*أنطوان جوكي-باريس
حين نقرأ رواية الباكستاني نديم أسلم الأخيرة “حديقة الضرير” التي تتناول الحرب بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، يتبيّن لنا مدى جهلنا لحيثيات هذه الحرب والمآسي التي خلّفتها.
أحداث الرواية -التي صدرت ترجمتها الفرنسية عن دار “سوي” للنشر- تقع على الحدود الباكستانية الأفغانية خلال عامَيْ ٢٠٠١ و٢٠٠٢، أما شخصياتها الرئيسية فتنتمي إلى عائلة باكستانية تدفع ثمن هذا الصراع غالياً.
فالوالد “روهان” أسّس قبل الحرب مدرسة إسلامية تحمل اسم “الروح المتقدة” وتعاون مع زوجته “صوفيا” لإدارة شؤونها، قبل أن تتوفى هذه الأخيرة، ويضع “إسلاميون متشددون” يدهم على المدرسة ويحولونها إلى مركز لتدريب الفتيان على ما يسمونه الجهاد.
ولكي يزداد الطين بلة، يفقد “روهان” تدريجياً بصره فيُضطر إلى ملازمة منزله المشيّد قرب المدرسة ويحاول مواساة نفسه عبر الاعتناء بحديقة منزله.
وإلى جانب ولديه “جيو” و”ياسمين”، احتضن “روهان” ولدينْ بعد وفاة والديهما، هما “بازي” الذي سيتزوج من “ياسمين” ويعمل معها مدرّساً في مدرسة مسيحية، وأخوه الصغير “ميكال”.
وبخلاف أخوته الذين تمكنوا من تحصيل علمهم، “ميكال” شخصية حادة الطباع وحرة، هربت باكراً من المدرسة وعلّمت نفسها.
فرار ومآسِ
وثمة شخصية أخيرة مهمة بالرواية هي “ناهد”، فتاة فقدت أيضاً والدها باكراً، وأحبها ميكال في السر قبل أن تُضطر أثناء غيابه إلى الزواج من “جيو” بعد دخول والدتها “تارا” السجن لعدم تمكنها من إحضار شاهد على عملية الاغتصاب التي تعرّضت لها.
وزواج ناهد من “جيو” هو الذي يقود “ميكال” إلى التواري لفترة عن الأنظار قبل أن يعود ويقرر مرافقة جيو إلى أفغانستان في السر لمساعدة ضحايا الحرب. لكن ما إن يصلا إلى مدينة بيشاور حتى يقعان في قبضة مقاتلي طالبان الذين يحتجزونهما في قلعة لن تلبث أن تتعرض لهجوم فيُقتل “جيو” فيه ويقع “ميكال” في قبضة الجيش الأميركي.
وعلى مدى شهرين يخضع “ميكال” لتحقيق قاس تخلله عمليات تعذيب وإذلال على مدار الساعة قبل أن يتمكن من الفرار من جلاديه بعد قتله ضابطينْ أميركيينْ، فتبدأ رحلة هروبه بمنطقة القبائل الشهيرة التي يسردها أسلم لنا على طول الرواية بحس تشويقي رائع متوقفاً من حينٍ إلى آخر عند ظروف عائلة ميكال التي ستعرف، بعد تسلّمها جثة “جيو” وخبر وفاة “ميكال”، مآسي متلاحقة تنتهي بمقتل بازي (شقيق جيو) على يد “مجموعة إرهابية” في المدرسة التي كان يُدرس فيها.
وعلى رغم سوداوية الرواية، إلا أنها ليست مجرد فضح لفظائع الحرب بقدر ما هي سردية منيرة وحُلُمية حول قدر أشخاص ذوي إرادة طيبة يلحق بهم كابوس العنف والكراهية إلى عقر دارهم، سردية تتراوح بين رعب وغنائية وتأمّل، وترسم صورة مخيفة ودقيقة لصراع تغذيه حكومات وأمراء حرب، ويقود الصراع عدداً كبيراً من الشبان لتبنّي منطق القتل والإرهاب.
صور جمالية
ويأسرنا نص الرواية بكثافته وغناه الشكلي وغزارة المواضيع المعالجة فيه من دون مهادنة، فإلى جانب النقد المركّز للمعسكرَين المتقاتلين، الأول: الولايات المتحدة التي لم يتوان جيشها عن قتل وتعذيب آلاف الأبرياء باسم محاربة الإرهاب، والآخر: أفغانستان وباكستان حيث يسود التعصب الديني والفكر الظلامي اللذان يلغيان حياة الناس، يمنحنا أسلم تأملا جميلا في الروابط التي تجمع الأديان السماوية عبر استشهاده تارةً بالقرآن الكريم وتارةً أخرى من التوراة.
لكن قيمة الرواية تكمن أيضاً في تشكيلها احتفاء بقيَم “روهان” الذي أمضى الجزء الأخير من حياته متأملاً في زهور وأشجار حديقته وآملاً في عودة ولديه سالمَينْ رغم معرفته بأن دم الأبرياء لا قيمة له أمام جنون البشر.
ولخطّها، لجأ الروائي إلى كتابة شعرية رقيقة قادرة على قول العنف البشري الذي لا يوصف وروعة الطبيعة التي يقع هذا العنف في أرجائها، كما لجأ إلى شخصيات تبدو عادية في ظاهرها لكن ما إن نستكشف أعماقها حتى تتجلى فرادتها وقدراتها الكبيرة على تجاوز مِحَنها.
ومن خلال هذه الشخصيات، سعى أسلم إلى إظهار حقيقة مثيرة مفادها أنه لا يوجد إنسان عادي وأن أكثر الناس بساطة وضعفاً قادرون على تغذية الأمل ومحاربة اليأس في قلب الجحيم نفسه.
وفي هذا السياق، يكشف بمهارة فائقة ميكانيكيات البقاء على قيد الحياة في أتون الحرب وعمليات التأقلم إلى أحداث صادمة أو مؤلمة عبر التعلق مثلاً بلحظات جمالٍ عابرة، كتحليق رف عصافير فوق مجزرة أو طيران فراشة في سماء مشبّعة برائحة البارود أو محاولات نملة تسلّق جدار سجن محمّلة بحبة قمح تزن أضعاف وزنها.
_______________
*الجزيرة