د. خلود جرادة *
( ثقافات )
إنه الشتاء ، تلك القصيدة المدهشة التي ترسل إلينا عطرها المخبّأ في جيب الهواء وهديل اليمام ، وهو تلك اللغة السرّيّة التي اختزنتها السماء طويلًا ، لغة الحب والعشق ، وشوق الماء المنساب في قلب الغيمات .
إنه الشتاء ، تلك الرغبة الشغوفة ببساطة البوح وعفويته ، تلك البساطة التي تجتاح عمق الإحساس والشعور ، لتحوّلك إلى طفل اختزل عمرًا من الحكايا ، والذكريات التي تسيل فجأة بعفوية الماء المنساب من قلب السماء ، فتغدو أنت معه وبه ، طفلًا يتكلم وينشد ويقفز، بعفوية اشتاقت لها النفس كثيرًا .
في الشتاء ، تزهر النفس بصحبة المطر ، وتغدو أكثر عمقًا ووعيًا وحميمية ، وتأخذ الأفكار والمعاني والكلمات معناها البعيد ، وتنساب في عمق النفس هناك ، فيما وراء السطح المعلن ، تسطع كنصل تحت الوهج ، تعكس كالمرايا كل ما في النفس دونما حاجة إلى شرح أو تعليل ، لتغدو أكثر وضوحا ، وتأخذ الرؤية صورتها الأصفى والأنقى والأكمل ، حيث تدخل النفس في نور الماء ، وقد عرفت طريقها ، إذ لا حاجز هناك يحول بينها وبين صفاء الرؤى ، فالنور نقي بسيط ، والأبواب المغلّقة تتهاوى أمام سحر النقاء .
هناك ، وأنت تجوب في فضاء المطر ، تتشكّل النفس مرة أخرى ، وتعيد ترتيب الأشياء بعمق وصدق ، حيث يصبح التأمل هو الملاذ ، والصمت هو اللغة التي تسود ، فلا ثرثرة في حضرة المطر ، ولا نزق أمام هيبة الشتاء ، الصمت وحسب ، إذ يفسد الكلام طهر الشعور وميل النفس إلى الإنصات ، بل إنه يخدش جدار العزلة التي دخل القلب معابدها ، ليعيد تشكيل وبناء ما احترق في الصيف وتبعثر ، وليؤثث لنفسه حياة جديدة ، ومسافة بينه وبين العالم وصخبه ، تلك المسافة التي لابد منها ، كي تحتفظ النفس بنقائها وقدرتها على الرؤية العميقة .
الغيم ، المطر ، الضباب ، الرياح ، البرق ، الرعد ، هذا هو موكب الحياة القادم متوجًا بالحلم والانتظار والصمت الصاخب …..
إننا نبلغ ذروة حياتنا داخل المطر ، ونشوتنا تبلغ أوجها ، حين ينسجم هذا الموكب في علاقة حب تعبر فيها الطبيعة عن جموحها نحو الحياة ، والخصوبة والحب ، وتدفق الماء الذي يهبك نشوة الحلم ، ونشوة الحب ، ورعشة الميلاد ، إنها علاقة تتكامل فيها كل عناصر البهجة التي تخاطب الحواس وتثيرها : من صوت الريح المحموم بالشهوة ، إلى همس المطر ووشوشاته ، التي سرعان ما تأخذ إيقاع الأنين ، حين تقع على جسد الأرض الذي أشعلته الرغبة ، إلى تلك الطقطقة المهيبة عند اندغام المطر وانسيابه في شقوقها ، تلك العاشقة التي تبعث رائحة شوقها ونشوتها ، وتعلن على اتساع المدى ، أن الحياة قد لامستها ، وأن شغفها قد أزهر ، وأن شوقها باللقاء لا ينطفئ أبدا .
كل الأشياء المسكونة بالجمال ترتعش في الشتاء ، حبات المطر ترتعش حين يلامسها الضوء ، الأجساد ترتعش لصوت المزاريب ، الأغاني تتماوج لوهج الحب الذي أشعله المطر ، الرغبات ترتعش لمرأى النار ، والقلب يرتعش أمام صور الأحبة الذين رحلوا وغابوا ، ونفخ فيهم الشتاء من روحه فاستووا أحياء يهطلون على القلب مع ماء السماء .
كل شيء في الشتاء ينساب إلى حياتنا ويزحف ، الحب الذي أسكتنا صوته كثيرا ، يعود إلى القلب ، يربت على كتفه ، يدغدغه ، ليغدو القلب بذلك بركانا من العواطف والأحاسيس التي كانت مكبوتة .
الخيبات الكثيرة التي كسوناها بابتساماتنا ، الذكريات الحزينة التي بالغنا بإخفائها بأفراحنا المصطنعة ، أحلامنا المشتهاة ، الأغاني التي رددناها ذات فرح ، وذات حلم حسبناه لفرط جماله حقيقة ، غنيناها بأصواتنا التي كساها الفرح جمالا خالصا ، وعلّقنا خفقات القلب الساكنة فيها على أغصان الأشجار المبلولة ، وتأملنا ضحكاتنا الخجولة في مرايا المطر ، تلك الأغاني التي صحونا فجأة على سراب الحب فيها ، فأصبحت تبكينا كلما هب الهوى وجاء الشتاء ، كلها تقف أمامنا مبلولة مغسولة بالمطر ، وتضعنا أمام أنفسنا في مواجهة حقيقية وصادقة ، نقف عراة إلا من صدقنا واعترافنا بكل خطايانا ، وخيباتنا ورغبتنا الحقيقية في التطهر من أحزان هذه الخطايا والخيبات .
إننا في هذا العري المكشوف والمعلن أمام المطر ، نبكي كثيرا، ونتأمل في ماضينا وحاضرنا ، نبحث عن أحلامنا ، نعيش يقظة آمالنا ورغباتنا بنقاء كبير ، وبصدق غير مسبوق ، نركض هناك ، في أعماق النفس البعيدة ، نبحث عن صدقنا الذي يجلس على العتبات وحيدا ، عن ذكرياتنا التي تقف على الأبواب وحيدة منذ سنين طويلة ، نتحسس الأبواب التي انتظرنا أمامها أحبة عرفتهم قلوبنا وما رأيناهم بعد ، وأحببنا أرواحهم هناك ، في عالمها الخفي غير المرئيّ ، فأخفينا الشوق إليهم وخبّأناه في حبات المطر ، حيث الذاكرة تصطخب بالوحدة والحلم والانتظار، وكثير من التأمل والعزلة ، والرغبة المحمومة بطهر النفس التي تبلغ ذروة شفافيتها حين يزهر فيها الماء ، ويشتعل فيها دفء الشتاء ، فيغدو كل شيء في هذا الكون جميلا ، حتى الأحزان تصبح جميلة .
في الشتاء تشعر أنك تشتعل شوقًا إلى الألفة المشتهاة والسكينة البعيدة ، أنك تبحث عن طفولتك المتروكة على قارعة العمر المهاجر ، وتشتاق إلى نوار خدّ أمك الذي يفوح في جسدك ويملؤك بالأمان ، نوار خدّها الذي يلامس خدّك وهي تنحني عليك بجسدها الدافئ ، لتحكم الغطاء على جسدك ، وتهمس إليك ( تصبح على خير يا حبيبي ) ، تشتاق و تركض تحت المطر ، تهرب من عزلتك وغربتك ووحدتك وتأوي إلى طيفها ، تأوي إلى طفولة تلوح إليك من بعيد في كل قطرة ، وإلى ألفة كانت ، تركض خلف ذاتك طفلا ما زال يلهو ، وتسرع إلى بيتك ، كلّنا نهرع إلى بيوتنا في الشتاء ، تلك البيوت التي نشعر أنها في الصيف ضيقة وصغيرة ، تصبح في الشتاء أليفة وواسعة ودافئة ، ويغدو القلب مسكونًا بالحنين إليها ، وكلما اشتدت الريح في الخارج ومارس البرد قسوته ، ازداد دفء البيت وحنانه وجماله ، إنه ليس دفء الجدران ولا النار المشتعلة في المواقد ، وإنما هو دفء الطمأنينة والسكينة والسلام .
إن دفء تلك العلاقة الحميمية بين بيوتنا والشتاء ، تجعل الشتاء أكثر جمالا ودفئًا ،، وتحوّل العالم إلى فضاء من المحبة والألفة والنور ، فكلما سمعنا من وراء النوافذ صوت الريح تصفر ، والعواصف تتوعد ، والرعد يزأر ، والبرد يشتد ، ازدادت بيوتنا دفئًا ، وتعمق معناها في نفوسنا ، ووجدنا أنفسنا نمدّ جذور القلب في كل مكان فيها ، وكأننا بذلك نؤكد لأنفسنا أننا نتأصّل في سكينتها وطمأنينتها .
نعم إنها بيوتنا في الشتاء ، حيث حكايا الجدات تتدلّى عناقيد حلم وخيال ويقظة مبكرة ، وصمتًا يحكي رهبة الانتظار وجموح التخيّل ، ودفء أم تنصت إلى الجدة مع الأولاد ، تحيط رهبتهم بطمأنينتها ، فيسكن الخوف ويبقى سحر الحكاية ودهشتها ، يرافقك في المنام وفي اليقظة وفي الصغر والكبر وما بعدهما .
بين المطر والنار نولد من جديد
في الشتاء ، وأمام النار التي تشتعل في المواقد ، تزهر النفس وتشتعل بالحب .
إنهما توأما الحياة ، نارها ونورها ، حياة وحياة وما بينهما تولد آلاف الحيوات والكائنات والخفقات والأحاسيس ، إذ يشعل المطر في النفس كل معاني ومشاعر الحب والطهر ، يقودك إلى أتون الذكرى والحلم ، يصهرك فيه ، ليعيد تشكيلك من جديد ، ويصنع منك عاشقا مُحِبًّا متعمّدًا بطهر الماء ، وإذ تشتعل في نفسك كل عناصر الحياة ، تشعر بالحمى ، وبأن بركانًا يمور في داخلك ، ولا يقوى جسدك الضيّق على استيعابه واحتمال وطأته ، فتأتيك النار المتقدة في المواقد ، بكامل وهجها وأنوثتها وأنين الحطب فيها ، وتماوج ألوانها صعودا وهبوطا ، قوة وضعفا ، لتسحبك بكل ما يمور فيك ، إلى عالم فسيح من الحلم اليقظ ، تمدّ لك حبل التأمّل ما شاء لها ، وتحرمك النوم أمامها ، غيرة على يقظتك التي أشعلتها فيك .
هناك ، أمام النار ، يهدأ بركان النفس ويسكن إلى وهج التأمل الذي انسحبت إليه ، لتغيب في هدوء محبَّب ، وذكريات هادئة ، تعود طفلا تشعل النار مع أطفال الحي ، تمد يديك الصغيرتين مع أيديهم ، بحثا عن الدفء في الشارع المفتوح على الريح والبرد والمطر والأصوات البعيدة ، وصوت أمك المحذّر من الاحتراق بها لا يفارقك ، وتتأمل في وهجها عمال الطريق ، وهم يلتفون حول تنكة زيت فارغة ، وقد ملؤوها بخشب الطريق وبعض الأوراق الملقاة هنا وهناك ، وأشعلوا نارا تبدد وحشتهم في الطريق المفتوح على مجاهل النفس البعيدة . أنت أمام وهجها تغيب في عشق لم يسبق لك أن عشته من قبل ، لتصل يقظتك الحالمة ووعيك المتأمل إلى أقصاهما ، مع وصول النار إلى ذروة فتنتها وألقها ، تلك الفتنة التي تجعلك تركض هناك في عالم سحري من تماوج الألوان في الموقد ، تلك الألوان التي لا تنتهي مع كل حركة تقلّب فيها الجمر ، فتهبك مع كل لون صوتًا من حنين الحطب فيها ، وحركة راقصة تعلن عن مواسم حب جديدة قد بدأت تزحف إلى القلب ، إنك مع تلك العاشقة الفاتنة بسحر اللون وهمس الصوت وعذوبة الحركة ، تدرك حقيقة الحياة التي تنتهي عندما تصل ذروتها ، تماما كما النار تنهار وتنطفئ عند وصولها ذروة اشتعالها ، وأنت ، يا أنت ، تتنقل بين اجتماع النقيضين معًا ، المطر يشعلك حتى الذروة ، والنار تطفئ اشتعالك حين يصل وعيك إلى أقصاه وتدرك من جديد حقيقة الحياة .
نار المواقد في الشتاء صادمة ، عاشقة قاسية ، شرسة وحنونة ، هي النور الذي يجذبك إليه كفراشة ملهوفة ، تمد لك حبل الغواية والبهاء ، فإذا ما انجذبت إليها كعاشق ملهوف ، أحرقتك بنارها ، وكالفراشات دائما ، نحترق ونعود إلى ما احترقنا به ، نحب تلك النار التي أحرقتنا ، لأنها فتحت عيوننا على حقائق ربما ما كنا لنراها لولا احتراقنا ، إن ذلك اللسع الصادم ، يفتح وعينا على عوالم من الفرح والسعادة ، حين ندرك عوالم أنفسنا الخفية .
هو الشتاء ، يهبنا البهاء والنور ، ولكنه يعمق من إحساسنا بالغربة والوحدة ، فينبت الحزن على الأغصان وفي أزقة القلب ، فتبكينا السماء وتستحضر الإنسان الغائب فينا .
من أين يخرج الحزن في الشوارع ؟! لا أدري ، كيف يسيل دمع السماء ويسحّ على خدّ النوافذ ؟! لا أدري ، كيف تأخذ الذكريات فيه حدّ السكين ؟!، تتعملق عزلتنا ، وتأخذ شكلا عميقًا وحزينا ، فنسير في الشوارع بصمت ، نرتدي المعاطف لنواري بها ذلك الحزن الذي ينساب من أجسادنا ، ونفتح المظلات ، لنبكي وحيدين دون أن يشفق على دمعنا أحد ، نعود إلى البيوت مبللين بالدمع ، مغسولين بنور الماء ، نقف خلف الستائر ، ونرقب دمع السماء ، وعويل الريح ، نرتعش بردا ،ونشتعل حبا وطهرا .
ألم أقل لكم إنه الشتاء ؟ .
* أديبة وأكاديمية من الأردن