*كمال الرياحي
( ثقافات )
إن ابتهاج الانسان العربي بتداعي الدكتاتوريات ووقوفه لأول مرة في وجهها ودحرها خارج أرضه واستعادته لسيادته بحثا عن فضاءات ديمقراطية والقطع مع تلك الثكنات والمداجن، كل ذلك لا يمكن أن يحجب عنا ما تسرب من بؤس الأفكار التي تعلقت بأثواب بعض الثوار أو الوافدين على أراضيهم. الكاتب محمد الجابلي واحد من الكتاب التونسين الذين ناضلوا في عهد الدكتاتورية وتعرض إلى التعنيف في أكثر من مناسبة بسبب أفكاره ووقوفه في وجه الطغيان ضمن نشاطه في رابطة الكتاب الأحرار التي منعت من تأشيرة العمل القانوني في زمن الدكتاتور، صدر له كتاب جديد بعنوان” المقدس وغربة الإنسان” عن الدار التونسية للكتاب، حاول فيه مقاربة مصطلح ” مقدس” عند الغرب وعندنا، ليطرح أسئلة حارقة حول مستقبل هذا الإنسان في ظل هياج هذا المقدس الذي أصبح كائنا ميكروفيزيائيا يعيش بيننا كما كانت الرقابة السياسية تعد أنفاسنا.
التعصب سليل العجز
ينطلق صاحب ” مرافيء الجليد” في مؤلفه من إشكالية “الواقع والرمز” وما يتناسل منها من اشكالات ومعضلات منها ” تمثل الذات بين الحاضر والماضي” واشكالية الواقع والمثال ومعضلة العلاقة بين الكلي والجزئي والمطلق والنسبي فيذكر الكاتب بـ”محنة الأجداد” بل ب”محنة البشرية” ، كما يقول، ” في التعالق بين الواقع والرمز،وفيه تأشير على المواقع الحضارية التي أحسنت توظيف ذلك التعالق، وتأكيد على أن الاسلام براء من كل انغلاق وتعصب، لأن الظاهرة التعصبية كامنة في الانسان تتفجر كلما حاصرته حدود العجز والجهل ومنهما وهم اكتساب الحقيقة المطلقة.”
الكتاب الذي جاء في مائة وستين صفحة قسمه صاحبه الى اربعة فصول تحت العناوين التالية:” تعقد الظاهرة الحياتية” و”الغربة و”غرابة الانسان” و”الحنين البدائي” و”الذات العربية والموقع الحضاري” وملحق تحت عنوان”الانتفاضة حداثة العرب القادمة”
غربة العربي بين الأسطورة والخرافة
يكشف الكتاب عن الغربة المزدوحة للانسان العربي فهو بين المنبهر بأسطورة الغرب العظيم والمشدود إلى خرافة الماضي المجيد ، وهو بذلك بين كماشتين بما شبهه الكاتب بالجن والسوبارمان الآلي. ولا يرى الكاتب من مخرج من الكماشة الضاغطة إلا باجتراح تيار وعي جديد يحاول أن ينطلق من أرضه وينشغل بتفكيك وتفتيت الوعي الزائف أو ما سماه بالوعي المخبول والوعي المدخول ومحاربة بالوعيين بوعي جديد تأسيسي، ويرجع الكاتب تخلفنا إلى كوننا مازلنا نحارب وعيا متخلفا بوعي مجنونا وهو ما جعلنا إما ظلا للغرب العظيم أو شبحا لماض مجيد. وهذه هي الطريق السالكة نحو ذواتنا التي تعيش في برزخ “الاغتراب”.
واستنادا إلى أدبيات الفلسفة الغربية وكتب التراث العربي يمضي الباحث في قراءة واقع الاغتراب العربي وتفكيكه، فيرى بضرورة الحاجة إلى “تحديد الانسان كموجود متغير يمثل تراكما قيميا هائلا عبر التاريخ” ومن ثمة فنحن أمام هوية تراكمية تقطع مع الصراع مع الآخر لانه هذه الهوية وليدة هذا التراكم والتماس.
القداسة والاغتراب
يقارب الكاتب “القداسة” بوصفها محاولة انتماء المغترب، ويعود للظواهر المقدسة عبر التاريخ وكيف نشأت وفق حاجات الإنسان إلى الأمان واالبحث عن ملاذ.حتى يصل إلى “الفتنة الكبرى” ويعتبر أن المقدس وقع استغلاله لتصدير أزمة وتهميش صراع فانقلب إلى” نزعة انفعالية داخلية تؤدي إلى انتحار البائسين وراء أحلام مستحيلة” وهذا نفس المقدس المقروء خطأ والذي يدفع بالجهاديين اليوم إلى الانتحار وتفجير انفسهم وقتل الآخرين وهم ينشدون جنتهم. فهم يقدمون أرواحهم قربانا لإله نهاهم عن قتل النفس.
ويذهب صاحب” شهادة الغائب” إلى أن التعصب يزداد تعقيدا بتعقيد الحياة نفسها، كما يزداد توظيفه دهاء بازدياد دهاء الأقوياء وحاجتهم إليه.”
الانتفاضة طريق الحداثة
ويتوقف من جديد في فصل” الذات العربية والموقع الحضاري” عند حقيقة الواقع العربي والذي سماه ب”الانجاز الموهوم” فيقول” نحن نغيب بين وهمين حادين يعجزاننا ويظللانا عن أنفسنا وواقعنا: وهم الماضي السلفي ووهم المستقبل الغربي، فنعجز عن تحقيق وجودنا.” وهذا ما يسقطنا في شرنقة لا مخرج لنا منها مادمنا نلوذ بهذين النموذجين.
لينتهي الكتاب بملحق” الانتفاضة: حداثة العرب القادمة” والذي نشر من سنوات بصحيفة القدس العربي، فيه عاد إلى تفكيك هشاشة الحداثة التونسية التي أبانت أحداث ما بعد الثورة أنها هشة و”لم تثبت لها ركائز لأنها انطلقت من قرار سياسي فيه جرأة وفيه تجاوز” حداثة يقول عنها الجابلي أنها داخلتها اشتباهات عديدة من حيث الأصل والفرع” . ويعتبر الجابلي أن السلفيةرهان جديد للامبريالية لتحطيم الشعوب العربية والعودة بها إلى غياهب التخلف.تحت شعار” ليس في الإمكان أفضل مما كان”
وتوقع الكاتب سنة 2002. أن تسقط الانتفاضة الفلسطينية المبادرة السياسية وتعلن إرادة الشعب فـ” الانتفاضة ستعم مستقبل الشارع العربي” ويرى الجابلي أن حداثة الغرب مرت من التصنيع لكن ” حداثة العرب ستمر من الانتفاضة عبر خلق زمن سياسي جديد وتضحيات جديدة لا تقل عن أهمية عن تضحيات حروب التحرير”.
________
*أديب من تونس