من هو تشيخوف الأدب العربي؟


*محمد إسماعيل زاهر

متى يعلنون وفاة القصة القصيرة العربية؟ سؤال لا بد أن يطرح في ذلك الزمن المكرس للرواية من قبل مجموعة من النقاد الذين أعملوا أدواتهم الدعائية قبل العلمية لإحلال الرواية كبديل للأجناس الأدبية كافة: الشعر والقصة والمسرح المكتوب، بل لقد اكتشفوا صلات وصل قوية و”عبقرية” بين الرواية والتاريخ، والرواية وعلم الاجتماع . . . إلخ، لا تعد امتداداً للنقد الكلاسيكي الذي كان يبحث في تأثر الرواية بمجتمعها أو تمثلها للتاريخ، وإنما أصبح الروائي وفق هؤلاء مؤرخاً وباحثاً اجتماعياً، بل وسينمائياً لا بد له أن يعرف تقنيات التصوير وهو يكتب، يقطع، مشاهد روايته .

ولم يقتصر تكريس الرواية على هؤلاء النقاد، بل أسهمت دور النشر والصحافة الثقافية والمجلات المتخصصة والجوائز والمؤتمرات وحفلات التوقيع بدور كبير في صك عبارة “الرواية ديوان العرب”، حتى حلم الجميع: الشاعر والقاص والباحث والمفكر بكتابة الرواية، وانعكس ذلك في مناخ يتلهف إلى الجديد، فإذا تحدثنا عن المرأة المبدعة أو الحركة النسوية انصرف الذهن إلى شهرزاد حكاءة “الحواديت” الضخمة “الروايات”، وإذا استخدمنا مفردة “السرد”، وهو مصطلح يشير في الأصل إلى بناء مفاهيمي مركب لا يقتصر على الأدب، قفز خيال القارئ إلى الرواية .
واستطاعت أجناس أدبية أخرى مقاومة استبداد الرواية والبقاء بجوارها والاحتماء بموروث طويل متمايز عن الرواية كشكل فني أراد له البعض الهيمنة، إلا القصة القصيرة التي تشترك مع الرواية في آليات وتقنيات عدة، وتناقصت أعداد من يكتبون القصة في الوطن العربي، وبُرر ذلك في البداية بأن القصة التي تحتاج إلى التكثيف والقدرة على التعبير عن الموقف والفكرة تتطلب موهبة لافتة، ومع تواصل التكريس لم تتردد مجموعة أخرى من نقادنا في الإعلان عن وفاة القصة في أحد المؤتمرات الأدبية .
بعد هذا الإعلان المبدئي توارى كتّاب القصة، ولم يتورع أي صحافي عن سؤال الشاعر أو القاص “ومتى ستكتب رواية؟”، ولم يخجل أي روائي شاب، أصدر عملاً أو اثنين، من القول: القصة مجرد تمرين على كتابة الرواية .
اللافت للنظر والمثير للسخرية في الوقت نفسه أن معظم المواقع العربية المتابعة لأخبار جائزة نوبل للأدب وصفت الكندية أليس مونرو ب”الروائية”، ومونرو الفائزة بالجائزة لم تكتب الرواية، حاولت ذلك طامحة إلى إبداع رواية عظيمة ولكنها فشلت، لم تجد نفسها إلا في القصة القصيرة .
إن قراءة أخرى في حيثيات الأكاديمية السويدية الملكية التي على أساسها مُنحت مونرو الجائزة تدفعنا إلى المطالبة بضرورة مراجعة الكثير من المقولات المجانية المطروحة في ساحتنا الثقافية . يصف تقرير الأكاديمية مونرو ب”سيدة فن القصة في العصر الحديث” وهو ما يتناقض مع أفكار مزجت بين شهرزاد ألف ليلة وليلة، الموروث، وموضة ترجمة أعمال التشيلية إيزابيل الليندي، وغيرها، الوافد، وحديث هنا عن السرد النسوي وحوار هناك عن ضرورة تشجيع المرأة المبدعة، لنخرج في النهاية ب”خلطة” كان المقصود بها الترويج لرواية مكتوبة بأقلام نسائية ترسيخاً لمناخ يحتفي، أو يدعي أنه يحتفي، بالمرأة والرواية في الوقت نفسه .
