” إشاعات في مهبِ الرّيح”: لعبة اللغة والخيال



*عذاب الركابي

في الروايةِ لا تستطيعُ الشخصياتُ أن تفعلَ شيئاً إلاّ أنْ تحيا” 

د. ه . لورانس / نظرية الرواية ? ص208.
بورتريهات
مصطفى سيسوان : بطلٌ عادي مألوف في السردِ العربي ، بلا زخارف ولا إضافات ، وهو ” فتوة ” الحي بامتياز !! همّهُ الأكبرُ تأكيد الذات ? الوجود ، والبحث عن نجومية ، حتّى وإنْ بدتْ مؤقتة ومُبرمجة ، يطمحُ أنْ يتفوّق على زمنهِ ، ويفوز بكرسي اجتماعي ? حياتي ، يراهُ وثيراً في جغرافيا المكان ( عرصة القاضي ) :” أقسمَ سيسوان بالله ثلاثاً أنْ يعبرَ النهرَ سباحة ً ، من الضفّة إلى الضفّةِ عشرَ مراتٍ دونَ توقف” ? ص3.
وبقراءة متمعنة ، يبدو ( مصطفى سيسوان) من خلال مايصدرُ عنهُ من أفعال ، يراها البعض شيطانية جريئة ماكرة ، إنّهُ بطلٌ سينمائي ، على شاشةْ واقع ٍ مصهور ٍ بالخيال ،ملامحهُ .. أفعالهُ .. استعراضهُ الذي لايخلو من غطرسة مُبرمجة مقصودة ، للفتِ نظر الآخرين إليه ، حبّاً في الظهور والتميز ، وسعيه للحصول على لحظة حبٍّ ، ورضاء ( عائشة) التي تقرأ حركاته غزلاً رقيقاً لها وحدها ، وهي المراد والمبتغى : ” وهو يتطلعُ بين الفينة والأخرى نحو نافذةِ منزل ٍ بعينه ، همس الكثيرون بأنهُ ينتظرُ انفتاحها لتطلّ منها عائشة ، يهمّهُ جداً أنْ تراهُ وهوَ يعارك التيار بذراعيه ، يشقّ المياه الرصاصية ، متلاعباً بخصلات شعر رأسهِ ، كما يفعلُ طرزان الذي يعشقًُ مشاهدة أفلامهِ إلى حدود الهوس” ? ص5.
<><
محمود : شخصٌ إشكالي ، مُستفِز ، بلطجي مكان محترف !! يعتاشُ على أخسّ ودنيء الأمور :” مصطفى سيسوان فتىً أحمق ، لوْ عبرَ الآنَ ، لأسكنتهُ هذهِ الباخرة الضخمة في قاع النّهر” ? ص6.. يذهبُ إلى المشاكل بقدمين جسورتين ، محبّ حتّى العظم للرذالة والسقوط والظهور والتميز في أحط الأعمال .. شريحة اجتماعية ، أجادَ الروائي ? إدريس الصغير رسمَ ملامحها بفرشاة الواقع وفسفور الخيال..وهو نتاج مكان ٍ ضاجّ ٍ بالمتناقضات والمفارقات ، شخصٌ مألوف، ولكنْ لهُ خطاهُ التي لا تقراُ إيقاعاتِها المقيتة المريبة بسهولة :”هؤلاء الباعة المتجولون لايفلتون أية مناسبة ، لترويج بضاعتهم الفاسدة.. كلما رأوا جمعاً حشروا أنفسهم داخله بأجسامهم النتنة وأصواتهم القبيحة ، استشاطَ البائع المسنّ غضباً ، فاستدار بعربتهِ ، ويمّمَ شطرَ الوطيئة ، تاركاً النهر بجمعهِ وراء ظهرهِ ، مستديراً بينَ الفينة والأخرى نحوَ محمود..
-أنا نتن ؟ وهلْ أنتَ نظيف ؟ تقولُ بأنّ بضاعتي فاسدة ، هلْ تذوقتها؟ ثمّ هلْ أنتَ مراقب؟..” ? ص10.
<><
عائشة : لحظة ُ الانعتاق والجمال والفرح في المكان !! و( المكان الذي لايُؤنث لايٌعوّلُ عليه )كما يقولُ ابن عربي .. تسمحُ للجميع بالاصطياف في فتنتها وحدائق جمالها التي تفيض بشمسها وعطرها النادر على الآخرين من خلال نافذة حارسها الأعظم الأمّ ( ربيعة) :”تلولبت رؤوس الحاضرين بينَ الضفةِ ونافذةِ عائشة التي انفتحت فجأة ً عن وجهها الصبوح مّما جعلَ الجميع يتأكد أنها كانت تستطلعُ ما يحدثُ من خصاص النافذة، لتظهرَ في الوقتِ المناسب” ? ص13.
