*إبراهيم اليوسف
استطاع النشر الإلكتروني أن يحظى بأهمية كبرى، على صعيد الثقافة والإعلام، بعد أن هيمنت، طويلاً، وسائل النشر التقليدية، في ظل استلزام درجة الوعي البشري ضرورة الاستعانة بالكتابة، على تعدد أشكالها، وسيلة للتوثيق، والتواصل، والتفاهم، منذ الكتابات الأولى على الرقُم وجدران الكهوف، ومروراً باكتشاف الورق، والاستعانة به، وبروز الحاجة إلى الريشة وإلى القلم، فآلة الطباعة، ووصولاً إلى دخول الكمبيوتر في الحياة العامة، حيث تم إلغاء دور القلم، وظهور الكيبورد، ما شكل منعطفاً كبيراً في عالم الكتابة والنشر، سماه بعضهم ب”الانقلاب الكبير” في هذا العالم، وهو ما انعكس حتى على درجة التفكير، ماقد تظهر آثاره عما قريب، ولاسيما أننا أمام ما بات يسمى ب”الأدب الإلكتروني” الذي رآه الكاتب البنمي “ماريو فارغاس يوسا” الحاصل على جائزة الآداب2010 على أنه “أدب سطحي يهدد الأدب المكتوب” .
وليس بخاف على أحد، أن أقنية النشر الورقية، سواء أكانت جريدة، أم مجلة، أم كتاباً، أسهمت في توسيع دائرة الوعي، بل كانت أوسع حامل إبداعي ثقافي إعلامي في تاريخ البشرية، وإن صعود الخط البياني المعرفي إلى أعلى أمدائه، إنما تحقق بوساطة هذه الوسائل التقليدية، سيان- هنا- الإنجازات الكبرى، المعرفية، والروحية، والعلمية، حيث استطاعت تلك الأوعية، أن تكون خزاناً لكل ذلك، منها كانت مجلدات التاريخ والأدب، والفلسفة، والطب، والرياضيات، والاجتماع، والفيزياء، والكيمياء . . وغيرها . .، ما يجعل الحضارة الإنسانية مدينة لهذه الوسائل التي لم تكن مجرد أدوات أرشفة، وتوثيق، حافظت على تلك المعارف والكشوفات والمعالم الروحية العظمى، بل أصبحت في الوقت نفسه من أدوات تطور المعرفة والعلم والثقافة، إلى الحد الذي لا يمكن تصور مسيرة التقدم الحضاري العام، من دون تصور هاتيك وسائل النشرالتقليدية المذكورة .
ومن سمات النشر الإلكتروني، أنه إما يتم من خلال أقراص مدمجة، يمكن الوصول إليها، من دون الوسيط الإنترنيتي، الذي يشترط السرعة- في بعض الأحيان، ولاسيما أمام الأحجام غير العادية، أومن خلال هذا الوسيط، إذ أن من خصائص النشر-في هذه الحالة- جعل مجرد صفحة واحدة، في متناول مليارات الناس، عبر قارات العالم جمعاء، وهو ما يمكن أن يخلق رأياً عاماً عالمياً واحداً، تجاه قضايا كثيرة، ولاسيما عندما يتم تجرد المتلقي من موانع التلقي المسبقة، وهو ما يمكن أن يدفع في ردم الهوة بين المواطن الكوني وشريكه في العمارة الواحدة، بما ينفع ديمومة الحرص على العيش المشترك، ونبذ ثقافة محو الآخر، وإقصائه .
وقد لا يكون المنشور الإلكتروني نصاً مكتوباً-فقط- وإنما قد يكون رسوماً، وصوراً، وخرائط، وقائمة بيانات . . إلخ، حيث بات هذا النشر فضاء موازياً للنشر التقليدي، بل فضاء منافساً له، ويرى بعضهم أنه بات في موقع البديل، أو الملغي له، وإن كنا نجد من يرى وجود تكاملية بين هذين العالمين، وإن النشر التقليدي، لابد من أن يظل طويلاً، لما له من خصائص كثيرة، من خلال وجهات نظر هؤلاء .
وقد أصبحت الفرصة متاحة أمام الكتاب التقليدي، والجريدة التقليدية، والمجلة التقليدية أن توجد لها فضاء آخر، من خلال “ألكترتها”-هي الأخرى- إذ في إمكان مكتبة من آلاف الكتب، أن تتحول إلى مجرد قرص مدمج، رقيق، يوضع بين أيدي المتلقين، أينما كانوا، ليستطيعوا الحصول على ما يريدونه من مضامين، وحتى إعادة طباعة ما هو لازم منها، عند الضرورة، فلم يعد المتلقي بحاجة للذهاب إلى مكتبة البيت، أو المؤسسة، أو الحي، أو المدينة، بل إن مكتبته قد تشغل حيزاً من حاسوبه، أو يضعها عبرأداتها في جيبه، ما يولد لديه المزيد من الطمأنينة في انعدام أية عقبات أمام رغبته البحثية، أوفي مجال الاستحصال المعرفي الثقافي .
ثمة حقائق لابد أن تذكر، وهي أن النشر التقليدي- رغم كل ما حققه من إنجازات عبر التاريخ- إلا أن عالم التواصل معه كان يتعرض للكثير من المعوقات التي تتعلق بصعوبة الوصول إلى أكبر دائرة من المتلقين، ناهيك عن الحدود الجغرافيا التي كانت تحول من دون وصولها، في الوقت المطلوب، ولاسيما في ما يخص المعلومة الخبرية التي تتطلب سرعة الوصول، حيث قد تفتقد قيمتها، عند وجود هوة بين زمن الحدث وزمن تلقي المعلومة، وهو ما استطاع النشر الرقمي وضع حل ناجع له، وذلك لأن من مزايا هذا النشر توافر المادة المنشورة من قبل المتلقي العالمي، من دون أي تأثر بالحدود، والموانع الجغرافية التي قد تمنع من وصولها إليه، أينما كان .
لقد استطاع النشر الإلكتروني أن يكسر مركزية بث المعلومة، ليس من خلال جميع الأطراف القادرة على تلقيها، فور نشرها، فحسب، وإنما من خلال إمكان هذه الأطراف-عامة- الإسهام في النشر، بالطريقة نفسها، كي يصبح المرسل متلقياً، والعكس، وهي كذلك من أهم سمات عالم هذا النشر الذي كسر من سطوة سلطة الناشر الواحد، وأتاح الفرصة أمام كل من يستطيع التفاعل مع الفضاء الافتراضي، أن يلعب دوره، ويكون عنصراً فعالاً في المجتمع الرقمي الكوني، وهو من أهم علامات هذه الثورة الكبرى في دنيا المعلومة، بأبعادها الخبرية، والمعرفية، في آن معاً .
لقد أسقط النشر الإلكتروني عامل الرقابة، وهي إحدى المشكلات الكبيرة التي تواجهها السلطات التي دأبت على نشر المعلومة من خلال قنوات اتصالها الخاصة، وتغييب الرأي والرأي الآخر، ولا يمكن فصل المجريات التي تم تأطيرها ضمن توصيف “ربيع المنطقة” بعيداً عن ثورة المعلومات التي كان النشر الإلكتروني أحد أعمدتها الرئيسة، وذلك من خلال شبكة التواصل الاجتماعي، أو المواقع، والمنتديات الثقافية والإعلامية التي باتت تستقطب قراءها على امتداد- الأربع والعشرين ساعة من اليوم- بما جعلنا أمام ما يسمى بالنشر المفتوح، أو النشر المتواصل، وهو ما لم يكن بمقدور النشر التقليدي تحقيقه .
وقد ذهب كثيرون من هؤلاء المبدعين الذين أدمنوا الكتابة بوساطة القلم، إلى الدرجة التي قد أصبح فيها القلم جزءاً مهماً من عالمه، بحيث لا يتصور الكتابة من دون أدواتها، التقليدية، المألوفة، فإن مثل هذه-التحديات ذاتها- موجودة لدى أعداد كبيرة من المتلقين، وجدت، أو تجد صعوبة في الانخراط في عالم التلقي الرقمي، وإن كان كثير من هؤلاء، لا يتلكأ في الانتماء إلى الفضاء الافتراضي، عبر ضروب التواصل مع الآخرين، سواء من خلال البريد الإلكتروني، أو غيره .
حقيقة، إن النشر الإلكتروني يعد ثورة كبرى، في عالم الثقافة والإعلام، وباتت أهميته تظهر من خلال الأرقام القياسية التي يحققها الكتاب الإلكتروني، أوالمعلومة الإلكترونية، وذلك بسبب إتاحتها أمام متلقيها، وسهولة الوصول إليها، وهوما انعكس على طريقة تفكير مواطن العمارة الكونية، الذي بات يتخلص من سطوات مؤثرات كثيرة، من خلال اختيار مصدر المعلومة، على نحو تلقائي، حر، بل إن ما يجعل دورة النشر-متكاملة- هو إمكانه في إيصال صوته إلى سواه، بل وإمكان ممارسته لدوره النقدي، وهو ما يجعل تلك الأوعية التي تلتزم بأخلاقيات وضوابط وشروط نشر المعلومة، معنية بمصداقية ما تقدمه، لأنها لم تعد أمام مجرد مركز رقابة واحد، بل أمام شبكة رقابية، مترامية الأطراف، شأن إمبراطورية الفضاء الافتراضي، كي تضاف، هنا، صفة أخرى، إلى المتلقي الافتراضي، وهي أنه ممتلك لسلطة رقابية، وهي ما أكملت شخصيته الاعتبارية، وأعطته بعداً آخر، هذا البعد الذي يستكمل-تدريجياً- في حال توافر إرادة إيصال المعلومة الصحية، إلى من يرومها، أينما كان .
كما أن النشر الإلكتروني الذي كسر أطواقاً كثيرة كانت تحد من انتشار الوعاء الورقي، وغير ذلك، فإنه في الوقت ذاته بات يتخلى عن الناشر الذي يعاني من مصاعب كثيرة: مالية، ورقابية، إذ بات بإمكان مرسل الخطاب الاستغناء عنه، كما استطاع التخلي من قبل عن دور محرر الصحيفة، أو المجلة، حيث رهن هذين الدورين بذاته، وبات هو نفسه: المنتج-الناشر، وإن كنا نجد من يشكو-هنا- من انتشار ذلك النوع المتهافت من الخطاب غير الناضج، غير المستوفي لشروط الخطاب، والمسيء للذائقة، والمخدش للمشاعر، والمستفز، ولاسيما في ظل فضاء الحرية الرحب المتاح لكل من يرتاد هذا العالم، وهو ما دفع بالكثيرين للحديث عن ضرورة أن نفرق بين مستويين للنشرالإلكتروني: الرصين منهما، والعام، حيث من الممكن اعتماد الأول مرجعية ذات مصداقية، بينما لايمكن التعامل مع الثاني، من خلال هذا المنظور، ولاسيما أنه غدا ملتقى للكتابات المتهافتة، اللامسؤولة، بل المدسوسة، والمغرضة، كما أن فيه الكتابات التي تحترم ذاتها، وقواعد وأخلاقيات النشر .
ولابد من الإشارة إلى تحد كبير-آخر- بات يظهرأثناء الحديث عن النشر الإلكتروني، وهو أن قوانين النشر في هذا العالم، لما تفعل بعد، في أماكن كثيرة من العالم، وإنه بات مجالاً رحباً للقرصنة، وفي مطلعها قرصنة الإبداع الإنساني، ناهيك عن قرصنة حقوق النشر، إذ أن الكاتب لما يزل غير مطمئن إلى ملكية إبداعه، مالم يقم بتوثيقه عبر النشر الورقي، الكلاسيكي، المتعارف عليه، بل إن هناك من يقوم-بهذه الخطوة أولاً- قبل أن يقدم على عملية جعل إبداعه في متناول القارىء الكوني، حيث افتقاد سلطته عليه، بعيد لحظة النشر، وإن كان النص المدون، يفتقد مثل هذه السلطة-في الأصل-حتى عبر أدوات النشر الورقي، إلا أن المؤلف -هنا- كان يعتبر “ميتاً” بحسب رولان بارت، بينما المؤلف في وسيلة النشر الإلكتروني مشروع كائن مجهول، أو زائل، أوملغي، قد يتم إعدامه، حيث ثمة بون واسع بين المفهومين، كما هو واضح بجلاء، وكأن منتج النص الإلكتروني بلا ملامح، بلا اسم، بلا شخصية، بلا عنوان، بلا كيان،كي نصبح أمام مؤلف “ما بعد الموت” .
________
*ملحق الخليج الثقافي