صرخة مونش:مضمون الصورة وعمق الصوت


*إيناس بن الحاج

إدفارد مونش (مونك)“ ولد سنة 1863 بالنورفيج و قد رسم لوحته “الصرخة “ سنة 1940 مستعملا مشاعر وانفعالات وحالات معرفية جمالية مثل الشعور بالاكتشاف، التأمل والتعبير التشكيلي والدهشة والإحساس بالغموض الذي الزم علينا عملية الاستطلاع على هذا العمل . إذ يعتبر مادة تشكيلية تتراوح فيه جملة الخصائص اللونية في علاقة الفكر بالصياغة التطبيقية بما أنها إشكالية في حد ذاتها .

تطرح لوحة  “مونش”  سؤالا جوهريا حتى نتمكن من اكتشاف خباياها . فكيف يمكن الخروج بالصرخة من مستوى الطرح الطبيعي على مستوى القراءة التشكيلية؟
يمنح الفضاء التشكيلي للمخيلة و إمكانية الاختراق الفعل الإبداعي، فالحرية شرط أساسي لإبداع، بدون عقد و مكبلات ، فالنقطة والخط واللمسة، اللطخة و العجينة اللونية في بناها و تألفها تحتوي على معان كامنة في عمقها لإبراز دلالة غير ظاهرة في صورة تشكيلية ظاهرة.
صرخة “مونش” تكشف عن عالم غريب مفجع، عالم مليء ليس بصرخة واحدة بل بصراخ الألم و العذاب الذي عاش معه الفنان التشكيلي منذ الصغر فقد فقد والدته منذ نعومة الاضفار ثم أخته التي كان عمرها أربع عشرة سنة. و قد قام برسمها خلال لوحة بعنوان “ الطفلة المريضة”. ومن خلال هذه المعطيات يبرز لنا عمق المعطى الباطني المؤثر في نفسية الفنان. فقد أراد “مونش” أن يخرج الصرخة من الظلمة و العتمة وتجسيدها تشكيليا، فبرزت اللوحة بثرائها ألمفهومي والتقني التشكيلي تعبيرا على ما هو حر وحسي مرئي و ما هو مؤثر وغني من الناحية البصرية.
بحثنا هنا يتأسس على دراسة تشكيلية للصرخة باعتماد الظاهر للوصول الى الباطن، كل حركة صوتية للصراخ تعطينا إحساس بأنها لون معين.
وأن هذه المعطيات تقد لنا مزيجا من الألوان نعتبرها في حقيقية الأمر قراءة باطنية قوامها الارتكاز على العمق الحسي.
فكيف أمكن “لمونش” أن يجسد ما هو حسي إلى تعبير تشكيلي.
لقد قادنا الحديث عن اللوحة و مضامينها إلى اكتشاف السياق الإبداعي وانشائيته فمن طريقة تموجات المادة اللونية تتكون الفكرة و تتجمع وتنمو المعرفة. فالسياق الإبداعي هو إذا المجال الزمني الذي تتفاعل فيه بطريقة جدلية الفعل التشكيلي و التفكير النظري و التطبيقي فالصرخة هنا و في هذا المجال ارتكزت على جدلية الذات، المادة، الفضاء واللون. هذه الجدلية كونت في الفضاء حوارا تشكيليا مطلقا و حرا.


نقف أمام العمل فيتبعنا خيال يتناهى مع كل خط من خطوطها لتنقلنا هذه التموجات والانحناءات إلى تدخل العين إلى عالم من كل مراكز الرؤية العقلية لفائدة مراكز الرؤية الحسية فتدعونا حركة الفم الدائرية إلى البحث في عالم من الأفكار الذي يشعرنا بخوف الفنان من كل مجهول فيدخلنا إلى عالم الإثارة التامة لتهبنا رغبة في مزيد الاكتشاف والغوص في العمل والبحث فيقودنا إلى معرفة عالم جديد.
لم يكن حسب رأي تشكيل اللوحة اعتباطي بقدر ما كان مغمورا بجملة من التصورات بالإضافة إلى رؤية جديدة للعمل “ فالصرخة” في تماثلها مع الأشكال تخلق عنصرا من التالف، فعبر الصورة يتسنى لنا رؤية الصوت في علاقة متناغمة ينسجها التعبير التشكيلي مع طبيعة الصوت وحركاته، تصف اللوحة بطريقة غير مباشرة رؤية الصورة الصوت في تبايناتها وارتفاعاتها وانخفاضها وحضورها وغيابها. فعبر هذه المسافات الممتدة في افق اللوحة بخطوط سميكة و عريضة بلمسة عنيفة تتحدد طبيعة الأشكال ليمتزج الصوت بالصورة ليبعث حركة قوامها الإيقاع المتناغم بين عناصر اللوحة باعتبارها صوت بتركيبته وديناميكيته وإيقاعه تعتبر مكونات أساسية تقطع في تالف مع الإشكال المرسومة في العمل الفني. هنا يلتقي الكل التالفي في الإشكال المرسومة والألوان الموظفة ليكتمل النظر في العمل التشكيلي على نحو مقنع ومشبع ليصل بذلك العمل إلى ذروة التمتع و قمة التعبير في تمازج بين الصوت و الصورة والشكل و المضمون، الدال والمدلول لإنشاء صورة وقراءة جديدة تتفاعل وتتشكل بتشكل العين والأذن وتحويل الشكل السماعي إلى شكل بصري يجمع بينهما لإزاحة المسافة هكذا تكون عودة إلى المتلقي بصريا وتشكيليا الى فسح المجال نحو التخيل واستقبال صوت الصرخة عن طريق الرؤية، بمعنى أخر أن الصرخة ستعرض حواسنا إلى إمكانية التفاعل مع الشكل والقدرة على إطلاق الخيال ثم الانفعال البصري و هكذا يكتمل عنصر الاستقبال الفني في مجال الاستمتاع الجمالي، فنجد تجربة الفنان النورفيجي”مونش” في تجسيده في مضمون اللوحة فجعلت من عمله الفني يكتسب شهرة واسعة في فترة التعبيرية في ذلك الوقت فقد تميزت خطوطه الأفقي والعمودية الموجودة الموجودة في الخلفية لتذكيرنا بتقنية “فان جوخ” في الرسم، كما احتوت في مضمونها على شكل وجه أو طيف غير محدد الملامح فقد اعوجت ملامحه جراء الصراخ أو الفزع و لعل خوفه من الموت والحزن والعزلة والصراعات النفسية الداخلية هي الدافع الأساسي الذي جعله يقوم بهذا العمل الذي اتسم بحرفية كبيرة في إبراز التقنية وإيصال المشهد الدرامي الحزين المخيم على الصورة، العمق المحدث بواسطة الخطوط الممتدة عموديا هي انعكاس لعمق ما يحسه داخليا من اضطرابات نفسية حادة، أما على مستوى اللون فقد اشتملت اللوحة على إشباع لوني متباين و ثري.
________
*مجلة عمان

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *