هزاع البراري *
( ثقافات )
لم تكن المرأة يوماً كائناً هامشياً على صعيد الفعل الإنساني الجمعي، بل هي الباعث الرئيس لكبريات الأحداث، وأكثرها تأثيراً في تحولات المجتمعات، وأنظمة الإمبراطوريات والدول، فرغم كل محاولات القوى الذكورية الطاغية، لتجنب هذا الواقع وتحويل المرأة إلى تابع قليل الفعالية ، إلا أن المرأة في حقيقة الأمر كانت خارج هذا النطاق ، ولعل هذا نابع من المثل ومعاني العفة والقداسة التي أسقطت على المرأة ، وكانت بذلك عامل حاسم في ضبط فوضوية المجتمعات الأولى ، وهي قداسة جعلت كثير من صور الآلهة تمثل المرأة في أسمى معانيها أو في أقسى جبروتها ، إذ منذ بدايات الوعي الجمعي، والمرأة حافظة لأنظمة البشر الاجتماعية/المدنية، وهو ما جعلها محور اهتمام الرجل الذي أحاطها بكل شيء حتى بالأسرار والقداسة والأسلاك الشائكة والحواجز.
وبعيداً عن التحليل المثيولوجي، ونشأة الأسطورة وعلاقتها بالمرأة ، إلا أن مبعث هذه القوى المسقطة عليها، هي في أساسها نابعة من الرجل وعائدة عليه في جل تأثيراتها، بمعنى أوضح فإن تبجيل الرجل للمرأة وعشقه لها، بالإضافة لما تخلفه في نفسه من حسرات الصدور وفرح التواصل، وتلك المساحة من الغموض، التي يستشعرها الرجل حيالها، تجعلها في كثير من الأحيان مرتعاً خصبا للخيال والإسقاطات ، ومن أجل تهذيب المجتمعات الذكورية، كانت المرأة مركز القياس ومنبع الضوابط، منذ العهود الطوطمية حتى عصرنا الحاضر ، رغم ارتباط صورة المرأة في بعض الحالات والمراحل بالشر، باعتبارها شيطانية وماكرة، وتقف خلف كثير من الكوارث التي تلحق بالبشر، إلا أنها غالباً وما تكون آلهة للخصب ورمزاً للمحبة والوفاء ، بل هي تمثل حرمة وكرامة الرجل، بشكل جعلها في منزلة خاصة امتدت خلال العصور المختلفة.
ويبدو أن المكانة التي تبوأتها المرأة بكلا الوجهين، جعلتها صاحبة دور كبير حتى وإن كن أحياناً مستترات من وراء حجب ، أو كن حاضرات في مجالس القرار وفي الساحات العامة ، فإذا كان الصوت المرتفع هو للرجل، فذلك لا يعني بالضرورة أن الفعل كاملاً له ، والشواهد على ذلك كثيرة ، فقد تسابق الشعراء والفرسان والقادة، من أجل لفت انتباههن والوصول إلى منزلة الحظوة عندهن ، وهذا في حد ذاته دلالة على أهميتهن وفعالية وجودهن عبر التاريخ.
ولعل الحب والعشق هو الخيط الرفيع المكين الذي أسهم في تعزيز مكانتهن ، وهذا واقع متسق مع حقيقة الوجود والطبيعة البشرية ، فهو عشق للمرأة ولما تمثله من قيم ضرورية لبناء المجتمع ، وهذا ما جعل من المرأة ذات خصوصية، قلبت من خلالها كل الموازين ،ودفعت الرجل للإقدام على أفعال لم تخضع لحسابات المنطق والعقل ، فالناظر بعمق للبواعث الخفية أو البينة للحروب الكبيرة، سيجد أن معظمها قام واستمر سنوات بسبب المرأة والحب والرمز الذي تمثله ، فحرب طروادة الملحمية الطويلة، وما استنزفته من أرواح و موارد، كانت بسبب امرأة هربت من فراش زوجها إلى حضن عشيقها الطروادي ، فشعرت أثينا أن كرامتها مست، وبأن العار لحق بها ، فأقامت الدنيا ولم تقعدها ، كل ذلك من اجل إعادة المرأة مجبرة إلى زوجها الذي لم تطقه، ولم يكن راغباً فيها .
إذاً فالمسألة أكبر من ذلك، حتى أن حرب البسوس الشهيرة التي امتدت قرابة الأربعين عاماً ، قامت بسبب أفعال المرأة صاحبة الناقة (البسوس) التي أصرت أن ترعى في الحمى ، ثم أعابت على جساس إذ لم يحفظ كرامتها، وهي في حماه وهي المرأة الضعيفة ، فأقامت حرباً لم يوقفها سوى هلاك أصحابها.
ومن صور الحـب والحـرب التي ارتبطـت بالمرأة من خـلال صور متعددة سـلباً وإيجـاباً ، فإن العرب كانوا يصطحبون النساء معهم في الحروب الحاسمة ، حتى إذا حمى وطيس المعركة ولحقهم بعض التراجع حفزهم وجود النساء، وادخل الحماسة في قلوبهم ، فلم يخشوا الموت ولا سهام العدو ، وكثير من البدو في غزواتهم إذا شاهدوا نسائهم قد كشفن عن رؤوسهن، فإنهم في تلك اللحظة يستميتون في الذود عنهن، وعن كرامتهم التي تصان بالدفاع عن النساء قبل الأرض .
ومن كل ذلك نستنتج أن المرأة بما تمثله من قيم تسفك دونها الدماء ويضحى عندها بالأرواح والأموال، لم تكن يوماً رغم محاولات التقليل والعزل الكثيرة، إلا مركزاً للأحداث وفاعلاً هاماً في كثير من المفاصل التي غيرت مصير البشرية ولا تزال، فالمرأة التي تعاني في ظاهر الواقع صراعاً بين القبول والرفض، وبين التعظيم والتقليل فإنها هنا بين الحب والحرب، تبقى تعاني من عظم المكانة وأهوالها ، ومن جماليات العشق وويلات الحرب التي تدميها انتظاراً ، وتثقل لياليها بالفجائع ، لكنها تؤكد أن للمرأة مكانة تدنوا من التبجيل والتقديس لا يمكن محوها وإن كثرت المحاولات ولم تتوقف.
* روائي من الأردن