الأنستليشن العربي: قطع هجينة تبحث عن هويّة


*إبراهيم الحَيْسن

ما الذي يبرّر انخراط مجموعة من التشكيليين العرب المعاصرين في فن الأنستليشن (التجهيز في الفراغ)؟ وهل هناك أسس جمالية معينة قام عليها هذا الانخراط الذي تجاوز لوحة الحامل والتمثال التقليدي والمطبوعة ليشمل الكثير من الوسائط المتعددة الحديثة (المِيديا) بتشجيع من الشركات الضخمة التي تنتج الآليات والتقنيات الرقمية ذات الإمكانيات والجودة العالية؟

وهل راكم الفنانون التشكيليون العرب ما يكفي وما يُقْنِع من لوحات ومنحوتات وقطع حفر وسيراميك وغيرها بشكل جعلهم يطرقون مجالات تشكيلية أخرى من صُنع مجتمعات غربية قام إبداعها على هزّات وتحوّلات جذرية متنوعة مسّت حقول الفلسفة والأدب والسياسة والعلوم والتكنولوجيا؟
وأيضا: هل يمتلك هؤلاء التشكيليون مدركات فكرية ووعياً بصرياً يجعلهم قادرين بالفعل على تحصين هويتهم الجمالية عبر اختبار حريتهم ووضعها في صلب المحك، لاسيما وأن فن الأنستليشن أمسى أسيراً لاستعمار تكنولوجي جديد؟ أم أنهم – على العكس من ذلك- يساهمون من حيث لا يدرون في رسم حالة الهزل والعبثية التي تخدش فنوننا التشكيلية العربية المعاصرة المطبوعة بمرجعيات بصرية ممزقة ومعطوبة؟
السقوط في فخ الاستعارات
من الواضح جداً أن العديد من الفنانين التشكيليين العرب الذين اختاروا الإرساءات التشكيلية كجنس إبداعي وكمساحة للتشكيل الجمالي، إلى جانب بعض التطبيقات التعبيرية للجسد والفيديو الإنشائي والبرفورمونس، عجزوا عن منح المنجز التشكيلي العربي المعاصر صبغة مشدودة إلى الهوية والذات والشخصية الحرة والمستقلة. وهم بالتالي سقطوا في فخ الاستعارات والإسقاطات الفكرية والجمالية المنسوخة التي قامت عليها فنون وتعبيرات ما بعد الحداثة التي تعود جذورها الأولى إلى الفن الشعبي (البوب آرت)، ولاسيما أعمال آلن كابرو، وروبير روشنبرغ، وجاسبر جونز، وهي من أهم الإبداعات التي ارتبطت بالحركات الطلابية والاجتماعية الهادفة إلى نبذ الحروب وإيقافها وحماية البيئة والتحرر الاقتصادي.
تقول كاترين مييه C. MILLET، وهي ناقدة فنية من فرنسا: «خلال الستينيات ساد الفن الشعبي والواقعية الجديدة والفن البصري والفن الحركي وفن الحد الصلب HARD EDGE ومدرسة المساحات اللونية، وتفرقت جماعة فلوكسس، وتكاثرت عروض الحدث.. وفي نهاية العقد، ظهر فن المفهوم ومعاداة الشكل، والفن الفقير، وفن الأرض، وفن الجسد ودعامة/ سطحSUPPORT-SURFACE وعدة تعبيرات فنية تلجأ إلى كل أنواع المواد الملفقة والأشياء المصنعة والمواد الطبيعية سريعة التلف..بل جَسَد الفنان نفسه. وأصبحت كل الأساليب مباحة، حتى أكثرها تضليلاً وأكثرها استفزازاً وقابلية لعدم الإدراك».
فهذه التيارات الفنية التي تتحدّث عنها الناقدة مييه وصلتنا متأخرة وملتبسة، لأن فن اللوحة نفسه لم يصل لدينا حدود النضج، كما يقول الباحث الجمالي أسعد عرابي، وهي تيارات أحدثت تحوّلات في التصنيفات التقليدية للفن، وقدّمت طرحاً جديداً لا ينتمي إلى الجماليات السابقة، ويرتبط أكثر بعناصر الحياة المعاصرة وفروضها الجديدة، ويبيّن موقف الفنان منها سواء بالقبول أو بالرفض، وقد أخذ الفن المعاصر على عاتقه مواجهة التحدي الذي ألقاه عليه الطور الصناعي بمنجزاته الهائلة ومُثله الثقافية، ونظمه، وقوانينه، ومؤسساته، ثم انتقل إلى مواجهة طور جديد هو ما بعد الصناعة الذي أصبحت فيه المعلومة هي السلعة الجديدة التي دفعت بها وسائل الاتصال الحديثة التي سبقت من خلالها الأفكار والاتجاهات الفنية التي فرضت هي أيضاً على العالم، في إطار السعي إلى إدارة الحياة على الأرض من خلال آلية واحدة.
وقد تلا ذلك إبداعات تشكيلية أخرى تتصل بالانتقال من التجريدي إلى البيئي الملموس وبتحويل الفن إلى مجال للتداول والتساؤل حول الفن نفسه، وأيضاً بتجاوز الأنماط الجمالية المتوارثة عن الشكلانية (الفورماليزم)، لذلك هجر الفنانون صالات العرض التقليدية والأروقة الخاصة واتجهوا نحو الطبيعة والفضاءات العمومية، كما هو الحال عند فناني البيئة وفن الصحراء والعرض الجسدي.. إلخ.
ولأن جزءاً كبيراً من الفنون التشكيلية العربية المعاصرة مأخوذ من إرث جمالي وبصري ليس وطنياً ولا قومياً سمته الأساسية النأي والابتعاد عن الجذور والتقاليد المقعِّدة للفن المعاصر، فإن الكثير من أعمال التشكيليين العرب غالبها الغموض والالتباس، وظهرت في شكل قطع تركيبية هجينة منقطعة عن امتدادها الطبيعي في منظومة القيم والأنساق الجمالية المؤســسة، بل إنها – وفي مناحٍ عديدة- تعبّر عن نوع من التبعية والتواطؤ مع مشروع الغزو الجمالي الغربي. من ثَمَّ، أمسى الفنان العربي يقطن في بيئة مشوَّهة ومشوِّهة قادته إلى إنجاز عمل فني هجين لا ملامح له. بل كان ماسخاً للنص المستورد، مما أسهم في تربية أجيال عديدة على جسد القلنسوة دون الدخول إلى صدق الذات ومبرّرات وجود الإنسان، كما يقول الناقد محمد العامري.
هذا الانشغال المجاني بفن الأنستليشن لدى غالبية الفنانين التشكيليين العرب يعكس في عمقه نوعاً من الفشل في استيعاب وتطويع الاتجاهات الفنية ما بعد الحداثية لتتلاءم مع ثقافتهم وأسئلتهم الجمالية الملحّة. الكثير منهم لا يزال عاجزاً عن تجاوز الوافد من التيارات الفنية الغربية المنبثقة في فن أوروبي تمرّد على تراثه التقليدي الذي ساد لأكثر من أربعة قرون. وبالنتيجة، فقد تحوّل المنجز التشكيلي العربي المعاصر المرتبط بالأنستليشن إلى خواء تشكيلي وإلى فن عبثي ومبتذل ذي مراجع ممزَّقة وإلى منتوج مغلَّف بالخوف والتردّد وعدم الثقة بالنفس، مع وجود استثناءات إبداعية قليلة تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة، كتجربة الفنانة منى حاطوم في اشتغالها على سؤال الذات والهوية والعودة إلى الوطن، والفنان قادر عطية في إثارته لبعض القضايا الدينية والأيديولوجية ومنها المواضيع ذات الصلة بالإسلام والنزعة الإسلاموية، إلى جانب الفنان الإماراتي حسن شريف المسكون بالتكويم والتحزيم والاشتغال على جسد المادة المنسية وذاكرة اللامكان، فضلاً عن منير الفاطمي بأعماله السياسية التحريضية ومحمد القاسمي في اهتمامه بغجرية الأمكنة والترحال من خلال إبداعه بالهواء الطلق وبمحترفات الصناع التقليديين، ومحمد كاظم الذي يربط سِيَره الذاتية بالبحر إلى جانب اشتغاله على الكراتين والمفاتيح..وأيضاً الفنان وفاء بلال الذي يستعمل وسائط مختلطة (ملتي ميديا) ولعب الفيديو المثيرة للجدل. ثم هناك الفنان المفاهيمي فيصل السمرة المسكون بالبعد الثالث، وبموضوع الفراغ والامتلاء وعلاقات الأشكال بظلها وبالمادة وبالعناصر الأساسية: الهواء، الضوء، النار والأرض، دون نسيان الفنان العراقي عادل عابدين الذي عُرف باشتغاله على تيمات تنتقد الحرب العدوانية ضِدَّ بلاده وضِدَّ العرب والمسلمين بشكل عام. فالعديد من هذه الأعمال جمع فيها بين التجهيزات والفيديو والأفلام المصوَّرة وفن النيون الضوئي وقد عرض البعض منها قبل سنوات بنيويورك ولاقت استحساناً واسعاً من لَدُنِ جمهور الفن هناك.
المنجز التشكيلي العربي لا يزال يطرح أسئلة مثل: الخصوصية، الهوية، الغربة والاغتراب، المحلية والعالمية، الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، العصرنة والتحديث.. إلى غير ذلك من الإشكالات التي فرّخها التحوّل من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الحديثة. 
غير أن الطريقة التي قارب بها جل التشكيليين العرب المعاصرين هذه الإشكالات والمفاهيم في حاجة إلى وعي بصري خلاّق ومبتكِر وإلى فهم عميق ومنفتح. وحصيلة ذلك، أن الإبداع التشكيلي العربي لا يزال يرزح (في عموميته) تحت عبء التبعية والاستيراد. 
هي ذي الحقيقة التي ينبغي الاعتراف بها والعمل على محوها وتجاوزها. لقد كنا، ولا نزال، تابعين لكل ما بدر من الغرب في إنتاج الفنون التشكيلية، ولم يكن انفعالنا معه، بقيمة حاجتنا لأن نستقطبه، ونتعرف عليه، ونمارسه، ليحقق ذاتنا، فكنا مقلدين له، واغتصبنا من خلال ردّات الفعل لدى بعض فنانينا الرواد الذين حاولوا جاهدين هندسة ملمح تشكيلي عربي.
والحالة هاته، فإننا بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في وضعية فنوننا التشكيلية العربية المأزومة وتأهيل منجزاتنا الجمالية عبر مساءلة الفن والهوية برؤى جديدة، منفتحة وغير ضيّقة، وأيضاً عبر البحث والتجريب والتفكير في ما يمكن أن تضيفه الفنون الأخرى (موسيقى، تكنولوجيا بصرية، مسرح..) لإبداعاتنا التشكيلية.
الوقوف ضد الذاكرة
مشكلة الإبداع التشكيلي العربي المعاصر هي أنه لا يزال محكوماً بنسقية عبثية مبنية على هوية ضيقة متشظية وأصالة متقطعة، والسبب في ذلك أن العديد من التشكيليين العرب المعاصرين يقفون ضد موروثهم الثقافي والفني وضد ذاكرتهم الجمعية وتاريخهم المشترك. كما أنهم -في الآن نفسه- يجعلون من التعامل مع المعاصرة صورة استعراضية (فولكلورية بمعنى أصح) توهمهم بالانتماء إلى الآخر.. إلى فن الآخر. فأوصلهم هذا الوهم إلى «تجسيد» أفكار INCARNATION على حساب الفن وتقنياته وإلى «التحرّر» من القيود الاجتماعية والثقافية والسياسية..
وعلى الرغم من محاولات التأصيل والتحديث في الوطن العربي، فقد ظل المنجز التشكيلي العربي مقيّداً بصورة متعسفة إلى الأداء التشكيلي في الغرب، لأسباب تتصل بالوضع الحضاري العربي العام، ولأسباب أخرى تتعلق بقضايا المنهج في مؤسسات تعليم الفنون منذ أربعينيات القرن العشرين. إن أجيالاً من الفنانين العرب انسدت عليهم الآفاق ولم يصلوا لاستلهام منابعهم الحضارية الأصلية.
في ضوء ذلك، أضحى الفنان التشكيلي العربي تائهاً ومشدوداً نحو البحث عن منافذ «سهلة» لولوج العالمية من أوسع الأبواب بالقفز على المراحل وحرقها دون تحقيق تراكمات إبداعية كفيلة بمنحه هذه الإمكانية وانتزاع الشرعية الدولية.
فمفهوم العالمية الذي شكّل «فردوساً مفقوداً» لجل التشكيليين العرب المعاصرين، ظل يجد صداه في المتاحف والأروقة الغربية لوجود بيئة مناسبة -نفتقر إليها- ذات العلاقة بالإبداع الفني والجمالي السليم والإنتاج التشكيلي المؤسَّس والمدعوم. لذلك فإن ولوج العالمية في الفن التشكيلي لا يمكن أن يتم سوى عبر الدخول في دائرة المركزية الأرو- أميركية. على إثر ذلك، تنامت هجرة الفنانين العرب للإقامة والإبداع في البلدان الغربية، ومن بقي منهم في أوطانهم صار حريصاً على تنظيم المعارض في المراكز والمعاهد الثقافية الأجنبية الموجودة في بلدانهم.
فهذا الوضع، ولا شك، يُعيد طرح سؤال الهوية الجمالية في فنوننا التشكيلية التي صارت بمثابة «نصوص بينية مرئية»، على حدّ تعبير رولان بارث R. BARTHES في حديثه عن التناص.. نصوص اختلطت فيها ثقافة سابقة مع أخرى محيطة (ثقافة الأغيار) بشكل أفقدها جوهرها وجعلها تظهر في هيئة أعمال متشظية ومنسلخة عن جذورها وكأن لا تاريخ لها. وقد استعرت هنا كلام بارث على اعتبار أن الأعمال الفنية نصوص بصرية تحكمها نسقية مرئية وفي قلبها توجد القطع التركيبية والإنشائية ذات الطبيعة المكانية والزمانية في آن بالنظر إلى اشتغالها على مفاهيم الفراغ والامتلاء والفكرة والفضاء.. إلخ.
وتظل الملاحظة الأساسية بخصوص قطع الأنستليشن التي أبدعها تشكيليون عرب والتي لاقت إلى حدّ ما «نجاحاً دولياً»، هي أن جل هذه القطع والإبداعات ارتبطت بمواضيع وقضايا سياسية محلية وقطرية مثلت شرطاً لدعمها وتشجيعها من لدن جهات ومؤسسات غربية قد تكون لها مصلحة في ذلك على الأقل من زاوية أيديولوجية. 
والخُلاصة أن غالبية الفنانين العرب الذين اختاروا الإرساءات التشكيلية كمساحة للإبداع – إلى جانب التطبيقات التشكيلية للجسد في النحت الحي والفيديو آرت والبرفورمانس- عجزوا عن منح المنجز التشكيلي صبغة مشدودة إلى الهوية والذات والشخصية المستقلة، وبالتالي سقطوا في فخ الاستعارات والإسقاطات الفكرية والجمالية المنسوخة التي قامت عليها فنون مابعد الحداثة التي تعود جذورها الأولى إلى الفن الشعبي/البوب آرت، ولا سيما أعمال الفنانين ألن كابرو وروبير روشنبرغ وجاسبر جونز، وهي من أبرز التعبيرات التي ارتبطت بالحركات الطلابية والاجتماعية الهادفة إلى إيقاف الحروب وحماية البيئة والتحرر الاقتصادي. وإلى جانب هذه الفئة من الفنانين، يوجد تشكيليون عرب آخرون (مصورون ونحاتون) انهمكوا بمشكلات المشاغل والمحترفات الأوروبية محاولين- بكثير من السذاجة الإبداعية- إسباغ الصفة المحلية على أعمالهم الفنية وفي نفس الوقت الانخراط في الحداثة الفنية وما بعدها.
______
*مجلة الدوحة 

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *