*يوسف ضمرة
اعتدنا أن نكتب عن كتّابنا ومفكرينا ومثقفينا حين يرحلون، وهو أمر لم نخترعه نحن بالطبع، فالعالم كله يسير وفق هذا النهج، فأنت لا تستطيع أن تصمت حين يرحل كاتب أو فنان أو سياسي، فلابد من قول شيء ما بشأنه، لكن المشكلة لدينا تكمن في أن كتاباتنا عن الراحلين تنحصر في ذكر سجاياهم ومزاياهم الحسنة، لا نفكر مرة في الكتابة عن راحل ما بموضوعية، كما يفعل الغرب. أما الملاحظة المهمة في هذا السياق، فهي أن كل من يكتب عن راحل يصبح صديقه المقرب والحميم، خصوصاً حين يكون الراحل ذا قيمة عالية.
محمد دكروب لم يكن صديقي، لقد التقيته مرات عدة، لكننا لم نكن أصدقاء، وقد نشر لي في مجلة الطريق التي ارتبطت باسمه أكثر من نص، ورغم ذلك لم نصبح أصدقاء بالمعنى الحقيقي، كانت هنالك أسباب عدة تحول بيننا وبين صداقة حقيقية وتواصل حقيقي، أهمها الفارق في العمر، والفوارق الجغرافية، خصوصاً أننا التقينا قبل انفجار ثورة الاتصالات الحديثة.
كان لقائي بمحمد دكروب أولاً عن طريق كتاباته في النقد، في مرحلة سادت فيها الواقعية الاشتراكية في الوطن العربي، وكان هذا المناخ ملائماً تماماً لكاتب مثل محمد دكروب، كما كان ملائماً لروائي مثل حنا مينه. الغريب هو هذا التشابه العجيب بين الاثنين، فكلاهما اقتصر في تحصيله العلمي على المرحلة الابتدائية، وكلاهما عمل صبياً في مهن شاقة (حنا مينه حمّالاً ودكروب بناءً)، إضافة إلى مهن أخرى للحصول على لقمة العيش، وكلاهما أيضاً انتسب إلى الحزب الشيوعي، بل تصادفت وفاة محمد دكروب مع ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني نفسه.
لم يجد محمد دكروب في السبعينات والثمانينات صعوبة تُذكر في الانتشار كناقد عربي له بصمة مميزة، فقد كانت الواقعية الاشتراكية منهجاً سائداً في الكتابة، إلى الحد الذي جعل من لا يكتب على ضوء منهجها يتهم بالرجعية ربما وما إلى ذلك، لكن هذا لا يعني أن أهمية محمد دكروب تأتي من منهجه، وفي مرحلة زمنية محددة فقط، فهذا يُعد تجنياً على الرجل لا نحب أن يأتي منا في هذه العجالة، فمحمد دكروب قارئ مميز للرواية وللتاريخ، وهو في كتاباته النقدية على ضوء المنهج الواقعي لم يكن ناقداً ميكانيكياً لديه قالب جاهز يقيس به الأعمال التي يتناولها، كانت له رؤيته الخاصة التي ميزته عن سواه من نقاد الواقعية الاشتراكية، الذين ارتضوا لأنفسهم الوقوع في شرك الوظيفة الكتابية كما فهمها البسطاء والسذّج من الماركسيين والشيوعيين، وهو يتمثل قول ماركس لأحد الكتّاب الشيوعيين ذات يوم: «أين الشكسبرة في كتابتك؟»، وذلك حين أرسل ذلك الكاتب مخطوطاً إلى ماركس لتقييمه قبل طباعته، وبمعنى ما فإن محمد دكروب لم يقع فريسة الأيديولوجيا بالمطلق، على الرغم من كونه ماركسياً، بل شيوعياً بارزاً.
يسجل لمحمد دكروب عطاؤه المتواصل طوال نحو 60 عاماً أو يزيد في الكتابة الصحافية والأدبية والفكرية، ويسجل له أكثر حرصه على استمرار مجلة «الطريق»، التي كانت تُعد لسنوات عدة بيته الدافئ والأمين الذي يعتز به ويحافظ عليه إلى أن آن رحيله.. فليرقد بسلام.
__________
*( الإمارات اليوم)