و” عائشة” أنثى لعوب ، تجمعُ مع جمالها ذكاءً وخبثاً ، وهي تعرفُ كلّ شخص في ( عرصة القاضي) ، لا تسعى إلى حبّ حقيقي صادق ، بلْ حبّ ديكوري زخرفي ، يُؤكّد شخصيتها المهدورة تحتّ سياط إيعازات ، ورقابة الأمّ ( ربيعة) ، وتسعى بغزلها ( الخجول ? الماكر في الآن) ، وأداتهُ عينٌ ساحرة ، أن تؤكّد ذاتها وتنمّي نبتة جمالها الظامئة :” انتبه الجميع للحركة التي أتاها مصطفى سيسوان والتي ردّت عليها عائشة بحركة مماثلة ، حاول كلاهما أنْ يجعلاها عفوية ً .. ثمّ سمعت لعائشة صيحة ، أعقبها صوتُ الأمّ الغاضب :
-اخرسي أيتها الكلبة النتنة !!”- ص15.
بوغابة : المواطنُ ? الإنسان !!
و”الإنسانُ مقياسُ الحقيقة”- بروتور جراس .. هكذا تُقراُ ملامحُهُ من خلال أعين وقلوب روّادُ المقهى ، فيهِ من الود ،ّ والحميمية، والشهامة ، وفعل الخير، والحرص على التكاتف الاجتماعي الكثير:” يحترمُ الجميعُ بوغابة ، فلم يُعرَفُ عنهُ سوى الجدّ ، هو مقتصد المستشفى المركزي بالمدينة، يساعدُ كلّ مرضى الحي ، ويُقدّم النصحَ للجميع بحكم ثقافتهِ ، وإقبالهِ على المطالعة ، خصوصاً باللغة الفرنسية التي يتقنها بحكم عملهِ”- ص39. 
<><
” بوغابة ” يضفي على المكان ( عرصة القاضي) و( المقهى) أماناً روحياً ، يمتلىءُ بأريحية نادرة ، وبشاشة وجههِ العنوانُ الدائمُ إليه ..!!
الحاج المعطي : يمثّلُ الحميمية الباذخة في ( عرصة القاضي) ، وهو يفتحُ بيتهُ لأصفياء الحي ،ليستمتعوا ببرامج التلفزيون الوحيد في الحي ، وهو في بيته فقط ، ويبدو لأهل الحي وأبناء (عرصة القاضي) أنّهُ يديرُ قناة فضائية مجانية:”في هذهِ الليالي الساهرة، مرة كلّ أسبوع ،كانت عائشة ومصطفى سيسوان يلتقيان في دار الحاج المعطي ، لمْ يتواعدا على ذلكَ أبدا ً ،لكنّها الصدفة وحدها هي التي قضت الغيب ، أنْ يجهّز الحاج المعطي غرفة كبيرة من غرف بيتهِ الشاسع ، بأفرشة كثيرة ومقاعد وموائد وجهاز تلفزيون، وينتقي من أهل الحي ثلة من أصفيائهِ ، يشاهدونَ سهرة الأسبوع مجتمعين”- ص69.
<><
شرشور: شخصية وبطل سينمائي بامتياز !!
شريحة اجتماعية متهالكة ، مألوفة في أيّ مجتمع ، ولا يخلو منها المكان الخانق ، والمتخم بصعوبات الحياة ، فقير بسيط ، يظهرُ في الرواية ، وعلى لسان مواطنيه ، غير سوي ، مختل ، وناقص عقل ، ومريض نفسياً :”شرشور شخص عاطل ألصق بهِ هذا الاسم استلهاماً من اسم شخصية من فيلم سينمائي ، لا أهل لهُ ، ولا يدري أحدٌ من أينَ أتى .. امتهن شرشور بعض المهن غير أنهُ لمْ يُوّفق في الاستقرار بها ، نظراً للوثةٍ في ذهنهِ ، وقصور عقلي مصحوب بخبث مرضي، كانَ حقوداً أجلف ، مستعداً للقيام بالأعمال القذرة حتّى دون مقابل”- ص81.
أفعالهُ ، ومغامراته التي تتسمُ بالغباء والهبل ، ليُؤكّد ذاته المسروقة بفعل سخرية الآخرين منه ، ويجري وراء منفعته وعيشه ، بما يمتلكهُ من جنوح في الخيال ، وهو ينسجُ القصص ، ليُؤكّد براءته من قتل ( خربوش):” ذاب حلق شرشور في بلعومه، فلمْ يستطع التفوه بشيء ، وانقبضت أساريره فأجهش بالبكاء ، وهم يصفدون يديه بالأصفاد خلف ظهره”- ص74.
<><
خربوش: صاحبُ المقهى الرئيسة في ( عرصة القاضي) ، لا اسم لهُ ، ولكنّهُ محرّك الأحداث في الرواية ، لما تُنسَجُ حول شخصهِ الإشاعات ، وحول اختفائهِ الغامض:” خربوش هوَ صاحبُ المقهى ، وبما أنهُ لم يُطلق عليهااسماً رسمياً ، فقد نسبها الرواد إليه ، فشاع الاسم، حتّى أصبحَ علامة مميزة في عرصة القاضي ، بلْ في المدينة بكاملها”- ص 48.
لعبةُ اللغة والخيال : ( ملاحظات ورؤى )
حينً قرأَ تولستوي إحدى روايات بوشكين صاح :” ما أجودَ ذلكَ ، وما أبسطهُ ، هكذا ينبغي على المرء ْ يبدأ.. إنّ بوشكين أستاذي “!!
و” إشاعات في مهب الريح”* للكاتب الكبير الأستاذ إدريس الصغير بورتريه صادق ومُعبّر عن المكان بكلّ تفاصيله ، ومفارقاته ، وأسماء شخوصه ، ونبضات زمنه العسير ، جسّدتهُ فرشاة الروح المطحونة حبّا ًوعشقا ًوتعلقاً في المكان ، وهي موقوتة النبض على مفارقاته ، وتلوّن وتعدد حالات شخوصه ، شرائح قذف بها المكانُ من رئة رتابتهِ ، فكانت صورته ، وهي أدقّ صورة ، عبر لغة متقنة أو ” ولادة في اللغة” حسب تعبير لوكليزيو ، الأكثر سحراً ، تسابقت في البطولة ، فكانَ لها النصيب الأكبر:” طلبَ بعضُ كبار السنّ من الصغار أنْ يكفّوا عن المعابثات وعن الصراخ ، وطاردت بعض الأمهات أطفالهنّ ، هاشاتٍ عليهم بعصوات، أو قاذفاتٍ إيّاهم بالحجارة، آمراتٍ إيّاهم ، ملحاتٍ عليهم بالانصراف نحو البيوت ، فلا يصادفهنّ منهم سوى العصيان” ? ص7.
لغة بسيطة ، تلقائية ، سلسة ، لفسفور حروفها بريق عاكس للحديث ، وللحالة القصصية ، هي ( اللغة ? الصورة) بحق ، وكأنّ ” الكلمات تنتظمُ على الورق من تلقاء نفسها تقريباً ، حسب الترتيب العروضي للسوناتا”- حسب تعبير إنطونيو تابوكي .
الرواية القصيرة الــ NOVEL هي رواية- جملة تظلُ عين الكاتب عليها حتّى آخر قطرة حبر ٍ في قلمهِ ، وآخر نوبة جنون ٍ في أصابعه ، وآخر نغم ٍ كوني تعزفهُ القريحة ، متوّجة ً بزهو جسدٍ غير آبهٍ برماد سنينه المتسارعة.
وفي ” إشاعات في مهب الريح” جاءت الجملة مشغولة ، ممغنطة بظمأ الروح ،وبموفور الإحساس والرهافة ، والإصغاء لفعل الكلمات الذي يأخذ شكلَ الصلاة الواجبة لدى الكاتب .. فجاءت الجملة رشيقة ، بلا زخارف لفظية مملة ، أو بلاغة خاوية ، جسّدها أسلوب محكمٌ مُتقنٌ ، وهو يصهرُ الواقعَ بالخيال ، أو يبدو ” الواقعُ خيالاً أشدّ تركيزاً” ? كما يقول أرنست فيشر !!
“ارتفعت عقيرة محمود بالصياح ، بينما البائعُ يبتعدُ بعربته:
-لوْ كانَ هنالك مراقبون ، ما تجرأتَ على عرض هذهِ القذارة للبيع !
أوقفَ البائعُ عربته ، واجتذبَ منها عصا ، ورُغمَ تقدمهِ في السنّ ، وهزال جسمهِ ، فقدْ انبرى لمحمود متحفزاً كمحاربٍ متمرّس ، وهوَ يلوحُ بالعصا مُهدّداً:
-إذا كانَ من شخص ٍ قذر ٍ بينَ الحاضرين ، فهوَ أنتَ” ? ص11.
