أوهام الحياد ورغبات الجمهور !


* تركي التركي

حيادية الإعلام ومهنيته، لعله واحد من أهم المواضيع التي لا ننفك نُنظّر لها أكاديميًّا وإعلاميًّا. افتراضيًّا وواقعيًّا، فهل هناك حيادية مطلقة أو حتى نسبية. وهل المهنية تدعو للحيادية بالضرورة أم المهنية أمر آخر لا علاقة له بالحيادية. الأسئلة كثيرة والإجابات إذا ما تأملنا وبحثنا أكثر.

ولكن، لعلي أقول بداية، وبكل وضوح، «الحيادية كذبة» كواقع وكمطلب، وهذا بحد علمي لا يرضي الكثيرين، وخصوصًا من يعتبرون الحيادية والمصداقية وجهين لعملة واحدة. الحيادية كذبة؛ ليس لأنها مستحيلة على أرض الواقع كما يدّعي النسبيون، وليس لأنها نسبية كما يدّعي التوفيقيون؛ ولكن لأنها ببساطة ليست الوجه الآخر للمصداقية، وعدم تحققها لا يعني بالضرورة أن «التضليل» في المقابل مطلب مهني لا سمح الله.
الحيادية، ليست شأن مؤسسي؛ فكل مؤسسة مبنية على رؤية محددة، سياسيًّا واجتماعيًّا، وإلا ما الداعي لقيامها؟ قد يقول قائل: الداعي «إعلامي» فقط، وهنا من حقنا أن نستغرب، فإعلام من أجل الإعلام فقط رؤية مثالية جدًا، لا أحد يتخيل حدوثها. وقد يقول آخر: الداعي ربحي، وهنا نتساءل أيضًا، هذا الربح تبعًا لأي رؤية؟ أم ربح من أجل الربح فقط، وبالتالي فنحن أمام «تضليل حيادي» وهذا لا يدعو للشكوى من غياب الحيادية، ولكن للشكوى من «ذئاب التضليل» الهائمة على غير هدى، وهذه قصة ساذجة أخرى تنفع للتفكيك والترهيب من خطر هذه المؤسسات، ولكنها لا تنفع للارتقاء بعمل هذه المؤسسات.
لذلك، أستبعد -منطقيًّا- وجود إعلام من أجل الربح فقط، وبالتالي وجود تضليل من أجل التضليل؛ لأن هذه أيضًا رؤية مثالية جدًا، وإن كانت في الاتجاه السالب، إلا إنها تبقى مثالية ومستحيلة الحدوث. ويبقى من الأكيد والمؤكد أن هناك «إعلام»، ولكن وفقًا لرؤى مختلفة وتوجهات محددة، منها الرؤى الجادة العميقة، ومنها أيضًا الساذجة السطحية، ومنها أيضًا ما اختلط فيه هذا مع ذاك. ومع ذلك تبقى رؤى -شئنا أم أبينا- تتعدد تبعًا لثقافة القائمين عليها. والنتيجة، بعد هذا الفصل بين المفاهيم، أنه ليس المطلوب منا كمتلقين أن نطالب بالحيادية إنما نطالب بالمهنية وتحري المصداقية قدر المستطاع.
وهنا قد نصل – نوعا ما- للمعنى الأقرب للحيادية، فالحيادية ليست ما ننتظره من هذه الرؤى الإعلامية المتناثرة، هنا وهناك، فهذا لن يحدث مطلقًا، ولكنها ما ننتظره من أنفسنا في هذا الفضاء المفتوح الذي لا رجعة عنه. «الحيادية في التلقي» -إذا جاز التعبير- هي حالة عامة يجب أن يستوعبها المتلقي في ظل هذا التنوع والانفتاح في الطرح، بأن يكون قادرًا على التمييز بين التحليل الرديء والجيد. بين المنهجية المعقولة واللا معقولة. ثم يقرر تبعًا لذلك، إما الأخذ بالرأي النابع من هذا التحليل أو تركه، دون تعصب لجهة أو مؤسسة.
ولكن، ما يحدث في عالمنا العربي -وبكل أسف- هو عكس ذلك تمامًا، فالمتلقي لدينا منذ طفولته يتعرض لتربية «تلقينية» كسولة طويلة المدى، فلم يعد يعنيه التصور أو التحليل والمقارنة، بقدر ما يعنيه أن يجد «رأيًا» جاهزًا يرتاح له عاطفيًّا أو يبغضه عاطفيًّا، ليأخذ به أو ليغضب عليه. وخصوصًا إذا ما علمنا أن التحليل والمقارنة أو المقاربة، كلها عمليات ذهنية قوامها «المعلومة» والتفكير، بينما الرأي هو نتيجة وخلاصة كل ذلك. وهذا يؤكده عمليًّا وواقعيًّا طغيان صفحات الرأي والبرامج الحوارية من جهة، ونشوة الجدل على تويتر وغيره من جهة أخرى، مقارنة بما يُقدم من أعمال وثائقية أو تحليلية واستقصائية.
فنحن نعتقد لسنين طويلة، وما زلنا، أن كل مؤسسة تدّعي قبولها للرأي والرأي الآخر، أو تتيح الفرصة لذلك، هي حيادية بالضرورة. وهذا بلا شك من أوهام الحيادية لدينا. فالرأي والرأى الآخر، قد يقدم «ثنائية» ولكنه لا يقدم حيادية. الثنائيات، من نوع خير أو شر، مع أو ضد، ما هي إلا استمرار لذهنيات «مثالية» تجاوزها هذا الزمن المفتوح والمتعدد، بحقائقه التي أشبه ما تكون بقطعة نرد لا يمكنك أن ترى منها -من زاويتك- إلا ثلاثة أوجه، ولكن ما خفي أعظم. ويبقى السؤال: هل لديك القوة للاعتراف بما خفي، أي الاعتراف بما تجهل، بذات القدر الذي تجادل فيه حول ما تعلم؟! هذا هو اختبار المصداقية الحقيقي، وليس حفلات الخطابة المنبرية الشفهية التي ما زلنا نمجدها ونمجد أصحابها.
والمتابع لرسائل الواتساب وتويتر وخلافه، التي «يحررها» أفراد من هذا المجتمع، ليسوا حكوميين ولا جاميين ولا ليبراليين، فقط هم أناس فرحين بهذا التحرر الإعلامي الجديد، وبقدرتهم على النشر. أقول المتابع لهذه الرسائل لا بد وأن يلمس هذا المأزق الذي أعنيه هنا. فهناك رسائل يتم تداولها، وإشاعات يتم الترويج لها، يوميًا، أقل ما يقال عنها إنها ساذجة وغبية، ومغرقة في الجهل والتجهيل، ومع ذلك فإن رواجها والتصديق بها من قبل الجمهور، يغري حتى الصحف والقنوات الفضائية من أجل طرحها كمواد صحفية وإخبارية!
وهذا يدعونا لتأمل المحتوى الإعلامي (المطبوع والمشاهد والإلكتروني)، الذي لم يرتقِ على مدار سنين طويلة، ولن يرتقي، طالما لم يرتقِ وعي المتلقي وحساسيته تجاه ما يُطرح. وطالما أراد المتلقي أن يقرأ ويستمع فقط لما يُطرِب عواطفه وأحاسيسه، أو لما يتناسب وقوالبه الفكرية الجاهزة سلفًا. ففي هذا الجو المعرفي المفتوح، والنشر الفردي الغزير. لم يعد من المجدي تكرار الكليشهات التي تؤكد على مسؤولية الإعلام تجاه الارتقاء بذائقة وتفكير المتلقين. ولكن ضرورة التأكيد على مسئولية الفرد تجاه كل ما يكتب أو يسمع، ما يشارك أو ما «يرتوت». “فكفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع”.
وأخيرًا، لعل الحقيقة التي نعجز عن مواجهاتها، سواء كان ذلك من قبل المتلقي أو المؤسسات الإعلامية، هي أن المتلقي بهذه الذهنية السابق ذكرها، لا يبحث عن صحيفة أو قناة إعلامية حيادية -كما يدّعي- أو مهنية -كما أدعي- بقدر ما يبحث عن «فريق» يشجعه، فريق يضع فيه كل أحلامه وأوهامه، خساراته وانتصاراته،. ثم يغامر بكل ما يملك من وقت وجهد عاطفي للمراهنة عليه وعلى انتصاره (مصداقيته). وهذا هو أيضًا ما يجعل هذه القنوات أو الصحف تحاول مجاراة هذا المزاج العام بعد أن تتعرف على «جمهورها» وتحدده. فيصبح أكثر ما يعنيها هو عدم خذلان هذا الجمهور، وهذا يلزمه بالطبع تقديم الكثير من التنازلات، وإن كان ذلك على حساب المهنية، التي لن ينسى الجمهور أن يتباكى عليها لاحقًا، ويا دارة دوري فينا..!
________
* مجلة (المجلة)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *