أخرى الشّقاق الداخلي، والتشرذم والخلافات وتصدّع جدار أو بالأحرى صرح الوحدة الوطنية المنشودة بتعرقل تحقيق المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية التي تتعثر وتكبو كلما همّت بالإنطلاق والخروج من القمقم الذي زجّت بداخله لأسباب لا تخفى على أحد، ويا للعجب فقد يؤول ذلك التعثّر، أو ترجع هذه الكبوة فى بعض الأحيان لأسباب واهية مثل “تبادل الاتّهامات” أوحدوث “مشادّات كلامية حادّة” قد تنشب بين شخصيّات وازنة ،أو قادة بارزين من مختلف الفصائل الفلسطينية، ولعلّ الله يأتي بفرج قريب، ونأمل أن تعود المياه إلى مجاريها ، وآخر الليل الطويل نهار.
الاعتقالات،والتعسّفات ، والمواجهات الأخيرة بين الشرطة والمتظاهرين أمام محكمة حيفا المركزية. الإضرابات الشاملة للأسرى الفلسطينيين الأبطال التي عمّت السّجون الإسرائيلية الرهيبة فى المدّة الأخيرة يزيد من تأجيج الوضع القائم على مختلف المستويات، هذه السجون التي لا تعرف معنى للشّفقة والرحمة، حيث تضرب إسرائيل عرض الحائط بكل العهود، والمواثيق الدّولية التي لها صلة بحقوق “الأسرى”المعترف بها دوليا ، ناهيك عن سوء المعاملة التي يوسم بها هؤلاء الأسرى الفلسطينيون داخل هذه الدهاليز المظلمة ، وتعرّضهم لأقسى وأعتى ضروب التعذيب والتنكيل التي يعانون منها دون انقطاع، ممّا أدّى ببعضهم إلى الاستشهاد داخل هذه الأقبية المعتمة، واستمرار المواجهات الشعبية المتوالية، والمتواترة على جميع الأصعدة مع قوات الإحتلال، وسواها من التجاوزات الخطيرة التي تقترفها السلطات الإسرائيلية دون خجل أو وجل، ممّا قد يقلب موازين الأمورالقائمة فى الوقت الراهن رأسا على عقب .
التحدّي والإصرار
القضيّة الفلسطينية.. قضيتنا جميعا ، طال عليها الأمد، وما فتئت تتغلغل فى أفئدة وقلوب كلّ المحبّين العاشقين للحريّة والمتعطّشين للكرامة والانعتاق فى كلّ مكان، من كلّ الجنسيات والإثنيات والأعراق ، إنّ المحن والأهوال التي عانى وقاسى منها الكثيرهذا الشعب الصّامد لم تثنه قطّ عن تقديم التضحيات، تلو التضحيات لتحرير أرضه السليبة، وصون كرامته،وإقامة دولته، فى خضمّ ما أصبح ينعت أويعرف بأمّ الهموم والعذابات العربية التي حاقت بهذا الشعب المناضل منذ “وعد بلفور” المشؤوم 1917، مرورا بالتقسيم اللعين 1947، و قيام ما يسمّى بـ”دولة إسرائيل” 1948، وصولا إلى “النكسة ” 1967. وأخيرا الفرقة ، والشقاق، والشتات.. إنّها أحداث تاريخية مؤلمة، نراها تترى نصب أعيننا، و مفاجآت مؤلمة خبّأها القدرللعديد من أبناء فلسطين الذين رمت الأقدار بكثيرين منهم خارج وطنهم، وبعيدا عن أرضهم قهرا وقسرا، فانتشروا فى بلاد الله الواسعة فى المهاجر، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه،ولكنّهم مع ذلك ظلّوا أبدا مشدودين إلى أرضهم، متشبّثين بحقوقهم المشروعة ، ذلك أنّ” النواة” أو” المادّة الخام” التي صنع أو صيغ منها هذا الشعب، هي مادّة من نوع خاص ، فقد ألهمه وأعطاه الله طاقة لا نظير لها من الصبر والجلد، والتحمّل، والتمرّس، والمواجهة، والمقاومة، والتحدّي، والإصرار، ما لم يعط لأيّ شعب آخر. فقد عملت الصهيونية العالمية منذ ذلك الإبّان دون هوادة ولا كلل، ولا ملل من أجل القضاء ليس فقط على هذا الشعب واستئصاله من جذوره، وطمس هويّته ،وتشويه ثقافته، ومحو كل أثر له، بل إنّهم حاولوا محو حتّى جغرافيته وتاريخه في حملات مسعورة باستعمال مختلف ضروب الحيل والأكاذيب، والدسائس، والخسائس، والمكر والمكائد لتحقيق هذه الغايات الدنيئة.
وانطلقت الثروات والانتفاضات المباركة الواحدة تلوالأخرى، وطفق الشعب الفلسطيني فى كتابة صفحات جديدة من تاريخه البطولي الناصع، حاملا رمز كفاحه وثورته الكوفية الفلسطينية المرقّطة، أوالمنديل الفلسطيني، وغصن الزّيتون، وإرادة لا تقهر فأذهل العالم، وأعاد إحياء هويّته وشخصيته وجذوره وذاكرته التاريخية والثقافية والتراثية الجماعية من تحت الأنقاض.
الأبطال الفلسطينيون الشهداء من كلّ الأعمار ما زالوا يروون ثرى أرضهم الطاهرة، وما فتئت الآلة الحربية الإسرائيلية المتوحّشة تقتّل وتنكّل بهذا الشعب بدون رحمة، وتسلبه هويّته، وأراضيه ، وقراه، ومزارعه، وضيعه، وتزجّ بأبنائه وبأحفاده في غياهب جحيم السّجون والظلمات ، ليحرموا ليس فقط نعمة صلة الرّحم مع ذويهم،وأقاربهم، وأهاليهم وخلاّنهم،والهواء الطلق، والنّسيم العليل، وزرقة السّماء، ونور الضياء ، بل ليحرموا كذلك القوت اليومي لسدّ الرمق. وما انفكّت الأنفس تتنفّس الصّعداء، وتعدّ العدّة للمراحل القادمة الحاسمة من كفاح هذا الشعب،وما انفكّت ألسنة اللّهب تتصاعد، وأعمدة الدخان تتعالى فى كل مكان. إنّهم يستشهدون من أجل بلادهم لانّهم صادقون في حبّهم لها .
المصالحة والمصافحة
الأشقّاء المشهود لهم بالشّقاق لم يقتنعوا بعد، بأنّ المسألة ،مسألة بقاء أو لا بقاء ليس إلاّ، إنّهم فقط يذرفون الدموع حرّى ساخنة، وينزوون بأنفسهم “الشّاعرة” لينظموا لنا كلمات وأشعارا مسجوعة مشحونة بالغضب والانتقام.. وتمرّ الأيام وتنقضي الليالى، وفي رحمها وخضمّها تتولّد وتستجدّ الأحداث، وننسى أو نتناسى ما فات،المآسي ما زالت تترى أمام أعيننا، وعلى مرأى ومسمع منّا ، فيشاطرنا العالم طورا أحزاننا، وأحيانا يجافينا… ونكتفي بالتفرّج والتصفيق والتهليل، والتحسّر بلغة مؤثّرة باكية، شاكية، كئيبة ،حزينة، مذلّة . أمّا الآخرون “التائهون” فإنّهم يتعنّتون ويتمنّعون ويتمسّكون بكل” شبر” غنموه، وبكلّ ” مدينة طاهرة ” علقوا بها، يبسطون نفوذهم وتأثيرهم ليس على الأرض وحدها بل على العقول، والألسن، والقلوب، وهم ماضون في غطرستهم، متمادون فى تبجّحهم وكبريائهم…
ما أكثر لوحات الشّرف التي نزهو بها، وتمتلئ بها دورنا ، وتعلو جدران قصورنا وبيوتاتنا ، وما أكثر النياشين والأوسمة التي نمتشقها ، وتنمّق صدورنا ، وما أكثرما نعود إلى التاريخ نستلهم منه الدروس، والعبر، والحكمة، والخبر، ونستشفّ منه معنويات جديدة لاستئناف مسيرتنا.. ولكنّ لا تعمر راحات أيدينا فى آخر المطاف سوى قبض من ريح ، أو حصاد من هشيم.
إننا قوم رحماء بغيرنا ، ،مشهود لنا ومشهورون بالصّفح ، والتسامح، رحماء بالصغار والكبار،معروفون بهذه الثنائية المركبّة التى تجمع بين القوّة والليّن، والبّأس والشدّة، والصّلابة والطراوة، والرّخاوة ، فنحن قوم تذيبنا الأعين النّجل، على أنّا نذيب الحديدا … طوع أيدي الغرام تقتادنا الغيد، ونقتاد فى الطّعان الأسودا…. وترانا يوم الكريهة أحرارا ، وفى السّلم للغواني عبيدا .!…
أمّا هم فلقد إقتدّت الرحمة من قلوبهم، وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ ،لا يفرقون بين الصغير والكبير، إنّهم ينكّلون بدون تمييز، وعزاؤنا الوحيد أنّ التاريخ يسجّل لهم “المجازر” ويدوّن لنا “المفاخر” ويصوّر أيديهم الملطخة بدماء الأبرياء.
ما زلنا نستدرّ عطف العالم، ونستجدي رحمته، ونصف له الأهوال، والفظائع التي ترتكب في حقّنا ، إنّنا حالمون ،إ نّنا ما برحنا منشغلين بأمورنا ، منبهرين مشدوهين بالأوار المستعر وسط ساحاتنا، وداخل بيوتاتنا، وأحيائنا ، وأفئدتنا. أمّا هم فمنذ أن دنست أقدامهم أرض السّلام، ما فتئوا يفتكون بنا وينكّلون.
ما زال الأمل معقودا على” المصالحة والمصافحة” ، وما فتئنا نأمل بإمعان فى هذا التقارب والتصافي، وفى إقصاء البعاد والتجافي، ونتوق إلى التداني والتفاهم، والتئام كل الفصائل والتراحم، وتسخير واستغلال كل الطاقات والخبرات ، والنبش في عمق الثرى، و التراب، والتراث، لمواجهة، وردّ، وصدّ فداحة الموقف الذي أمسينا نتلظّى، ونتردّى فيه ، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل !.
السّموأل القديم والسّموأل الجديد.. !
كل منّا مرسوم على محيّاه الجانب المقطّب من وجه موناليزا أو جيوكاندا الشهيرة، فلا هو بالوجه الحزين ولا بالجذل، ولا هو بالمحيّا الباسم ولا الباكي. صيفنا قائظ مستعر، وخريفنا شاحب مكفهرّ، وشتاؤنا صقيع منهمر، وربيعنا مزهر مزدهر… كلّ يحمل همومه، وقلقه، وهواجسه ،وأوهامه، وعبئه فوق ظهره ويمضي، ولا أحد يبالي بآلامه، وآهاته، ومعاناته، ولا أحد يكترث بأحزانه وعذاباته.
” صمويل ” الجديد لم يعد يبالي بأيّ شئ مثلما كان عليه الحال مع جدّه “السّموأ ل” القديم، الذي كان يضرب به المثل فى الوفاء عند جيرانه وخلاّنه العرب الأقدمين، فكان قائلهم يقول فى مجال إحترام المواثيق، والوفاء بالعهود القولة الشهيرة : “أوفى من السّموأ ل” ذاك البعيد الغائر في الزّمان والمكان، وسديم المسافات السرمدية ، على عكس بلديّه القريب ،كان يأبى أن يدنّس عرضه ،أو أن تهان كرامته بشتّى ضروب اللّؤم،والمكر، والخديعة ، فكانت تبدو وتغدو كلّ الثّياب الرثّة، والأسمال البالية التي يرتديها جميلة عليه …!
لنا تاريخ حافل، وماض تليد ، وتراث زاخر،…ولكن أعوادنا هشّة واهية ،انطلقنا نتوق نحو بطولات فردية ، دونكيشوتية ، وتمرّدية، وهمية ، واهية . دخلنا حروبا ، فكشفنا عن مدى ضعفنا ، ووهننا، وخذلاننا، وخيبتنا ، ولزمت الكآبة محيّانا ، وسكنت الحسرة قلوبنا ، والحرب سجال، والأيّام دول…
فى ظلّ ما تشهده الأوضاع الراهنة من نزاعات مذهبيّة ،ومواجهات أيديولوجيّة ، وحروب دينيّة ، وصراعات طائفيّة، وخلافات سياسيّة ، ومساجلات لسانية ،ولغوية غارقة فى الوحل والضحل والتفاهة .. ! كلّ هذا المخاض العسير، وهذا الأوارالمستعر ، الله وحده يعرف ما هي عاقبته، وما هو مآله ، ومنتهاه.
________
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب يعيش فى إسبانيا، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا) .