الــوَديــعـــة


*د. توفيق قريرة

جلستُ أنتظر دوري . وقفتْ أمامي سيّدةٌ رمَى فرعُها بعيدا وتوزّع عِطْرُها في الأنوف. نظرتْ في الوجوه المنتظِرة وجلستْ حذوي دون أن تراني.

ارتمَتْ ناحيَةٌ من سُترتي على كرسيّها فجثم بنطلونها ‘الدجينز′ عليْه. جذبت مَا استطعتُ من سُترتي أفكّها من محبس ‘الدجينز′ ولكنها لم تأبَه بشيء من خلاصي ..وضعت بين يديّ دفترا جلديّا تحمله وقفازاتها وحقيبتها اليدويّة وبإشارة مستلطفة استأذنتني أن أترك لها وديعتها عندي ريثما تعود. ابتسمت لها موافقا وأسرعت هي باتجاه السلالم صاعدة إلى الطابق العلوي لأمر ما قد يكون مستعجلا. 
لم يحن دوري بعْدُ ؛ كان الفارقُ بيْن الرقم المطلوب والرقم الذي في يدي كبيرا. لأوّل مرّة أتمنّى أن يطول انتظاري حتى تأتي صاحبة الوديعة. شعرت كأنّ جزء سُترتي يتحرّك يريد الهروب مني إلى كرسيّها.. حجزتُ له الكرسي الذي جلست عليه حتّى لا يزعجه ‘دجينس′ رجالي لا سمح الله . وضعتُ جميع مفردات وديعتها على كرسيّها الفارغ وظللت أنتظر: عيْنا على الأرقام وأخرى على السّلالم التي غيّبتها. 
جاءت سيدة أخرى نظرتْ إلى الوجُوه في القاعة .. كانت جميع الكراسيّ قد حُجزت ولم يَبْق إلاّ كرسيُّ الوديعة حذوي. قالت لي: أيمكن أن تضع أشياءَ زوْجتك على فَخذيْك حتّى أجلس. ابتسمت ووضعت الوديعةَ حيْث أمرتْ. جلستْ فوقعتْ على طرفِ سُتْرتي؛ ولمّا حاولتُ فكّ أسره من ‘الدجينز′ رفض واستعصم؛ فلم أحاول جهدي أكثر. ابتسمتُ خِفْية .. وسرعان ما صارت بسماتي ضحكات محتشمة فقهقهات مفضوحة .. ضحكتُ من الأشياء كيفَ تتغيّر: الحقيبة اليدويّة صارت زوجتي وصار لي فخذان أنا الواهن الواقف على عَمُودين … انخرطت في ضحك لم أستطع أن أتحكم فيه .. تخيّلت كثيرا من المشاهد تولّدت من كلمتيْها أضحكتني .. نظرتْ إليّ جارتي وآسرة طرف سترتي باشمئزاز؛ فضاعفت الضّحك.. وفجأة خفْت أن تغضب منّي فتسمعني ما قد لا أحبّ.. أنا لستُ بارعا في الخصومات هزائمي متتالية فيها .. الحقيقة أني لست بارعا في أيّ شيء.. إلاّ في خلاص الفواتير.
التفتّ إلى جارتي وقلت لها: هل تعتقدين أنّ خلاص الفواتير أمرٌ هيّن؟ مطّت شفتيها وهزّت كتفيها ووضعت نظارتها الشمسية كأنّها تريد أن تخفي شيئا .. أضفت: تصوّري أنّك تجلسين ساعتين على الأقلّ تنظرين دورك.. صمتَتْ لا تبالي فأضفت: وحين تتقدّمين إلى الشباك تدفعين معاليم باهظة لأشياء لم تستهلكيها. 
أطلت الحديث في أشياء أخرى فما انتبهت إلا عندما قامت وتركت على الكرسي قفازاتها ودفترا جلديّا وحقيبتها اليدوية. رأيتها وهي تذهب باتجاه السلالم كانت مثل الأولى فارعة الطول شعرها المنسدل يتشابك مع فرو معطفها بالأيادي .. غابت في السلالم طالبة الطابق العلويّ. امتلأت من الغيظ كيف أنّها لم تستأذن مني لتذهب مثلما فعلت الأولى ولم توصي خيرا بالوديعة .
مضت ساعة منذ غياب الأولى وشعرت أنّ دوري قد حان ولم يَلُحْ بارقٌ لحسناء من الحسناوين .. كيف لي أن أترك وديعتيْهما لكراسيّ قد يجلس عليها من ينهبهما؟ ماذا أقول لطرف سترتي الذي تعوّد على ضغط الدجينز الناعم؟ وماذا أقول لأنفي الذي تعوّد عطرهما المستورد؟ وبينما أنا في همّ وشغل من هذا وغيره؛ جاءت الحسناء الأولى وفي مشيتها انثناء وفي عودها تكسّر لا تتقنه إلاّ مديدات الطّرْف.
ناولتني ورقة وقالت: إذا جاء دوري ولمْ أعُدْ، ناولْهمْ هذا وسيسلمونك شهادة الخلاص.. وقفلتْ راجعة من حيث أتت.. صاح صوتي المحشرج وراءها: والوديعة ؟خذي معك الوديعة.. قالت: عائدة إليها وإليك انتظرني..
كان صوتها كأصوات كثيرة تسكن في أذني تدغدغني ..لا أعلم لماذا تحرّكني هذه الأصوات وتغرقني بشوق دفين إلى شيء ما لا أعرفه بالتدقيق.. يشبه ريح غابات الصنوبر أو أنفاس بحر في ليل شتائيّ بهيم.. فتحتُ الورقة التي ناولتنيها فصدمت بما هو مكتوب: إعفاء من خلاص الفاتورة.. حفظت نصّه عن ظهر قلب: بناءً عَلى مَا خُوّلناه من سُلط، نرخّص نحْنُ الموقّع أسفله لمن حمل هذا أن يُعفى من خلاص الفاتورة المنصوص عليها. 
تركت الورقة جانبا وتفكّرت في أنّ في الأعلى قلوبا رحيمة يمكن أن تيسّر لي ما يسّرته لها .. تقدّمت باتجاه الدّرج.. منعني من تخطي أولى عتباته جسمٌ فتيلٌ لمْ أره من قبْلُ.. عُدت أدراجي وجلست أنتظر دوري .. جاءت الحسناء ذات الفرو المشاكس فناولتني ورقة مثل الورقة الأولى وتركت وديعتها وانصرفت .. اقترب دوري في الخلاص تقدّمت مرّة أخرى ناحية الدرج الذي تسلقاه وجدت ذاك الفتيلَ، دفعني حتّى سقطت أرضا ..عدت إليه ثانية فدفعني حتى سقطت وسقطت. ولمّا يئست منه وما يئس مني السقوط .. عدتُ إلى مكاني .. جاء موعدُ خلاصي .. تقدّمت من الشباك ودفعت المعلوم المسجّل في الفاتورة وألزموني بالتبرّع لجمعيّة قالوا إنها خيرية وطلبوا مني أن أترك الباقي كي يدفعوا منه خلاص فواتير الفقراء والمحرومين .. تبرّعت وتركت مكرها ما تركت من مال..
جلست أنتظر دورَ الحسناويْن لأنفّذ ما طلباه منّي.. وفجأة جاء من جلس حذوي وهمس لي: اُنْجُ بنفسك واحمل الوديعتيْن معك .. هيّا قبل أن تقع في المصيدة ..وقف الذي وسوس لي وخرج مسرعا .. حملت الوديعتين .. وأسرعت إلى الباب أطلب الفرار.. خفتُ أن تلحق بي الحسناوان فأوقفت سيارة أجرة .. أعطيته عنوانا غير عنواني.. ولمّا وصلتُ لم أجد مالٌ أدفعه لصاحب السيارة .. أدخلت يدي إلى حقيبة من الحقيبتين أعطيت السائق ورقة نقدية وقلت له اترك الباقي. ابتسم وشكرني قائلا: غرفت من غير معينك..
أيّة كلمة هذه ؟ كيف عرف أنّي أخذت من مال ليس لي؟ تذكّرت أني أحمل بين يديّ الحجّة على إدانتي.. حملت الودائع وانتحيْت جانبا من المدينة غير مزدحم فتحت الحقيبة الأولى كان فيها مع النقود عطر وأحمر شفاه وشدّاد للشّعر .. وكان في الثانية ما في الأولى غير أنّ نوع العطر كان مختلفا. وفي الدفتر الجلدي وجدت أذونا كثيرة بعدم الدفع .. وشهادات أخرى لم أفهمها وأوراق كثيرة الرموز.. ألقيت الحقيبتين في أوّل صندوق للقمامة وتركت معي الدفترين بما حملا ولبست زوجا من زوجي القفازين .. ارتفعت يدي دون إذن مني لتوقف سيارة سوداء كانت واقفة غير بعيد من هناك ؛ وما بين إشارتي وتحركها دغدغت يدي أنفي فغمرته عطور الصباح..ثمّ ضغطت يدي على حنجرتي .. تنحنحت فصار صوتي رخيما .. وقفت لي السيارة السوداء .. فتح لي بابَها سائقٌ أنيق؛ ركبت .. كانت حذوي سيدة من سيدتي مكتب استخلاص الفواتير وفي المقعد الأمامي جلست السيدة الثانية .. قالت من تجلس في الأمام: هل تنفّس سيّدي هواءً غيرَ ملوّث بعطرنا؟ وقالت الثانية التي على يميني: هيّا يا عزيزي هم بانتظارك في اليخت.. لقد نجحت في أّوّل تمارين الحياة العامّة.. 
ارتخت يدي وكأنها كانت مغلولة إلى عنقي فوقعت على شيء نظرتُ فإذا هو الحقيبة اليدوية التي ألقيتها منذ حين في صندوق القمامة .. وضعت عليه الدفتر والقفاز.. وقلت هذه وديعتك.. قالت السيدة التي تجلس في الأمام: وهذه وديعتي.. وقالت من هي على يميني: أنتَ وديعتي أنا.. سارت السيارة ومعها شرد ذهني يسأل من تكون السيدتان؟ 
________
*كاتب من تونس
(القدس العربي)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *