عند منعطف الأفول


*إبراهيم صموئيل

ما الذي يعتمل في أعماقنا، حين يحل الهزيع الأخير من أعمارنا، حتى ترانا نرجو ونتوسل بضع سنوات إضافية من الحياة كي نستدرك خلالها ما فاتنا إنجازه أو سهونا عنه، واعدين أنفسَنا، بصدق، أن نتمّه لو استجابت الأقدار لما نأمله قبل أن يزجّ بنا في قطار الرحلة الأخيرة؟!

يروى عن فيودور دوستويفسكي (1821-1881) أن مرض الصرع قد أصابه وهو في التاسعة من عمره، ورافقه على مدار سنوات حياته، حتى إذا ما استفحلت نوبات الصرع، وأُضيف إليها احتقان الرئتين وعسر التنفس “كانت السنوات الأخيرة هي الأسعد إذا ما قيست بالسنوات التي سبقتها” يقول مترجم أعماله سامي الدروبي، وهذا مفهوم بعد نيله من الشهرة ما ناله.
غير أن المدهش واللافت أيضا أن تكون السنوات الأخيرة هذه إبداعيا “خصبة إلى أقصى حدود الخصوبة” وفق ما يؤكده الدروبي، خاصة وأنه -حياتيا- كان قد بدأ النزول نحو السفح!!
في السنوات العشر الأخيرة، وفي لجّة مرضه، كتب رائعته المعروفة “الأخوة كارامازوف” مغتبطا بما أنجز، ومعبرا عن سعادته، ثم مطلقا في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1880 رغبته العارمة “أريد أن أحيا وأن أكتب عشرين سنة أخرى” فلا يُقيّض لرغبته سوى أيام، حين سيرحل في 28يناير/كانون الثاني 1881 عن قلب مترع باشتهاءين: المزيد من الحياة للمزيد من الكتابة.
لست في وارد التذمر أو التأسي من كون الأقدار لم تمنح كاتبنا العظيم ما اشتهاه ورغب به، وإنما بصدد التأمل والتساؤل عن سرّ فيض الرغبة التي لم تنبثق إلا على عتبة الغياب، حين شعر باشتداد المرض واستفحاله وبلوغه ذروته! ألأن دفقة البدايات تتجلّى وتحتدم في النهايات على الدوام؟ ألأن بهاء الحياة لا يتبدى إلا في خواتيمها، في ساعات الأفول، تلك التي -وهي تأزف- تضيء للمرء ما فاته، فيهتف من أعماق قلبه: إلهي، لو أنّ لي بعض الحياة!
سنشهد في سيرة حياة وإبداع الكاتب المسرحي المعروف سعد الله ونوس (1941-1997) ما يُصادق على هذا ويؤكّده. إذ بعد أن كتب العديد من الأعمال المسرحية في الستينات والسبعينات، وتمَّ عرضها، ولاقت نجاحا كما لاقى هو نفسه الشهرةَ واحتلّ مكانة بارزة بأعماله المعروفة “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، و”الفيل يا ملك الزمان” و”مغامرة رأس المملوك جابر” وغيرها.. نجده، بعد الغزو الإسرائيلي للبنان 1982 وبسببه، يغيب عن واجهة الحياة الثقافية ويعتكف، متوقفا عن الكتابة طيلة عقد الثمانينات.
في مطالع التسعينات يصاب ونوس بمرض السرطان الخبيث، ويدخل في معاناة مريرة تدوم خمس سنوات كاملة، لكن المفارقة أنها لم تكن عجافا قطّ، بل “مثمرة وخصبة إلى أقصى حدود الخصوبة” أيضاً، إذ خلالها، وفي تصاعد مطرد للمعاناة ودنو الأجل، يكتب أبدع أعماله وأقواها وأعمقها: “منمنمات تاريخية”، “طقوس الإشارات والتحوّلات”، “ملحمة السراب”… وغيرها.
ما الذي اعتمل في داخل ونوس -بعد أن كان رهين المحبسين: عكوفه عن الكتابة عقدا كاملا، والابتلاء بمرضٍ قاتل- حتى تراه يندفع، ويتدفق كينبوع، فينتج أجمل أعماله المسرحية خلال سنوات خمس قبل رحيله؟! هل كان يدفع عن نفسه الموتَ المحتم بإبداع يُحيي اسمه؟ هل كانت غزارة أعماله الأخيرة ورفعتها “المعادل الفني” لاشتداد المرض وحلول الهزيع الأخير؟
تساؤلات تطرح نفسَها في سياق تأمّل حياة المبدعين وتقلّباتها -كفّا وإقداما- وفي الارتباط الوثيق بين تلك الحيوات وزمن صدور أعمالهم ومستوياتها الإبداعية.
حين أُدخل محمود درويش (1941-2008) إلى غرفة العمليات وأجريت جراحة لقلبه العام 1997، خرج من المشفى -يقول أصدقاؤه المقربون- مُحملا بهمومِ “رحيل مؤجّل” شكل منعطفا كبيرا بأن أضاف إلى روحه عنايتَه المشددة بنفسه وشخصه، وغيّر من موضوعات قصائده -يؤكد الدارسون- إذ ستحضر الحياة، ومنمنماتها، وخوالج مفرداتها اليومية، على نحو بهيّ مشعّ أكثر مما ذي قبل. 
وسيولد في قلبه المتعب، المنتظر، اشتهاء عارم للحياة وللمزيد منها، وحرص على كل دقيقة فيها، جراء محنة البرزخ التي أضنته وهدّدت أثمن ما لديه: حياته، فيكتب قصيدته/ الديوان “جدارية” التي مثلت علامة فارقة في سيرته الإبداعية كلها!
بعد المحنة يقول في جداريته: 
.. ويا مَوْت انتظرْ، ياموت،
حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع
وصحّتي ، لتكون صيّادا شريفا لا
يَصيدُ الظبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ
بيننا وُديّة وصريحة : لَكَ أنَتَ
مالَكَ من حياتي حين أَملأُها..
ولي منك التأمُّلُ في الكواكب
ولنا جميعا -كتابا وغير كتّاب- أن نتساءل عن سرّ اشتهاء الحياة هذا في ساعات الرمق الأخير؟! ألأننا نستحضر جمالها كلّه، ومغامراتها كلها، وتفاصيل دهشاتها، ولقاءاتها، وانتظاراتها، وحتى خيباتها وأحزانها؟ ألأننا نكتشفها بعد فوات الأوان بكثير؟ ألأن الوداع صعب ومرّ ومحزن فندفعه عنّا بتذكر ألق اللقاء؟
عبثاً سنحاول أن نعرف. فالنهايات أسرارها، للخواتيم ألغازها، لآخر لمسة، أو مشهد، أو كلمة، وقعها بما لا تكنّه، بل بما تفيض به فيجعلنا في لحظةٍ، نأسف على كل ثانية أغمضنا خلالها عيوننا، وعلى كل متعة أضعناها من متع الحياة الكثيرة بلغو الانشغال وثرثرة التزاحم على التوافه، ناسين أن نقول لمن نحب إننا نحبه.
وبرغم هذا، ربما ليس لكل ما سبق! إذ حتى لو تنبهنا وتيقّظنا فلم نُضعْ، أثناء الحياة، أجمل ما في الحياة. حتى لو كتبنا ما أردنا أن نكتب، وأحببنا من رغبنا أن نحب، وعزفنا ورسمنا ما أردنا أن نعزف ونرسم… سيبقى في الأفول وميض الشروق، ستحتشد النهايات بروعة البدايات، سنتوق -ونحن نودّع- إلى لحظة اللقاء، سنستنجد ونرجو ونهتف ونأمل، وسنبكي أسفا وحزنا.. ولكن دون جدوى إلا البريق البهي المخادع -أو ربما الحقيقي- الذي لا يتكشف لنا في الحياة أبداً!
_____________
*قاص وكاتب سوري (الجزيرة)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *