الذاكرة وامتصاص حركة الزمن ..


هزاع البراري *

( ثقافات)

الزمن يسير باتجاه واحد، إلى الأمام دائما. انه شعاع من طاقة تغيير بعوامل تشبه التعرية الطبيعية، السنون تعيد نحتنا، وتمعن بعيدا في تكسير ملامحنا وتجفيفها، ولكأن أجسادنا المتجعدة كثمرة تين مجففة هي الألواح التي يصوغ الزمن لغته ويؤكد فحولته من خلالها، وهي علاقة من طرف واحد، علاقة غير تبادلية. فمع مرور القرون وتعاقب الحضارات لم يستطع الإنسان أن يغير في الزمن أو يبدل في تكويناته بشكل ظاهري أو حتى داخلي. كل ما ننتج عن هذه العلاقة الحتمية وغير العادلة، هي أن طور أبناء آدم طرقا داخلية للتعاطي مع نواتج فعل الزمن فيهم أو في المحيط.
لكن الإبداع يحاول تكرار التمرد على هذا الوضع غير المتكافئ، وهي نزعة تدعو إلى وقف الزمن والتأمل فيه بغية ولوج بؤره السحيقة وتفجيرها في محاولات لإحداث تراكيب زمنية مختلفة. إنها محاولات الإنسان للتحاور وإحداث تغييرات متبادلة، فالزمن لا يجب ان يتوقف فحسب، بل يجب أن يستعاد ليفكك ويعاد بناؤه من جديد. لعلها طريقة للرد ربما، أو محاولة للسير مع الزمن بدل تركه يعبر وحيدا ومجتاحاً تفاصيل حياتنا وتاركا بصماته القاسية على أجسادنا وتراكيبنا النفسية، وبالتأكيد يصيب رؤانا بانزياحات متلاحقة لتكون مؤشرا على توالد مراحل حياتية وفكرية متمايزة وقادرة على رسم تأثيرات تعاقب السنوات.
لذا فإن صياغة إبداع إنساني تفتق منذ الرسوم الأولى في الكهوف القديمة، ولن يقف عند حد، هي زحف ضد مجاديف الزمن، ضد الموت. من هنا تأتي الكتابة كمدونات لا تسير مع الخط الزمني، بل تقفز عليه وتتجاوزه معطية للحضارة الإنسانية استمرارية وريادة جعلت من فعل الزمن وارتكاساته انعكاسات ذاتية تأملية، لأن الفرد المتفرد بروحه وجسده يسير نحو خط النهاية منذ لحظات الولادة الأولى، فهو بذلك يخسر عمره وامتداده في الحياة.
وتعد الذاكرة لدى الكاتب والمبدع عموما منطقة عمل بالغة الأهمية فيما يتعلق بامتصاص حركة الزمن وتخزينها باعتبارها حدثا مصحوبا بانفعالات متفاوتة تعتمل في أعماق الذات وتضغط لتخزن وتحفظ على أهبة الاستدعاء، وهنا بالتحديد تبرز بنية الذاكرة القادرة على جلب الزمن وإعادته، وهي استعادة غير حرفية بل انتقائية مضافا إليها الوعي اللاحق، بمعنى أن هذه الاستعادة شاملة لإعادة التقييم، ومن الممكن أيضا تفكيك المادة المتذكرة وتركيبها بشكل يتسق مع الرؤية الحالية للأحداث الزمنية الماضية.
وهذا كله يتفق مع الرأي الذي يشير إلى أن معظم محفزات الإبداع تأتي من منطقة غائرة في الطفولة/الزمن البكر، لذا فإن إيقاف الزمن واسترجاعه بهذه الصورة ليس إلا نوعا من إعادة ابتكاره وتصحيح مساره ربما، ليس بالقلب إلى الضد، وإنما من خلال استنباط المسوغات وموجبات الحالة الماضية، من اجل خلق حالة من التفهم أو حتى التعايش مع آلام التذكر وقسوة حقيقة أن الأيام التي تمضي إلى الأبد.
لعل القدرة على إيقاف الزمن واسترجاعه والقفز أمامه لمسافات مختلفة، هي معيار وعي بحتمية النهاية التي ما إن تنتهي حتى تحلق في بداية جديدة بما يشبه التناسخ عبر كينونات متنامية، فتكون النواتج الإبداعية هي محصلة التعامل مع الزمن بأبعاده الثلاثة، ومن خلال رؤية ذاتية مضادة للانتهاء أو الموت، فما حالة التذكر إلا نوع من محاولة ترشيد الفاقد من الأيام والأوقات المتسربة من حياتنا بلا معنى، وهي ايضا عودة لهذا الفاقد وإعادة تدويره بكتابة جديدة وفن ما، كنوع من الاستثمار المتأخر، وهو مثمر في الإبداع فقط، أما في عالم الاقتصاد فهو استثمار مجنون في فكرة قد تكون مستحيلة.

* كاتب من الأردن

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *