مع باسم يوسف… «للصبر حدود»!


*بدرية البشر

الإعلام من دون حرية نقد لا يساوي شيئاً، لهذا عرف المصريون ومعهم العرب الذين تابعوا ظاهرة باسم يوسف الجديدة في نقدها الساخر البسيط، أن برنامج باسم يوسف ظاهرة طبيعية لما بعد «ثورة 25 يناير»، اسمها حرية النقد والتعبير.

فقد رفعت الثورة سقف حرية التعبير إن لم نقل أسقطته بالكامل، وسمحت بظاهرة تلفزيونية عربية لم تكن موجودة حظيت بمتابعة مليونية تجاوزت مصر للبلاد العربية كلها، وكانت فناً من فنون الترفيه السياسي الثقافي.

كان طبيعياً أن يغضب «الإخوان» من باسم يوسف، فقد كانوا في مرمى النقد، وقد جرهم هذا النقد لخصومة مضادة كشفت عن هشاشة ثقافية وسوء خلق، فساهم هذا في خفض شعبيتهم ومن ثم سقوطهم. في هذه الأثناء كان المصريون ومتابعو هذه الظاهرة العربية يرون أن النقد هو حق الإعلام، فهو السلطة الرابعة، وهو الرقيب اليقظ لتجاوزات الحزب الحاكم، ومن دون هذه الرقابة لن ينجو الناس من ممارسات الظلم والفساد واللعب بالقوانين. بعد «ثورة 30 يونيو» الثانية سقط «حزب الحرية والعدالة» وجاء العسكر لحفظ الأمن، وتعينت حكومة موقتة لانتخاب رئيس جديد، وهكذا كان لا بد لبرنامج باسم يوسف أن يغير الزاوية ويستدير نحو الوضع القائم ويفتش عما يمثل وجبة نقد وسخرية جديدة، ولأنه لا يوجد في الواقع أناس مثاليون ولا حال مكتملة فقد كان هناك دائماً ما يستحق النقد والسخرية، لهذا كان من المتوقع أن يعود برنامج باسم يوسف كي ينقد القائمين بالحكم الجديد، ليعبر عن حياديته وعدم تحامله على «الإخوان»، فماذا حدث؟
برنامج باسم يوسف وجد نفسه في قبضة جديدة ترفض أن تكون هي الأخرى محل النقد، فخرج أناس ضده من الشعب ومن المؤسسة السياسية، يعتقدون أن برنامجه يثير الفتنة ويسيء لمصر. هذه التهم ذاتها التي قالها مناصرو حزب الإخوان سابقاً، فقد كان برنامج باسم يوسف في نظرهم يسيء للإسلام ويثير الفتنة ويضعف الوحدة في عهد «الإخوان»، تخيّل أن برنامجاً تلفزيونياً هو الذي يفعل كل هذا، برنامجاً يسيء للدين أو للوطن أو يهدد وحدة بلاد كاملة، فهل صحيح أن برنامجاً قادراً على إسقاط كل هذه المكونات التي صمدت قروناً؟ أنا أقدّر مخاوف الكثيرين الذين يعيشون وسط فوضى أحدثتها الثورة وجاءت بمشكلات زادت على مشكلاتهم قبل الثورة، كما أقدر حجم القلق الذي يعيشه المصريون بعد أن ورطهم «حزب الحرية والعدالة» في مزالق حدثت باسم الديموقراطية، لكن المنع عادة لا يورث إلا مزيداً من المشكلات، لأن مبرراته تمنح الطرف الآخر حق أن يمنعك متى اختلف معك.

برنامج «البرنامج» لباسم يوسف يذكرني ببرامج عربية أثارت مثل هذه الاعتراضات، وكان لنا منها نحن السعوديين نصيب في مسلسل «طاش ما طاش» الذي كُفّر أصحابه وهُددوا، واعتبر دعاوى فتنة وضلال، لكن الضحك على أخطائنا ليس إلا وسيلة للكشف عنها، والمصريون يقدرون حس الفكاهة والسخرية، وهم الذين استعانوا عليها وقتاً طويلاً كي يفضحوا مشكلاتهم، فكيف أصبح هذا البرنامج الساخر ثقيلاً عليهم ومهدداً وحدتهم؟ ربما أننا أسرى لذهنية التطرف العاطفي، فمن نحبه لا نقبل مطلقاً أن يكون محل نقد، فهو إما أن يكون كاملاً خالصاً أو ناقصاً خالصاً، لكن هذه الذهنية هي ذهنية خرافية تصلح للحكايات لا للمعاش اليومي، وهي عقلية تنتج قطيعاً لا أفراداً مستقلين، والقطيع يريد أحداً يتبعه ويقلده، لأنه عاجز عن أن يتحمل مسؤولية نفسه، فهو يريد أحداً يقول له أين الصح والخطأ، ولو حدث وشك للحظة فإنه يضيع، لهذا فهو يحمي رموزه من لحظة شك واحدة.

في البلدان المتقدمة لا أحد يعلق كل هذه الآمال على رئيس دولة أو مسؤول، فهو مجرد موظف استحق الثقة ليدير البلاد في فترة محددة، وحين ينتهي من مهمته يعود ليصبح شخصاً عادياً مثل كل البشر، قد يشتغل بالتدريس في الجامعة أو يشارك في إعلان تلفزيوني أو يصبح مستشاراً في لجان دولية. المجتمع الذي لا يطيق برنامجاً تلفزيونياً ساخراً هو من دون شك مجتمع يعيش حال عدم نضج عاطفي، تعوزه الثقة في نفسه، لأنه يظن أنه من دون هذا الرجل أو ذاك، في خطر. باسم يوسف كان يهدي لنا عيوبنا وفق المثل العربي «رحم الله من أهدى لي عيوبي»، ووفق الحكمة العربية «صديقك من صدقك لا من صدّقك» وباسم لم يُهد لنا عيوبنا فقط، بل كان يضحكنا بها ويسلينا.

كنا نضحك حين كان الضحك يستهدف من نختلف معهم، وما أن استدارت العدسة باتجاهنا حتى ينفد صبرنا بقولنا: «إنما للصبر حدود».
_________
* كاتبة من السعودية(الحياة)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *