*هدى بركات
هذه الجملة أردّدها في رأسي منذ فترة كشرخ في تلك الأسطوانات السوداء القديمة. حتّى باتت، إلى عدم دقّتها، خالية من أيّ معنى… وحتّى صرت أنا نفسي لا أتساءل عن مؤدّى تكرارها أو عن سبب هذا التكرار.
هكذا أقول. سوء فهم فظيع، وأتابع عاديّات النهار. إلى أن قرأت، في محــاولاتي الابتعاد – بل قل الهروب – من/عن «أخبار» منطقتنا، بحثاً عن «ذهب الكونتستادور». وفحواه أنّ قبيلة «مويسكاز» التي كانت تُقيم مملكتها في البيرو قبل وصول الغزاة الأوروبيين، كانت تملك أطناناً من الذهب. وسمّاها الغزاة حتّى قبل وصولهم إلى مجاهلها «الإلدورادو». ما يهمّني روايته من ذلك البحث هو ما ردّني إلى «سوء التفاهم» إيّاه.
ارتكب الكونتستادور ما ارتكبوه من مجازر توسّع المؤرّخون في تدوينها لأنهم اعتقدوا أنّ ما قدّمه لهم أهل البلاد من ذهب حال وصولهم إنما كان لإخفاء الكنوز الهائلة الحجم والوزن التي أرادوا إخفاءها… والحقيقة أنّ الذهب لم تكن له أيّة قيمة شرائية عند ال«مويسكاز». وكانت عملتهم للشراء والمقايضة هي الملح !! الذهب كان للشعائر الدينيّة ونهاية استعماله كانت بِرَمْيِه، أي إعادته إلى الطبيعة التي منحته، شكراً وتمجيداً للآلهة.
باختصار شديد: التراجيديا ليست من اختراع الإغريق. إنهم فقط مدوّنوها. إنها فقط، عبر الأزمنة والمسافات، ومهما قرأناها وتعلّمناها، تستولد ذاتها في قابلية عبثيّة على التكرار إلى ما لا نهاية. تلك هي التراجيديا. تكرارها من دون معناها هو معناها الوحيد.
***
سوء فهم فظيع. نحن في تراجيديا فظيعة.
الآن وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وتعالى نفير استنكارنا، ودبّجنا خيباتنا وآمالنا المجهضة، ووقفنا كالغربان الأصيلة ننعي الشهداء ونبكي الضحايا… الآن وقد وقّعنا على البيانات المستنكرة، وسرنا في المظاهرات رافعين أيدينا، وهدّدنا حين استطعنا، وحرنّا في حظائر خياراتنا كالبغال. الآن وقد أبّنّا الحداثة برفقة شتّى أنواع الجماهير، واستبحنا اللّعنات إلى كلّ حدب وصوب، شرق وغرب، ثمّ شكّكنا في جميع حقائق التواريخ، ورحنا إلى تصحيح/تحريف تعريفات فلسفية إجتماعيّة، وإلى محو قواميس سياسيّة ونبش قبور معادلات علميّة… الآن وقد تبادلنا جميع أنواع التّهم، من سحل العدوّ إلى الانتصار المبين بحرق الأخ، وتفخيخ الأمهات في بطونهنّ… هل من ضرورة للمزيد؟ هل من المفيد إرفاق الصور؟ أفلام الهواتف؟ نصوص نشرات الأخبار؟ التحليلات؟ القصائد؟ البيانات؟ محاضر الـ …؟ ظلم الأمم المتّحدة؟ مصالح الأقوياء؟ موت العدالة؟ طغيان الهذيان القومي؟ الديني؟
صباح الخير. ماذا تفعل؟- أكتشف العالم القديم. لماذا؟- لأنتمي إليه مجدّداً، إذ عليّ استنكاره بحزم وباللهجة التي تليق به!… كأنّ ما نَصِفُه ممّا نحن فيه إنّما هو قراءة في أسطورة، في خرافة، ذلك أنّنا، في كلّ صباح نبدأ من جديد. ذلك أنّنا، في كلّ صباح، نصحو على سؤال واحد، يتكرّر كما على تلك الأسطوانات السوداء القديمة المشروخة: متى نصل إلى القعر؟ متى ينتهي كلّ هذا؟… في التكرار الذي يعمل فقط على التفريغ من المعنى. أيّ «قعر»؟ أيّ«كلّ هذا»؟
هذه أسئلة استنكاريّة. أعني أنها أسئلة مكتملة في ذاتها كالبيضة، لا تطلب إجابة… وها نحن أبرياء.. حتى صباح اليوم التالي.
________
* روائية من لبنان .
مجلة (الدوحة)