عن الطفلة التي لم تقرأ


مريم الساعدي*


سألت ابنة صديقتي الصغيرة بعد عودتها من رحلتها المدرسية إلى”معرض العين تقرأ” عن مشترياتها، أجابت أنها لم تشترِ سوى بيضة ديناصور تفقس حين توضع في وعاء ماء ليكبر الديناصور تدريجياً. وهكذا كانت أغلب مشتريات رفيقاتها. 

لماذا لم تشترِ أي كتاب من معرض الكتاب؟، قالت إنها لم تجد أي شيء يثير اهتمامها، قالت إنها تبحث عن كتب مختلفة، فيها تشويق وإثارة وتحدٍ وذكاء. 

لا ألومها. بما أن المعرض مخصص لدور النشر المحلية، فهذه الدور غالباً لا تنشر إلا كتب أطفال وطبخ، وبعض كتب التنمية الذاتية التجارية في هدفها أساساً. وبعض الدور تخصصت بنشر روايات لا ترتقي لمسمى رواية ولو على بعد ألف ميل ضوئي. كتب لا تخاطب لا عقلاً بالغاً يبحث عن معرفة ولا طفلاً واعياً في القرن الواحد والعشرين.

يقولون هكذا يريد السوق. وأتساءل: من يحدد ما يريده السوق؟. ثم أين الدور المعرفي لدور النشر؟ هل مهمتها فقط تلبية ما يريده الناس أو ما يعتقدون إنهم يريدونه؟ أين دورها في الارتقاء بالذائقة الشعبية؟ ثم أي أناس هؤلاء الذين يريدون هكذا بضاعة؟ كل من أعرفهم يشتكون من تدني مستوى الكتاب المعروض باللغة العربية. فلمن تباع هذه الكتب التي يضن حتى الطفل الصغير بوقته عليها؟

الكتاب يا دور النشر معرفة. وإن لم تكن معرفة حقيقية فلا تهدروا الورق عليها. الورق هذا ثمين، يأتي من لحاء الشجر. والشجر جوهر الوجود. كيف تعدمون جوهر الوجود لتطبعوا عليه ما لا يثري الوجود. 

يجب ألا يكون النشر مشروعاً تجارياً. ليس في مشهد ثقافي ما زال في مراحل تشكله وتخلقه الأولى على أية حال. لا بأس من وجود دار نشر تجارية أو اثنتين أو حتى عشرين في مشهد ثقافي زخم، يعج بدور نشر جادة حقيقية كبيرة ذات أهداف فكرية ومعرفية جادة. أو فلنقل لا بأس من وجود هامش تجاري ضمن التوجه العام المعرفي أساساً في أي دار نشر. فالتجاري وسط الزخم المعرفي سيبقى دوره محدوداً. لكن والمشهد في مراحل تخلقه الأولى، يكون إقحام التجاري بهذا الشكل الاحتلالي الشامل جرم في حق تشكيل الوعي المعرفي العام للمجتمع. 

إنشاء دار نشر يجب ألا يكون هدفه ربحياً أساساً. من يرد أن ينشئ مشروعاً ربحياً ناجحاً يدر عليه الأموال يمكنه أن يفعل ذلك. فهناك الكثير من المشاريع الربحية المتاحة، إن كنت تبحث عن الربح فقط فابتعد عن عالم الكتب.

إنشاء دار لنشر الكتب يجب أن يسهم في رفد الساحة بالكتب الجميلة التي تناغي الروح، والكتب الفكرية التي تناوش العقل، وبالكتب التي تعيد كل تلك الركائب من العرب إلى أحواض اللغة العربية بعد أن أبعدهم الإسفاف إلى محيط المنتج المعرفي المكتوب بالإنجليزية واللغات الأجنبية. على صاحب دار النشر أن يكون صاحب رؤية أيضاً، وليس «بزنس مان» فحسب.

يجب ألا يعامل الفرد العربي على أساس أنه شخص تافه لا يبحث إلا عن التسلية السطحية الفارغة من أي معنى سواء في الفن أو الكتب. ففي الفن إسفاف بحجة “الجمهور عاوز كده”، وفي النشر استخفاف بحجة “هذا حال السوق”. 

حتى نرتفع بالفن والأدب عن منطق السوق، سنبقى شعوباً تراوح في الخطوط الخلفية للمعرفة الإنسانية الكبرى دون أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. وسينمو الديناصور الصغير في الوعاء ليلتهم المشهد كله.


* كاتبة من الإمارات
( الاتحاد )

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *