بسام سفر
( ثقافات )
مع تعقد الحياة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية بدأت التجارب القصصية تأخذ شكلاً ومضموناً غريباً يناسب كتابها دون خروجهم عن شكل البناء القصصي التقليدي – الكلاسيكي .
القاص الأردني عمار الجنيدي في مجموعته “ذكور بائسة”.. مضمون اجتماعي ذي نهايات غرائبية وهذا ما يلائم الصراع الموجود في الحياة ذاتها ما بين العوالم الداخلية والخارجة لهذه التجربة الفنية القصصية. فالكاتب لا يصنع موضوعات أدبه من الخيال, وإنما يستند بدرجة ما إلى الواقع والمجتمع الذي يعيش فيه, لأن هذا المجتمع هو الذي بنى عقل الكاتب وعواطفه وتصوراته في أساسها, أي أنه من هذا المجتمع وإليه حتى وإن تمرد عليه ورفضه, وحتى إن اصطنع لأدبه مجالاً حيوياً آخر غير المجتمع الذي يعيش فيه.
وهذا ما يفعله كاتبنا القاص الأردني عمار الجنيدي في قصصه “ذكور بائسة” الصادر عن وزارة الثقافة الأردنية رقم (٥٨) في العام ٢٠١١, وهو الذي أصدر في مجال القصة ثلاث مجموعات قبل الأخيرة وهي ” الموناليزا تلبس الحجاب, خيانات مشروعة, أرواح مستباحة”, وفي مجال الشعر كتب “وهج الانتظار الأخير, رايات على سفح الشفق, رماح في خاصرة الوجع, فضاءات شعرية (مشترك), وهو من مؤسس ورئيس الهيئة الثقافية: جماعة رايات الإبداعية, وعضو في رابطة الكتاب الأردنيين, واتحاد الكتاب والأدباء العرب, وحركة شعراء العالم للسلام. وفي هذه القراءة نقارب مجموعته القصصية الأخيرة “ذكور بائسة” من أكثر من زاوية.
نهايات غرائبية :
على الرغم من تصنيف بعض النقاد توجه القاص الأردني نحو الواقعية في هذه المجموعة كما في قصة “سوفوخليس يدفع الثمن “, فأننا نجد أن هناك تجريب واضح في عدد من قصصه خصيصاً التي تنتهي بنهايات غرائيبية تثير الدهشة لدى المتلقي كما في أكثر من قصة منها” أوغاد, المحاولة الأخيرة لإلقاء قصيدة, يده التي تركها هناك, عامل المقسم, أبو عقيل يحرث الأرض, أوراق الغرفة ٥١٣, الأزعر, الذئاب المعدنية, براءة ذمة”.
إن هذه النهايات تذهب نحو المفارقة التي تنتزع من المتلقي ابتسامة خفيفة مفارقة, كما في قصة الأوغاد حيث مدير المدرسة الذي لا يمتلك القدرة على التحديق بأكوام اللحم المهروسة والدماء التي تسيح في كل مكان مختلطة بتراب الأرصفة وبقايا المنازل المهدمة فوق رؤوس أصحابها, فشخصية المدير الحساس الإنساني الذي يتأثر مما يشاهده الإنسان الأردني:” شاهدته مرة وهو يذرف الدموع الحارقة عندما وقع العرب صكوك السلام مع إسرائيل, فأخذ يسب ويلعن رداءة الزمن الذي أجبر العرب على قبول بشروط الآخر”(ص١٠).
هذا المدير يخرج من غرفة المكتبة وعلامات الحزن ترسم على محياه :” تبعته وفي نيتي أن أعرب له عن احترامي العظيم لأحاسيسه المرهفة الدافقة ومشاعره الشفافة التي تستحوذ على اهتمامي..دخل الغرفة..رفع سماعة الهاتف:
– مرحباً أم جابر.
– أهلاً, صوتك حزين ومرتبك.
– نعم يا أم جابر, فالمناظر البشعة التي شاهدتها قبل قليل قد حركت في نفسي الاشمئزاز والقرف, لقد قررت الإضراب عن أكل اللحم…
– وماذا تريد أن تأكل إذن….
– هل يوجد لدينا سمك!!!!!!(ص١١)
هذه النهاية الغرائبية حيث لا يعد مدير المدرسة السمك من أنواع اللحوم, فاللحم الأبيض الذي يصفه الأطباء كنوع من العلاج لا يدخل في قائمة اللحم الموضوع عند المدير, ورغم كل حساسية الموضوع الإنساني في القصة والاستجابة الشكلية لمحتوى هذا المضمون إلا أنه يسأل عن لحم السمك غير المشابه للحم الإنساني الذي شاهده على شاشة التلفاز, فالمفارقة التي يقدمها الكاتب الجنيدي تستدعي الابتسامة رغم الحزن الموجود بين كلمات القصة.
أما في قصة ” يده التي تركها هناك” نجد المفارقة ذات الطابع الحركي إذ تصعد فتاة بدينة إلى الباص وهي ترتدي” قميصها الأخضر المشجر والفيزون الشفاف, وشعرها المصبوغ بالأصفر, حازت على انتباه واهتمام ركاب الباص”(ص٤٠).
هذه الفتاة تجلس بجانب شاب فيلحظ الجميع حركتها” تتحرك في مكانها على المقعد الصغير, وتهتز بلطف, يميناً وشمالاً, إلى الأمام وإلى الخلف, وكلما لاحظت إن حركاتها تجلب الانتباه’ تخفف من غلواء نهمها, وتسكن في مكانها…لم يعد يحس بيده بعدما استبد بها الخدر, حتى أنه لم يعد يشعر بها تنتمي إلى جسده الضئيل, بينما الفتاة البدينة لا تكف عن حركاتها المثيرة لتساؤلات الجميع وانتباههم…كان يلتمس العذر لنظرات الاستهجان الملمعة في عيونهم, كلما تحركت الفتاة البدينة, لأنهم لا يعرفون أن سبب ذلك كله, كانت يده اليمنى, التي تركها منذ نصف ساعة تحت الفيزون”(ص٤١).
وكذلك في قصة “الذئاب المعدنية” نجد الراوي وأصدقاءه يبحثون عن الألغام التي كانت موجودة في الحقل, ولم يستطيعوا العثور عليها, ويعود الراوي إلى القرية وهو مشغول بسؤال ” ترى من الذي نظف الحقل من الألغام؟!, هل يوجد غيرنا يصطاد الذئاب المعدنية؟”(ص٥٩).
ويسمع أصوات تنبعث من داخل المسجد, ويقترب من النافذة لمعرفة أصحاب هذه الأصوات” يا الله !..أنهم يلعبون الطرنيب في المسجد.. ونحن نموت من أجل الحصول على لغم..ماذا سيكون موقف الشيخ عبد العزيز لو وصله علم بما يجري في المسجد ؟؟”(ص٦٠).
ولا يتردد الراوي من الدخول في معركة مع هؤلاء الطائشين, فيتسلل إلى حيث يجتمعون, ويفتح الباب عليهم وتحدث المفاجأة التي لم يتوقعها ” فوجئت بالشيخ عبد العزيز يتوسط المجتمعين ويصيح بصوت عال ويضرب الورق بالأرض : (اللعب سنك والطرنيب ديناري).
المفارقة التي تقوم عليها قصص عمار الجنيدي تأتي كنوع من أنواع التجريب القصصي في فن القصة الأردنية حيث البناء القصصي الواقعي التقليدي. لكن النهاية القصصية تعتمد على المفارقة لمسار هذا البناء إذ إنها تثير الدهشة وتنتزع الابتسامة من شفاه المتلقي, وهذا يعد تجريبياً قصصياً يخلق المتعة عند المتلقي في ترقب النهاية التي قد لا تتفق مع البناء التقليدي الواقعي للقصة.
المضمون الاجتماعي للقصة:
يؤكد أرسطو أن الأساس الإبداع هو “محاكاة أفعال الناس” باعتبارها مجموعة من العلاقات والدوائر التي تبدأ بأقرب الناس إلى الكاتب, وتتسع دائرة المتلقي لتشمل الناشر والرقابة ووسائل الإعلام والقارئ, ويحاكي القاص عمار الجنيدي في قصة “المنقذون” خلاف بين الذئبات الثلاثة على قطيع أغنام محبوساً في زريبة صغيرة خلف أحد البيوت القديمة سالت الدماء من أنيابهم بعد أن أعملوها في أجساد بعضهم البعض, وكل منهم يحاول الاستئثار بالقطيع.” وفي خطوة مفاجئة اتفقوا على أن يسألوا الأغنام عمن تختار من بين الذئبات الثلاثة مالكاً للقطيع”(ص٢٦).
ويرد عليهم تيس كبير” نحن- أيها السادة – لا نطيق أن نراكم تتشاجرون بسببنا.. إن قلوبنا لا تقدر على احتمال خلافكم (…) لأنكم حريصون على تخليصنا من ظلم الراعي !!…”(ص٢٧).
وعن العلاقات الاجتماعية ونظرة الذكور إلى الأنثى نجد قصة”هرولة” التي تدخل فيها فتاة قاعة يلقي الشاعر قصيدة, وتكون الفتاة الوحيدة بالقاعة فتسمع ” ندت عن أحد الشباب تنهيدة لم يحسن كتمانها, تبعتها على الفور تنهيدات أخرى, سمعتها كلها بنشوة خائفة. ارتابت من نظراتها التي أكلت كل قطعة في جسدها, حتى خيل أليها أنهم لا يأبهون لوجود الشاعر المنهمك بإلقاء قصائده..”(ص٣٨).
وتحمل الفتاة كنزتها وتشق طريقها خارجة من القاعة. وتقف بباب القاعة. وتنظر إلى الجلبة بانشداه غريب لما يجري, فقد خلت القاعة من الجمهور” وصعقتها المفاجأة المذهلة, وهي ترى الشاعر يلملم أوراقه على عجل, ويهرول خلف الجميع”(ص٣٩).
إن الجوع للجسد الأنثوي حتى لو بنظرة تحرك الغريزة الذكورية عند كل الموجودين في القاعة حتى بمن فيهم الشاعر, فهذا المضمون الاجتماعي للنظرة الذكورية للجسد الأنثوي يفتح أفق نقاش واسع عن طبيعة العالقات الاجتماعية الموجودة في هذا المجتمع الذي يتناوله القاص الجنيدي.
أما في قصة ” جشع”, فيعرض الكاتب لأسرة الزوجة فيها متخمة بالترهل, لم توافق زوجها على ترك منصبه الوثير في المؤسسة. هددته بإصرارها على ترك إلحاح رغباته إذا نفذ قلقه.
وخاف الزوج أن يقول لها بأن خسارته بالبورصة كلفته منصبه وقرضاً من المؤسسة بعشرين ألف دينار. لكنه لم يهتم بحجم الخسارة بادئ الأمر, فمصاغ زوجته سيعوض خسارته. وعن سؤالها لماذا هي قلقة, واستحلفها بالله أن تبوح له بهمها. وجدها فرصته فراح يخبرها بالتدريج عن خسارته ” بكت وارتمت على كتفه. هدّأ من انفعالها. واسته بأن خسارتها ليست بأقل من خسارته.صاح بأعلى صوته : ” راحوا الذهبات “(ص٦٢).
وفي قصة “براءة ذمة” يقود المدرس الطالب النجيب خليل بعد أن قدم موضوعاً جيداً إلى غرفة المدير الخاصة بالمعلمين ويقول المعلم:” سأبرئ ذمتي أمام الله وأمامكم, إن خليل وأسرته يتعرضون كل يوم لصنوف العذاب الأسري من والده العصبي المزاج, والأدهى أنه أبٌ منحّل وبلا أخلاق لأنه يعاقر الخمر يومياً. انهار خليل في مكانه, هبّوا لإسعافه من غيبوبته. مترحمين على أبيه الذي مات عندما كان عمره سبعة أشهر”(ص٦٨).
كل ذلك لأن خليل كتب موضوعاً جيداً عن العلاقات الأسرية. ولم يستطع الأستاذ الفصل بين الموضوع والحياة الخاصة للطالب.
إن عملية رصد الواقع الاجتماعي في مجموعة “ذكور بائسة” للقاص عمار الجنيدي تتطلب بحثاً خاصاً في العلاقات الاجتماعية التي تعرض لها المجموعة عبر محاكاة الواقع من خلال أفعال الناس, وهذا يفتح على طبيعة المجتمع الذي يتناوله القاص.
أخيراً إن قصص عمار الجنيدي تستحق القراءة لما تحمله من الدهشة والنهايات الغرائبية .