لقد استطاعت مونرو أن تمنح “عمقاً وحكمة ودقة في كل قصة على غرار ما يفعل أغلبية الروائيين في كامل أعمالهم، وقراءة عمل لمونرو يعلمنا شيئاً جديداً في كل مرة، شيئاً لم يخطر في بالنا من قبل، يضع التقرير القصة على قدم المساواة مع الرواية، حيث يغيب مبدأ الإقصاء أو أفعال دالة على التفضيل .
“غالباً ما نجد في نصوصها وصفاً متداخلاً لأحداث يومية، لكنها حاسمة تضيء على إطار القصة وتبرز القضايا الوجودية”، إن المقطع السابق عن أعمال مونرو هو في العرف النقدي العربي لا ينطبق إلا على الرواية التي يجب أن تهتم بالأسئلة الكبرى والوقائع المتشابكة، وهو العرف السائد حالياً ويبدو أن التقرير يصر على نقضه تباعاً “إن معظم قصصها تدور في مدن، حيث غالباً ما يؤدي نضال الناس من أجل حياة كريمة إلى مشكلات في العلاقات وإلى نزاعات أخلاقية، وهي مسألة تعود جذورها إلى الفروق بين الأجيال أو مشاريع حياة متناقضة”، ولن يجد أي ناقد عربي أفضل من هذه الكلمات للإطراء على رواية جيدة .
لقد أطلق البعض على مونرو “تشيخوف كندا” و”تشيخوف الخاص بنا”، وهو الأمر الذي يعيدنا إلى مناخ ثقافي عربي آخر، كنا نحتفي فيه بالقصة من خلال مجلات مرموقة ومعروفة تصدر في أكثر من قطر وتخصص للقصة ودراساتها، وهو مناخ دفع الكثيرين إلى وصف يوسف إدريس بتشيخوف القصة العربية، هل يمكن الآن السؤال عن تشيخوف”نا”؟
إننا لا ننكر أهمية الرواية، ولكن الإشكال في شقه الفكري يكمن في عقلية التخاصم التي لا تدرك العالم إلا وفق مبدأ أما . . أو، ولا نسعى إلى الصعود بالقصة، فلكل جنس أدبي جمالياته التي لا يمكن العثور عليها في جنس آخر، ولا نفاضل بين الروائي والقاص، فللفرنسي غوستاف لوكليزيو مجموعة قصصية بعنوان “موندو” لا تقل في سحرها وجاذبيتها عن رواياته العديدة التي حصل من خلالها على جائزة نوبل، ولا يمكن أن ننسى قصص ماركيز الخلابة، ونعتقد أن هناك دراسة لم تنجز عن فن القصة القصيرة عند نجيب محفوظ، وهنا لا نستطيع إلا الالتفاف إلى الشق الأدبي في المسألة ويتعلق بملاحظة متكررة ولكنها حقيقية، ونعني بها ضعف الموهبة الواضح في ثقافتنا الراهنة، حيث لا رواية، وسط كل هذا الزخم، تمثل امتداداً لمحفوظ أو الطيب صالح أو الغيطاني أو حنة مينا أو عبدالرحمن منيف . . . إلخ، ويصبح أي حوار حقيقي حول القصة القصيرة من قبيل الترف .
ويبقى في النهاية الإشارة إلى مجموعة من النقاد سيستغلون مناسبة فوز أول قاصة بجائزة نوبل لتصديع رؤوسنا بكلام نتوقع أن يدور حول نقطتين: القص النسوي، والقصة القصيرة جداً وهي جنس من الكتابة متوافر في إبداعات غربية سابقة اكتشفناها الآن، ونمارس معها أنواعاً من “الشعوذة” لا تبدأ بتغيير الاسم إلى “قصة الومضة” ولا تنتهي بقائمة مطولة من النصائح موجهة إلى الشباب . والأفضل لنا في هذا الحال أن نعلن بحق عن وفاة القصة القصيرة العربية .
____________
* (الخليج)

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *