*أمجد ناصر
كأن يمنى العيد -الناقدة اللبنانية المرموقة- اختارت النقد والفكر استمرارا غير واع -ربما- بما يوحي به اسمها الحقيقي (حكمت) من ذكورة! كانت لدى يمنى العيد “رغبات” و”تحفُّزات” كتابية أيام الدراسة، ولكن من دون أن تعرف يقينا أي طريق للكتابة ستسلك.
ارتبط أمر الكتابة لديها بالتعبير عن الذات، وهذا أبرز ما تلحّ عليه الناقدة الكبيرة، في سيرتها-روايتها “أرق الروح” (دار الآداب، بيروت 2013).
تلمسُ الذات، تحسّسُ طريقها (تعبيرات حسية من لدني)، يبدآن عند العيد مذ أخذت تتبلور هويتها كأنثى في عالم سادته الذكور. هذا الوعي المبكر بالهوية “الجندرية” يسبق، ثم سيقود إلى الوعي بهويات أخرى قادمة ستنضاف إليها لتشكل هويتها “الكبرى” التي نعرفها الآن: الناقدة الأدبية، الأكاديمية، اليسارية الميول والتوجهات، التي برزت مبكرا، في حقل بدا أنه حكر على الرجال وحدهم.
دعونا لا ننسى أن النقد عندنا -وربما عند غيرنا من الأمم- هو “مهنة” تكاد أن تكون ذكورية، وهذا أمر عجيب. تفسيره -ربما- أن في النقد حُكْما (سلطة معرفية) وفيه “تقويم” (من القوامة بالمعنى الشرعي)، فمن بيده سلطة الحكم.. والتقييم.. سوى الرجل؟.. كيف للمرأة “الضلع الناقص” أن تمتلك أداتي “الحكم” و”التقييم”؟
هذه شجون شخصية وعامة يزخر بها كتاب يمنى العيد، بل لعله يقوم -بالعمق- عليها. فمعركة إثبات الذات (كأنثى) تبدأ منذ ولادتها. فهي جاءت إلى الدنيا بعد وفاة شقيق لها لم يعمر طويلا على ما يبدو، فأراد والدها أن يعوض فقدان الصبي بتسمية ابنته اسما ملتبسا “يحمل وهما بالذكورة”.
لم تستطع الطفلة التي سميت باسم “ذكوري” استساغة اسمها وواقعها الأنثوي “غير المرغوب” فيه،
تقول: “كانت صورة أخي عبد الحليم تحتلني، كأن وجودي كان خللا، مات الصبي وجاءت أنثى (…) لم أسمع أحدا يمتدح وجودي أو يصف صورتي. كان عبد الحليم أبيض البشرة وكنت سمراء، وكانت السمرة كافية وحدها لتحذفني من لغة الوصف والمديح ولتشعرني بغربتي”.
إلى ذلك جاءت هذه الطفلة إلى الدنيا وعلى وجهها قناع، ولن تعرف أن هذه الغشاوة اللحمية التي كانت تغطي وجهها ستكون محور حياتها، بل سيكون الوجه الآخر (القناع) لحياتها القادمة. فعندما تكبر وتدخل عالم الكتابة ستفكر باختيار اسم تنشر به إنتاجها، لأنها كانت موظفة في الدولة اللبنانية التي لا تجيز لموظفيها الكتابة في الصحف أو نشر الكتب إلا بعد الاطلاع على ذلك الإنتاج وإعطاء الإذن بنشره.
هكذا صار بإمكان “حكمت” أن تنتقم من اسمها “الذكوري” وتختار اسما أنثويا، غير مدركة في ذلك الحين أن اسمها الجديد “يمنى” سيحتلها وسيطرد اسمها الأول.. أو يحشره في خانة البطاقة والمعاملات الرسمية.
هذا تفسيري لصيرورة، أو مآل القناع الذي ولدت به. وهو الذي سيقودها إلى هذا التساؤل الذي تفتح به كتابها ـ سيرتها: “من أنا؟ هل أنا حكمت أم أنا يمنى؟”.
ليس هناك جواب حاسم لهذا السؤال، لأنه سيكون سؤال حياتها، فهي “حكمت” لأنه اسم ولادتها وطفولتها ومراهقتها وبداية عملها الوظيفي، وهي أيضا “يمنى” لأنها اختارته بنفسها ووقعت به أول مقالة لها، ووضعته على غلاف أول كتبها، وتحول شيئا فشيئا إلى اسم من لحم ودم، وليس مجرد اسم ثقافي.
التعليم أساسي في سيرة يمنى العيد، فهو مهنتها مذ تخرجت من دار المعلمين، وصولا إلى عملها الطويل كأستاذة في الجامعة اللبنانية التي تجمع أطياف اللبنانيين تحت سقف واحد، متطلعة إلى أن تكون نموذجا وطنيا لأبناء البلاد التي تحاول الطائفيات إبقاءهم عددا وعتادا في حروبها ونزاعاتها التي لا تنتهي.
ليس تركيز العيد على المدرسة والجامعة -وسلك التعليم بالعموم- رجع صدى لمهنتها، ولكنه نابع من إيمانها ألا شيء قادر على اختراق البنى الطائفية القائمة وخلخلتها مثل التعليم الذي لا يخضع لمؤسساتها.
وفي هذا الصدد تقول: “كنت أدرك أن المدرسة هي العامل الأساسي في التغيير الاجتماعي، وأن التعليم الرسمي ـ الوطني هو ما بإمكانه أن ينتج وعيا يجمع على حد الهوية الوطنية ولا يفرق على حد الانتماء الطائفي”. ربما لهذا السبب حرصت المؤسسات الدينية على أن تكون لها مدارسها الخاصة (…)، وربما لهذا السبب تناسل عدد المدارس الخاصة أثناء الحرب الأهلية، وصارت الجامعة اللبنانية جامعات تتحدد أمكنتها وفق الانتماءات الطائفية لطلابها”!
وما دام كتاب يمنى العيد سيرة يختلط فيها الشخصي بالعام، ككل سيرة يسطرها من يعملون في الحقل العام، فلا بدّ لها أن تتوقف عند محطة فارقة في تاريخ مدينتها صيدا ولبنان عموما، ألا وهي دخول القوات السورية للبنان عام 1976بذريعة الحيلولة دون تدخل إسرائيل في مجرى الصراع الدائر يومذاك بين “الحركة الوطنية اللبنانية” تساندها “فصائل الثورة الفلسطينية” و”القوات اللبنانية” التي جمعت في إطارها فصائل اليمين المسيحي اللبناني المقاتلة، التي سرعان ما انكشفت علاقتها بإسرائيل.
تعرضت يمنى العيد لأكثر من استجواب أثناء اجتياح قوات حافظ الأسد لمدينة صيدا، فقد كانت لدى الأمن السوري معلومات -على الأغلب- عن النشطاء اليساريين الذين ينتمون إلى الفصائل اللبنانية المناوئة لهم، فقاموا بمطاردتهم.
تقول العيد في هذا الصدد: “مسيحيو قرى شرق صيدا استقبلوا الجنود السوريين بالورود، وأحزاب الحركة الوطنية بما فيهم من مسلمين ومسيحيين وبعض الفلسطينيين “استقبلوهم” بقاذفات الآر.بي.جي. لعل الجيش السوري فوجئ بهذا الرد، إذ راح ضحيته سبعون جنديا سوريا، وتفجرت أكثر من دبابة من دباباتهم، رأيت حطام بعضها فيما بعد في ساحة النجمة في صيدا”.
هنا أسجل -أنا الذي عاش في لبنان بعيد التدخل السوري- مفارقتين مذهلتين: الأولى أن الذي قاد المواجهة ضد القوات السورية لم يكن سوى العقيد أبو موسى، المسؤول العسكري الفتحاوي المعروف في جنوب لبنان. وقد رأيت بأم عيني بعض هذه الدبابات محطمة في ساحة النجمة عام 1977، أي بعد عام من الواقعة التي تشير إليها العيد.
قد قادت المصائر السياسية العجيبة العقيد أبو موسى -الذي قاتل قوات حافظ الأسد وألحق بها هزيمة منكرة في صيدا- إلى أن ينشق عن ياسر عرفات، بدعم من المخابرات السورية، بعد تلك المواجهة بنحو ست سنين، وإلى أن يصبح أحد أدوات النظام السوري.
أما المفارقة الثانية، فهي أنه لم يطل الوقت حتى انقلب “المسيحيون” الذين استقبلوا قوات حافظ الأسد بالورود إلى أعداء شرسين لهذه القوات، ودخلوا معها في أكثر من مواجهة دامية.
ولكن لماذا زج حافظ الأسد قواته في لبنان بمواجهة “القوى الوطنية” والفلسطينية التي يفترض أنها أقرب إليه على مستوى الشعارات والبرامج الأيديولوجية؟.. ليس هناك جواب قاطع حتى الآن عن هذا “اللغز”.
ثمة من يقول إنه تم بطلب إسرائيلي ـ أميركي لإنقاذ “القوات اللبنانية” من الهزيمة التامة التي كانت مشرفة عليها. وثمة من يقول إن الأسد انتهز الفرصة التي أتاحها هذا التحول في لبنان لتعزيز أوراقه الإقليمية.
أما يمنى العيد فترى أن الهدف من ذلك الدخول العسكري (الغزو، في الواقع) هو من أجل “الحؤول دون تحقيق الحركة الوطنية اللبنانية هدفها في التغيير الثوري، ومواجهة حركة فتح الفلسطينية التي كانت تريد موقعا مثاليا، نافذا في لبنان، منه تفاوض على حقوقها في فلسطين”.
هناك الكثير من النقاط في كتاب يمنى العيد تغري بالتوقف أمامها، وتطرح أسئلة لا تزال تبحث عن إجابات لها.. خصوصا في ما يتعلق بلبنان كساحة مفتوحة لصراعات المنطقة التي تنذر -للأسف- بما هو أعظم.
________
*شاعر من الأردن يعيش في لندن (الجزيرة)