أبو ساعة حرامي الرمل


عبد الحليم ابو دقر *

( ثقافات )

 
من الصعب وصف السعادة التي حلّت في أبو ساعة عندما سمع نبأ نجاح عملية زرع وجه جديد وكامل، وللمرة الثانية، لأحد الأشخاص في دولة متقدمة.أخذ يردد: زراعة الوجه أصعب مليون مرة من زراعة الكفين، من زراعة الأصابع.. صرخ: سأزرع كفين كاملتين بعشر أصابع جديدة.. نظر في كفيه نظرة انتصار. كانتا مرهقتين من كثرة تقريطه لهما، طافحتين بالحمرة،فقال لهما: سأقضي عليكما في القريب العاجل.اعتقد أنه لو تم له ذلك لن يتمكن أحد من كشف حقيقته، يكون قد نجح في التخلص من ماضيه بالكامل.
بدأ اتصالاته يسأل عن تكاليف العملية، فوجئ أن كل ما لديه من أموال لن يكفي لزراعة إصبع واحدة، فكاد ينفجر من الغيظ وهو يلعن الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضعضعت أوضاعه في الآونة الأخيرة،عليه الآن أن يفكر بطريقة مختلفة، أن يجد حلاًّ غير مكلف، أو على الأقل تكون كلفته ضمن إمكانياته، للخلاص من إزعاجات كفيه. 
كان كفّا أبو ساعة غير خاضعتين له، تتصرفان على مشيئتهما، فكلما بدأ بسرد قصة نجاحه تصران على رواية قصة أخرى، تتلخص في أنه حرامي رمل وحصمة وعدسية وطوب وإسمنت -إذا ما توفر- منذ نعومة أظفاره،في النهار يسجل الطلبيات: أم أحمد 5 تنكات حصمة، 3 تنكات عدسية. أبو فايز 10 طوبات، 2 تنكة رمل، نصف تنكة إسمنت.. في الليل، هو وإخوته وأبناء جيرانه ينهالون على أكوام الرمل والحصمة المنتشرة حول البنايات قيد الإنشاء.
عندما كبر وأثرى، سكن في أرقى مناطق عمان الغربية، ركب السيارات الفارهة، ارتدى أشهر الماركات العالمية،إلا أن تشوه كفيه كان يزداد ظهوراً، كأن كل ما يقوم به هو من أجل لفت النظر إليهما.
طاف بكفيه الدول بحثاً عن علاج، خضع للطبّين الصيني والتايلندي. استأجر لهما أجمل النساء كي يهدئانهما برواية أغرب الحكايات، أقام لهما حمامات الأعشاب والورود، أحرق لهما البخور، أحضر لهما من وراء البحار أغلى المراهم والمطريات. ومع ذلك، بدل أن يستكينا تهيجا، فصار غير قادر على فك اشتباكه فيهما إلا عندما تسيل منهما الدماء. لجأ إلى الشيوخ في المناطق المختلفة يقرأون على كفيه القرآن. يكتبون له الحجب، يفكون له السحر، إلى أن ظهر الوجه الآخر لأبي ساعة، وحانت ساعة عقابه لكفيه،فأخذ يدفنهما في الرمل الملتهب، يسقطهما في الماء المغلي، يحطم بهما الزجاج، يحشرهما تحت عجلات سيارة زوجته،يصرخ فيهما: إلا أقضي عليكما.
وينهار في بكاء طويل قبل التهامهما وبعده… صار يحلم بهدنة يعقد من خلالها اتفاقاً مع كفيه: يتوقفان عن إثارة شهيته على تقريضهما، ونزع الجلد الميت عنهما، يتوقفان عن أكلانه في الأماكن العامة وعلى الأخص في الاجتماعات المهمة، يريد اتفاقاً مع كفيه يحقق من خلاله أكلاناً أقل، وأن لا تمنحانه نفسيهما كلما سرح، فلا ينتبه لنفسه إلا وهو متورط في قضمهما.
قبل أن يتوصل أبو ساعة إلى اتفاق مع كفيه، اهتدى إلى فكرة ارتداء قفازات جلدية سميكة، إلا أنه صار يخلعهما وينقض على كفيه كلما توتر، حتى أمسى وجودهما أو عدمه واحداً، فقرر أن يهيئ لهما قيوداً حديدية، قفلاً ومفتاحاً، خبأ المفتاح عند زوجته وهددها بالضرب إذا ما أعادته إليه.
قال لها: حتى لو لعقت حذاءك لا تشفقي علي. لا تعيديه إلي. إذا أعدتِهِ أنت طالق.
في كل ليلة، وفي الوقت المحدد، ينهال على زوجته بالضرب والبصق وتنتيف الشعر..
تقول له زوجته من وراء الدموع، والخدود المورمة والشعر المنفول: اذبحني ولن تأخذه ، إلى أن صحا في أحد الأيام ليجد كفيه من غير القفازين، أصابته حالة من الفزع وهو يقلب الدار بحثاً عنهما، ثم صار يرجح وبعد مداولات طويلة مع زوجته أنه أكلهما.كانت كفاه تنزفان دماً من تحت نثار جلدي وهما تستعيدان نشاطهما في فضح روايته لقصة نجاحه المزعومة، تنهرانه كلما استغرق في أكاذيبه: اخرس حرامي رمل،اخرس حرامي حصمة،اخجل يا حرامي القضبان الحديدية الصدئة، يا حرامي العدسية.. يا.. . يفقد صوابه، يصرخ في كفيه وسط الناس التي بدأت تتجمع حوله: لو كانت السرقات تترك أثراً، فلماذا كل السرقات الكبيرة والكبيرة جداً لا تترك أي أثر… يقهقه، يريد إغاظة كفيه، يهمس لهما: لو كانت السرقات الكبيرة تترك أثراً، كيف سيكون شكلي؟ ثم يصرخ فيهما من جديد: لا أثر لكل سرقاتي الحديثة… إن سرقته الأخيرة لإحدى شركات التأمين -فتحَ شركة أمّنها بمبالغ غير حقيقية، أحرقها، قبض مبلغ التأمين وقُيد الحادث قضاءً وقدراً- رغم أنه ليس فيها تنك رمل، وتنك حصمة، وطوب، واركض اركض، وامسك امسك، والحق الحق، وحلق حلق، و لا يهرب منك ، والحصمة تتطاير من التنكة وهي تعلو وتهبط، تأكل من كتفه وهو يركض فيها لمسافات طويلة.. إلا أن هذه السرقة تركت أثراً واضحاً عليه، وما لا يعرفه أبو ساعة أن أحدهم رآه، وسيكشفه عما قريب.

* قاص من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *