بابا النقد الألماني حقاً؟


*يوسف ضمرة

يدعي البعض أن ألمانيا خسرت ناقداً مهماً بوفاة الناقد «مارسيل رايش رانتسكي» البولندي الأصل.

ومارسيل راينتسكي كان لفترة طويلة صاحب سلطة أدبية في ألمانيا، ما مكنه من التأثير في مصير العديد من الروايات الألمانية كما يقال. ولكن من يدعي ذلك لم يقل لنا كيف أفلت غونتر غراس وهاينرش بول من أحكام راينتسكي. ولماذا لم تؤثر سلطته في روائيين مثلهما.
في سيرة راينتسكي أنه نجا من الموت بأعجوبة حين تمكن من الهرب من معسكر وارسو حيث تمت تصفية عائلته. وفي سيرته أن روائياً ألمانياً معروفاً مثل «مارتن فالزر» ألف عنه كتابا سماه «موت ناقد» فاتهم فالزر بمعاداة السامية. وفي سيرته أنه تمكن في نهاية الثمانينات من تشكيل سلطة نقدية قوية عبر برنامج تلفزيوني مثير، تمكن من خلاله من جعل الأدب والنقد محط اهتمام مجموعات كبيرة من المجتمع الألماني، وذلك حين حول النقد من دراسة نقدية عميقة إلى مجرد آراء مباشرة، رواية جيدة ورواية رديئة ورواية مملة، وهكذا. وقد وصل به الأمر حد تمزيق رواية لغونتر غراس أمام المشاهدين في برنامجه.
لم يسمع أحد ربما خارج حدود الناطقين بالألمانية باسم راينتسكي، وهو اسم مجهول في عالم النقد الغربي بشكل عام، لكن عصا «معاداة السامية» التي كان يمتلكها أسهمت كثيراً في تحوله إلى ما أطلق عليه في ألمانيا « بابا النقد الألماني»، وقد وصلت هذه العصا إلى غونتر غراس نفسه حين وصف نقد راينتسكي بالسطحي.
ما لا يريد البعض أن يتذكره أن رايتسكي عمل جاسوساً في الخمسينات من القرن الماضي. ولا يريد هذا البعض أن يعترف أمامنا بأن هذا الناقد كان رجلاً سياسياً منذ شبابه حين كان عضواً في المجلس اليهودي في بولندا. ولكن هؤلاء يقولون لنا إن جامعة ألمانية في فرانكفورت رفضت طلبه بالالتحاق إليها في العشرينات لأنه من أصل يهودي. وربما لهذا السبب عادت هذه الجامعة نفسها أخيراً ومنحته شهادة الدكتوراه الفخرية.
بهذه المعلومات نشير إلى أن السلطة الأدبية التي امتلكها واحد مثل رايتسكي، لم تكن وليدة مقدرته الأدبية التي لم تظهر في كتاب ما أو حتى في برنامجه التلفزيوني المثير. ولعل نجاح كتابه «حياتي» الذي سرد فيه قصة «مأساته» اليهودية النمطية، يؤكد ما ذهبنا إليه. فهو لم يُذكر مرة بكتاب آخر، ولم يُذكر يوماً بقراءات نقدية جديدة كما فعل البنيويون والتفكيكيون، وحتى الواقعيون الاشتراكيون من قبل. ولذلك لم تجد مجلة دير شبيغل الألمانية الشهيرة صورة لتضعها على غلافها، سوى رسم كاريكاتوري يظهر رايتسكي على شكل كلب يقوم بتمزيق أوراق رواية بأسنانه، وذلك حين قام في برنامجه بتمزيق رواية غونتر غراس. وما عدا ذلك فإن هذا الناقد كان أقرب إلى مهرج منه إلى ناقد أدبي. فأنت لن تكون ناقداً بإلقاء رواية أمام المشاهدين والقول بسخرية: إنها مملة أو سخيفة. والتطاول على روائي مثل غونتر غراس لن يجعل من رايتسكي أو سواه ناقداً مهماً ذات يوم، إلا عند من يريد ذلك لأسباب غير أدبية أو نقدية على الإطلاق.
فليرحل «بابا النقد الألماني»، لكننا نعرف أن الأدب الألماني سيظل بخير من دون آباء مثل هؤلاء.
______
* قاص وأديب من الأردن (الإمارات اليوم)

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *