مثقفون تونسيون: لم تكن ثورة أصلاً!




مهاب نصر *


«جهاد النكاح؟!»، هل هذا ما آلت إليه الثورات العربية؟! لماذا يستولي التخلف على كل مبادرة لنهضة؟ لماذا تسرق أسئلة الحرية والتطور والانفتاح على العالم، وتصادر لمصلحة انكفاء مضاعف على الذات، وتفضي إلى سقوط أخلاقي باسم الأخلاق نفسها، باسم الدين والجهاد في سبيله؟
لم أكن أعرف وأنا أضع مسجلي الصغير على الطاولة، صبيحة هذا اليوم، لأجري حواراً مع الباحثة التونسية رجاء بن سلامة صاحبة المؤلفات العديدة في التحليل النفسي والثقافي وقضايا التراث أنه، بعد فترة ليست طويلة، سوف تشهد كل من تونس ومصر ثورتين عارمتين، تلحق بهما سلسلة من الثورات والاحتجاجات من شرق الوطن العربي إلى غربه. ولذلك، كان الحوار مفعماً بالشكوك، كانت بن سلامة في زيارة إلى الكويت لتحاضر عن «العلمانية» في مركز الحوار الثقافي «تنوير»، ولكن الحوار معها تعرض إلى الطرح الملتبس لقضية الهوية التي تكرّس الانغلاق على الذات بزعم أن ثمة «ثوابت» ثقافية أو حضارية، كما تعرض إلى تقاعس المثقفين عن دورهم في الدفاع عن الحريات، وتراجعهم عن الالتزام بتهيئة مناخ وإرساء مبادئ للحوار السياسي الفاعل. وجاءت بعض أفكار بن سلامة، المشرفة على موقع «الأوان» وأحد المؤسسين لـ«رابطة العقلانيين العرب»، لتؤكدها الأحداث التالية، حين رأت أن المدّ الأصولي المتشدد كان نتيجة طبيعية للحرمان السياسي وليس فقط للظروف الاقتصادية الخانقة.

ركوب الموجة

تدور عجلة الثورات العربية لتؤكد حقيقة الأسئلة المقلقة التي طرحتها بن سلامة، الأصوليون «يركبون» موجة الثورات. صعود غير لقوى أصولية على حساب تراجع الصورة الأولى المبهجة لحراك شبابي طبعته ثقافة العولمة باحثاً عن حرية وديموقراطية وعدالة اجتماعية، معبأ بثقافة جديدة انتشرت عبر وسائل غير تقليدية كمواقع التواصل الاجتماعي.
ما يقارب الأعوام الثلاثة، عادت فيها الجماهير إلى الثورة ضد الإخوان في مصر، بينما تتواصل الاحتجاجات بنجاح أقل في تونس صاحبة «ثورة الياسمين».

نظام متصدع

يقول الشاعر التونسي عبدالوهاب الملوح: لا أميل إلى استعمال عبارة «ما بعد الثورة» لأنه لم تكن هناك ثورة أصلاً، كان هناك انتفاضة تمردت على نظام متصدع أصلاً، وكان يمكن أن تتحول هذي الانتفاضة إلى ثورة، لو استوفت كل شروطها، أقلها تحقيق ما خرج الناس يطالبون به ألا وهو: الحياة الكريمة وتوفير فرص الشغل والعدالة الاجتماعية، ولا شيء من هذا قد تحقق. ولكن حدث ما زاد من بؤس الناس، ومن تردي وضعهم الاجتماعي، خصوصاً أنه قد برزت فئات انتهازية تعمل على النهب ليس السطو المالي والعقاري فقط، بل هو السطو على العقليات والذهنيات واستعباد الناس باسم الدين وباسم السياسة، وهو ما انعكس سلباً على المجال الثقافي الذي وجد نفسه مغيباً قسراً أولاً للاهتمام المبالغ فيه بالسياسة والوضع الاجتماعي، وثانياً تم استبعادها بحكم النظرة الدينية المتطرفة لكل عمل ثقافي حداثي جاد، ناهيك عن أن المثقفين بدورهم قد ساهموا في عملية إقصاء الثقافة من المشهد العام، وانخرطوا بدورهم في الحراك الاجتماعي فقط كما لو أن الفعل الثقافي ليس مرتبطاً بالتظاهر الاجتماعي وبالنشاط السياسي.

سلطة مكان أخرى

يرى الملوح أن التغيير الذي أتبع «الثورة» لم يطل مضامين السلطة وآلياتها قائلاً: إذا تميز النظام السابق بالحد من حرية التعبير ومراقبة الإنتاج الثقافي. فاليوم ليست مؤسسات النظام هي التي تراقب وتمنع الأنشطة الثقافية، ولكنها الجمعيات الدينية المتطرفة التي تعتبر الفن حراماً، وتعتبر الإبداع بجميع أشكاله كفراً، ولا بد من معاقبة من يمارسه.
هذا ما يحدث، الآن، فعلاً، غير أن الأمر ليس متعلّقاً بالنظرة الأيديولوجية المتطرفة للفن وإهمال الحكومة للمشروع الثقافي (هذا المشروع المغيب أصلاً في الأنظمة السابقة) ليس متعلّقاً بهذين الطرفين فقط، فالمثقف التونسي ساهم بدوره في تدني مستوى النشاط الثقافي وتحويله إلى مجرد تهريج ولغط مباشر، خال من أي قيمة إبداعية أو إضافة فعلية. والمطلوب اليوم هو التحرك بسرعة وبذكاء من أجل ترسيخ الفعل الثقافي كمشروع اجتماعي، شأنه شأن مشاريع التنمية والمشاريع التربوية… إلخ بإعادة هيكلة وزارة الثقافة سواء على مستوى الإدارة المركزية أو الإدارات الجهوية، بالتنصيص في الدستور المقبل على استقلالية النشاط الثقافي، ودعمه، وتعزيزه، بإنشاء المجلس الأعلى للثقافة، ليكون حلقة الوصل بين المثقفين كمنتجين والإدارة كممول ومنسق، وبهذا الشكل يمكن أن يكون للثقافة في تونس دورها الريادي، ولكن يبدو أن الأمر ما زال بعيداً عن التحقيق بما أن السياسي طاغ وبشكل مرعب على كل ما هو ثقافي.

أجواء الغياب والصمت

الكاتب التونسي محمّد عيسى المؤدّب يرى أن الثقافة التونسيّة شهدت في أوّل أيّام الثّورة حركيّة كانت تعد بثورة حقيقيّة بعد أجواء الغياب والصّمت والكبت، ويتابع: لقد تعدّدت العناوين الصادرة في مجالات الأدب والتوثيق للثورة التونسية كما نشطت الحقول الإبداعية الأخرى كالسينما والموسيقى والفن التشكيلي، ولكن ما تبع ذلك هو حصول خيبة للمثقفين والمبدعين بسبب حملات العنف المعنوية والمادية وموجات التشكيك والتكفير من الجهات الرافضة للفن والحياة. فالعديد من الشعراء والفنانين تعرضوا إلى تهديدات بالقتل مثل الشاعرين المنصف الوهايبي ومحمد الصغير أولاد أحمد، بالإضافة إلى حملات التشويه والشتم للفنانين. هذه الأجواء المحتقنة خلقت ضيقاً وقلقاً وحزناً ورفضاً طبعاً لما يحصل في تونس، هذه أرض الاعتدال والمحبة والسّلام والحرية، فكيف بها تضيع من أبنائها؟

قيود نفسية

يعتقد المؤدب بأن هناك قيوداً نفسية تضع معوقات أم تحقيق الأهداف الأصلية للثورة، ويتابع: نخشى أن يتنامى الإرهاب ضد المثقف بتكريس مقولة الفن حرام. وهناك معوقات مادية بالأساس، ففي تونس وهذا معروف لا يمكن للثقافة وحدها أن تمنح المبدع حالة الاستقرار المادي والاجتماعي، فالمثقف عموماً من الجنسين يعاني من معضلة ترويج إبداعه وتوزيعه إزاء دور نشر، مثلاً في مجال الكتب لا ترحم المؤلف بقدر ما تتعمد ابتزازه واستغلاله، لأن أغلب مديري هذه الديار من التجار أساساً، يحرصون على الربح لا نشر الثقافة.
وإن أهم مشكلة تواجهها الثقافة التونسية اليوم هي أساساً المحافظة على الهوية المعتدلة والمتسامحة والدفاع المستميت عن مكانة المبدع ورسالته المقدّسة، إزاء مجتمعه ووطنه بعيداً عن أشكال التخويف والتدجين والقهر، والمبدع، أيضاً، مدعو إلى نبذ كل أسباب العنف وبذور الكراهية والحقد. عليه أن يكون إنساناً، حيّاً، مشاركاً، لا صامتاً متابعاً من برج عاجي منسي.
إنّها قضايا مصيريّة تنتظر المثقف التونسي. هي الحريات في أشكالها الجوهرية لا السطحية، هي الحقوق التي تتيح للمبدع أن يتعمق في قضايا مجتمعه ووطنه في عصر مجنون لا يهدأ. وإن المثقف التونسي الذي لا يؤسس ولا يشارك هو مثقف ميّت خارج إيقاع العصر.

سيطرة «السياسي» على المشهد

ظاهرة غريبة على المجتمع التونسي يرصدها الكاتب والباحث مصطفى القلعي في أعقاب «ثورة الياسمين» تتمثل في سيطرة كاملة لـ«السياسي» عليه. فأهل السياسة ممن كان في الحكم أو في المعارضة هم نجوم المشهد وسادته. فهم يخطبون في المنابر الجماهرية ويزيّنون بلاتوهات الإعلام بل يحتلّونها. وهم موضوع ملفات التحقيق وحلقات النقاش.
يقول القلعي: إنّهم ببساطة يستولون على المشهد برمّته، فيما الثقافي مهمل منسي لا يُستشار ولا يُسأل ويغيب عن المشاركة في الحياة العامة. والنتيجة الحاصلة هي بلوغ المجتمع التونسي مرحلة الانقسام والتعادي بسبب جفاء السياسي وصلفه وابتلاعه المشهد.
فلقد كان المأمول أن تساهم الثورة، باعتبارها فعلاً تحررياً من الاستبداد والخوف، في انبعاث حركة ثقافية إبداعية جديدة تؤسس جمالياً للقيم التي يرنو التونسيون إلى تأسيسها بديلاً عن تلك التي كانت سائدة في ظلّ الاستبداد النوفمبري، ولكنّ ما حدث كان مخيّباً لطموحات الفنانين والمبدعين والمفكرين فقد تضاءلت موازنة وزارة الثقافة الضعيفة أصلاً. فتقلّص دعمها للمبدعين. وتراجع إنتاج الكتاب والأفلام والمسرحيات.

تغيير في الشكل

ويوافق القلعي على ما يقوله المؤدب من أن التغيير في طبيعة السلطة كان شكلياً فحسب، ويقول: بعد أن كانت السلطة تمارس عنفها على المبدعين عبر أجهزتها الرقابية وعبر البوليس السياسي، خرجت أجهزة الرقابة بعد الثورة من أيدي السلطة ذات الخلفية الإخوانية المحافظة إلى أيدي أعوان آخرين يعملون عندها بالوكالة أو بالأجرة. فانتشرت ظاهرة التحريم والتكفير والمنع من قبل جهات محافظة سلفية أو نهضوية أو من دار في فلكهما تسمح لنفسها بتقييم الإبداع بأدوات وآليات من غير جنسه. وهي لا تحاكم ولا تقاضي بل تعاقب بنفسها وتمارس العنف الجسدي على المبدعين ورجال الفكر، بل إنّ هذه التيارات قصرت الإبداع في وجهه التعبديّ الدينيّ وحرّمت غيره.
ومع ذلك، واصل المبدعون مقاومتهم لهذا الترف الباذخ في أوجه القمع والعنف المدعومة من السلطة. فأصرّوا على دوريّة مهرجاناتهم. وحرصوا على الإنتاج. ولا بدّ أن نحيّي شباب تونس الذي واظب على إصدار الكتب على نفقته رغم الفاقة والحاجة، وعلى تشكيل الفرق الموسيقية الشابة التي تتجوّل بين القرى والأرياف والمدن الصغير. كما ننوّه بالنوادي الثقافية المحلية على غرار جمعيّة منارة الأدب بقليبية التي أصرّت على تنظيم دورة جديدة للمهرجان الوطني للأدباء الشبان طيلة أيام ثلاثة في أغسطس الماضي. أما السلطة، فهي تمارس هوايتها في معاداة الثقافة والمثقفين.

* القبس الكويتية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *