حاوره / أيمن أبو عبيد
ولكن من هو المثقف الفلسطيني؟ فالمثقف الفلسطيني مفهوم واسع جدا . لأن ثقافتنا الفلسطينية مكانية، هل هو من تحت الاحتلال؟ أم هو من في الخارج؟ إذ إن المثقف الفلسطيني في الخارج يحمل احتلاله معه، عمليا يحمل معه فلسطين المحتلة، وبالتالي يعبر عن الجرح . وأينما كان المثقف الفلسطيني في أية بقعة جغرافية، عليه أن يدفع ثمن جغرافيته أيضاً، وبالتالي فكرة تعريف المثقف الفلسطيني فكرة معقدة جداً، لكن إذا تكلمنا عن المثقف الفلسطيني داخل الأرض المحتلة الآن، برأيي أن أمامه مهمات كثيرة جداً، وأنه منشطر على نفسه في أولوياته وهمومه وعن ماذا يعبر . وللأسف انخفضت السقوف، انخفضت جدا، وأصبح المبدع الفلسطيني يميل إلى ما هو جمالي على حساب ما هو نضالي، وأصبح الذهاب إلى ما يسمى الجمالي وكأنه تعويض عما يمثل إنكارا للجانب النضالي وهزيمته . . للأسف هذه هي الحالة .
خذ مثلاً، إدوارد سعيد، متى نعتبر أنه فلسطيني أو متى نعتبر أنه أكد فلسطينيته؟ في أيامه الأخيرة، أنجز ما أنجز ضمن منظومة أوروبية أمريكية “الأنجلوسكسونية”، وكان عقلاً جبارا، وربما أفضل من انتقد المقولة الاستعمارية البيضاء البروتستانتية من خارج هذه المنظومة، ولأن الهويات لا تموت، أشار في آخر أيامه إلى أنه فلسطيني ويريد أن يكون فلسطينياً . ويعبر عن فلسطينتيه تماماً بإبداعه، وهذا مثال صارخ، وهناك العشرات، بل المئات الذين يعبرون عن فلسطينيتهم بجرأتهم وتغريبهم، فنحن أقلية، والأقليات عادة ما تكون أكثر جرأة في التعبير، وأكثر جرأة في القفز والانطلاق، ولهذا تحديات الفلسطيني في الخارج أكبر بكثير عن الفلسطيني في الداخل .
الانتقال من ميدان المقاومة إلى طاولة المفاوضات، كيف انعكس على الأدب الفلسطيني؟
– أدب ما بعد أوسلو مختلف تماما عن الأدب ما قبل أوسلو، حيث أصبح أكثر هامشية وفردية، ومعبّراً عن الهوية الذاتية، واختفت صورة المقاوم والرموز الوطنية، وأصبح البطل مهموماً مهزوماً ومنشطراً على نفسه . وهو أدب مختلف كلياً وتختفي فيه المقاومة، وتكثر فيه الأسئلة، والشك والهواجس، أدب متمركز حول الفرد وهمومه ويتجنب الاشتباك، ويحاول أن ينفتح على الثقافات الغربية، وأن يكون ما يسمى بالحداثي، وهي كلمة غامضة جدا ولكنها تستعمل .
والمبدع العربي أيضاً قام بعمليتين مختلفتين، بمعنى أن عنده من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ما يكفي ويزيد، وكان مشتبكاً مع مدينته ونظامه، وكان يحلم بالقيم الغربية المعروفة، كالديمقراطية والحقوق والمساواة، وبالتالي المبدع العربي رأى أن التحرر الاجتماعي والسياسي كفيل بتحرير فلسطين، وهذه المقولة حكمت العمل الثقافي العربي طوال مدة من الزمن، ولكن الهزائم الكبرى، ومنذ عام ،1967 جعلت المثقف العربي أيضاً ينكفئ على ذاته أيضاً، وبرأيي انه منذ ذلك التاريخ تشرذم الأدب العربي وتفتت، وذهب أكثر نحو تقليد الغرب من دون البحث عن مقولته الأساسية . وأريد أن أكون صريحاً في ذلك، فبرأيي أن المقولة الفنية العربية في العقود الأخيرة، عبّرت عن الغرب أكثر مما عبّرت عن نفسها، وكانت تقليداً أكثر منه إبداعاً، وهذا يظهر جلياً في الفن التشكيلي والغناء والمسرح والرواية أيضاً .
نحن في حالة انحدار حضاري، والفن العربي في انحدار، ولم تقدم مقولات كبرى بتاتاً، وإذا أردنا أن نعرف أزمة المقولة العربية يكفي أن ننظر إلى الشعر، وصل الشعر العربي إلى طريق مسدود، والقصيدة العربية بسبب أنها لا تحمل شيئاً جديداً، عبّرت من تلقاء ذاتها عن الانحدار، أنظر كيف هدم البيت القديم من دون أن يبنى بيت جديد، وكأن القصيدة أصبحت انتحاراً تحت ذريعة الحرية والنقد والبحث عن جديد، وأدونيس قاد هذا التيار ولكنه لم يقدم بديلاً . وهذا الهدم كان تعبيرا عن فكرة الانحدار والهزيمة والانتحار . فالمنهزم يبخس جداً ما لديه دون أن يجد بدائل، والقصيدة العربية كانت تاريخنا وديواننا، أما الآن فهي ليست لا تاريخنا ولا ديواننا إطلاقا . وأصبحت هذياناً وتيهاً .
أتى الانقسام الفلسطيني ليعزز فكرة الإسلام والعلمانية، ومرة أخرى نبحث عن صراع، ولهؤلاء اوجه سؤالي: هل نحن نعيش عيشة علمانية؟ هل نتمتع بخيارات العلمانية؟ نحن محتلون بأسلحة العلمانية وفكر العلمانية، والفكر الليبرالي الذي نقاتل من أجله هو الذي يحتلنا، فالليبراليون الاستعماريون الذين صدروا لنا فكرة الليبرالية، لنقاتل من أجلها هم الذين يحتلوننا باسم الليبرالية وباسم الحكومة الديمقراطية وباسم العلمانية أيضاً، وبالتالي برأيي عندما تصبح ضعيفاً ومهزوماً، تصبح لا تصدق دمعتك وجرحك إلا إذا صدقه الآخرون، وهكذا ستستصغر دمعتك لأن الآخرين استصغروها . وهذه قمة الضعف والهشاشة وعدم الأصالة وعدم الإيمان بتراثك وعقائدك . بمعنى آخر لأننا منهزمون أصبحنا حتى ونحن نُقتل نريد للتلفزيون أن يصورنا حتى يصدق العالم أننا مقتولون وهذه قمة الهزيمة .
وحتى أكون دقيقاً، لم يعد يبهرني الغرب إطلاقا، ولم أعد معنيا أن أقنع الغرب بشيء، واصبحت أذهب نحو عروبتي وتراثي الإسلامي أكثر، بمعنى استنهض في كتاباتي شخصيات تاريخية، أملأها بما أفكر فيه وأعتبرها عملية تحايل كبرى، أعبر من خلالها عن أفكاري وعني أنا العربي المسلم الذي يعيش في مكان يبدأ التاريخ به، ولهذا أقول إن العلمانية لا تعجبني، ولا تعجبني فكرة الدولة الديمقراطية ولا الليبرالية، وأنه يكفي كذباً علينا .
ولا يعجبني فكرة أن اتكلم بأسلوب الأوروبي، فأنا لست أوروبيا ولن نكون متشابهين، ولم أعد اريد أن أبني مدينتي على طراز أوروبي وآكل وأشرب كأوروبي وألبس كأوروبي .
وقد يسأل سائل: ما هو البديل؟ البديل أتلمسه ببطء وخجل وتوجس، ولهذا أنا روائي ولست مفكراً . ما أعرفه أنني لم أعد أريد النمط الغربي، فأنا أقتل بيد الغرب، واحتل باسم الديمقراطية .
وما يقلقني أيضاً أن هذه الثورات أغلبها قريبة من الغرب الاستعماري، الذي ساعد وواكب ولاحظ ودعم بعض أو كل هذه الثورات، وهذا خطر جداً .
والملاحظة الأكثر خطورة، أن الثورات أعادت إلينا الانقسام القديم، الانقسام الذي شهدته بدايات القرن الماضي، وهو الحديث عن العلمانية والإسلام، والدولة المدنية والدولة الدينية، وكأن هناك مشكلة بينهما، وهذا كلام فارغ ونقاش مشكوك فيه حسب رأيي، وأدعي أنه نقاش غربي، فالإسلام يطرح فكرة الدولة الدينية والمدنية، وليس هناك وجود لمفهوم الدولة بالمعنى الغربي في ثقافتنا، ولم يكن هناك أبدا تصنيف ما إذا كانت هذه دولة دينية أو مدنية، فالإسلام اخترع مفهوماً جديداً ومختلفاً، ولم يفرق بين السياسة والدين، والسياسة الشرعية وسياسة المجتمع تنبعان من أطر تشريعية كبيرة لا يمكن القفز عليها إطلاقا، وفكرة الدولة التي تعتمد على الحقوق والليبرالية والمساواة، هي أفكار ليست ضد الإسلام، فالإسلام يطالب بالمساواة ويطالب بالحقوق المدنية .
تأجيج النزعة الطائفية
الإعلام العربي بعد الربيع العربي، أصبح كثيراً كثرة مريبة، أصبح وكأن كل هوية تريد إعلاماً أو كل إعلام يبحث عن هوية، هذا تعدد مريب، فأن يكون هناك في بلد 80 أو 50 قناة، يكون الأمر مريبا، ويطرح سؤال من يبحث عن الآخر، هل هذا للتفكيك أم للتجميع؟ ولا ننسى أن هذه القنوات الإعلامية ممولة، وهذا يريب أكثر، والمسألة الأخرى أن هذا الإعلام أصبح يعبّر ويركز على الفروق الطائفية العجيبة، فاكتشفنا أننا طوائف وطوائف متحاربة، وكأن النظام الديكتاتوري جيد، وكأنه كان يحافظ على هوية موحدة .
ولنأخذ العراق نموذجا، بعد عقد من انهيار نظام صدام حسين، الإعلام لم يقم بتجميع البلد وتوحيدها، بل فعل العكس تماما، وهذا يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا في الدول الأخرى .
وهناك مثال سوريا، التي أصبح فيها نحو عشر أو اثنتي عشر قناة للمعارضة، ألا يكفي قناة واحدة؟ هذا يدل على أننا سنفكر باثنتي عشرة قومية في سوريا؟ لا سمح الله .
وأيضاً فلسطين المحتلة، كم قناة في فلسطين وهي تحت الاحتلال؟ هل نحن بحاجة إلى كل هذه القنوات؟ هل هذه القنوات تجمع الفلسطينيين على هدف واحد أم تفرقهم إلى أحزاب معينة؟
وقد يقول قائل نحن نحتاج إلى اختلاف من أجل نتفق، كما يحدث في كل الشعوب التي تختلف وتدفع ثمن اختلافها، ثم تكتشف أن التجمع أقل الحالات تكلفة، فهل هذا ما سيحدث عندنا؟ وهل سنحتاج إلى مئة سنة لنكتشف ذلك؟ إذاً هل نتحدث عن مئة سنة من الخراب؟ حتى أكون صريحاً وهذا ما أدرّسه لطلابي، الإعلام بعد الثورات لا يبشر بالخير بتاتاً، أراه إعلاماً مغرضاً ومشبوهاً ومملوءاً بالحقد والكراهية، ولا يقول كلاماً موحداً إطلاقاً .
–