. إنّ الثراء التكنيكي هو الأهمّ في السرد NOVAL المنسوج باحتراف ومران ودراية بمكونات كيمياء اللغة ، عبرَ لحظة اصطياف بمتعة في جمال عوالمها ، كلّ ذلك أنقذ الرواية من المباشرة الفجّة ، والأسلوب التقليدي في تناول ” الإشاعة” أو ” الحدث” ، إذا لا نردّ مغشوش يلعب به الروائي ، وهو العاشق المفتون بلغة الماء ، والخاشع في محراب إبداعه من دون بخور التعقيد ، والأحاجي اللفظية ، مؤكداً في سردهِ المتقن أنّ ” الرواية فنّ التفاصيل الموحية”- كما يقول عبد الرحمن منيف.
“لمْ تستسغ ربيعة أمّ مصطفى سيسوان ما شاعَ في الحي من أنّ ابنها اعتقلَ بتهمة الاتجار في المخدرات ، لاكتِ الألسن كلاماً كثيراً ، وحكايات شتّى ، لمْ تغلق الدكاكين أبوابها ليلاً في وقتها المعهود ، ظلّ الزبائنُ والباعة ُ يتكئون متباطئين في تثاقل ، وهم ينجزون عمليات بيع وشراء ، شبه وهمية في انتظار مَنْ سيأتي بالخبر اليقين من مخفر الشرطة” ? ص20.
حيثً يصبحُ للإشاعة ? مركز الحدث كيمياؤها والتي تتعدد عناصرها ومكوناتها حسب جغرافيا المكان ( عرصة القاضي) وإنسانها الفائز الأمثل بتاج الهموم ، وهو من صدأ وقهر وذل .. الإشاعة المحورُ الرئيس في النسيج الروائي ، وهي تعملُ عملَ المغناطيس في التقاط أحاديث وملامح وصفات شخوص المكان ، سلبيات وإيجابيات ، محاسن ونواقص ، مفارقات وتكهنات ، كل هذا يجعل ( الإشاعة) سلطة ، تزدادُ نفوذا َأو تتضاءل ،تبهرُ في دلالتها أو تغم ، حين تولدُ أسئلة عمياء بلا إجابات صادقة وافية ،تقود الأكاذيب موكبها في شوارع الحقيقة
نحيلة الضوء . الخيالُ المنتجُ هو مصنعُ الإشاعة ، وهو يعودُ بنا إلى الواقع ، ولكنْ بشكل ٍ درامي .. المكان ( عرصة القاضي) روائياً ،هو مجرد فضاء ستاتيكي ، شخوصهُ وأبناؤه ومفارقاته هي مصدر هذهِ ( الحمّى) ? الإشاعة ..
“قالَ إبراهيم صاحبُ دكان البقالة :
-لمْ يخطر لي يوماً على البال ، بأنّ مصطفى يتاجرُ في المخدرات ..
اجتذبَ شرشور علبة خشبية كبيرة من التي تستعملُ في نقل قنينات الزيوت ،ثمّ اقتعدها وهوَ يقولُ :
-لا أحد يستطيع أنْ يعرفَ ما الذي يدورُ بذهن بني آدم ..” ? ص 21.
” إنّ تصوير الواقع لا يتحقّقُ إلاّ من خلال النفاذِ في قلب الشيء”- توماس هاردي !!
إنّ اتهام البطل ( مصطفى سيسوان) بتجارةِ المخدرات جاءَ من دون مقدمات، إذ لا ململح في شخصيتهِ السينمائية يدلّ ويشيرُ إلى هذهِ التهمة ، أرادهُ الروائي بطلاً متفرداً بملامح مكان ضاجّ بالمفارقات والمتناقضات ، وقدْ بدا ( مصطفى سيسوان) ( فتوة ً ) نجماً في سينما المكان ، فقدت الإشاعة عنصري الدهشة والمفاجأة قليلا ً ، ولكنّها جاءت مقنعة ، مثيرة لعديد الأسئلة ، عبرَ تكنيك روائي راق ٍ ، ولغةٍ باذخةٍ في بساطتها وعمقهاً معا ً :
” غير أنّ إبراهيم كانَ لبيباً كعادتهِ ، فبادرها بالتهنئة :
-على سلامةِ سي مصطفى !
-الله يسلمك ، لكنّ بعض المغرضين جازاهم الله ، نسجوا حكايات حول المخدرات والحشيش ، ومنهم مًَنْ ذهبَ بعيداً ، زوراً وبهتاناً” ? ص29.
سؤال ملح حول مقتل ( خربوش) صاحب المقهى متى ؟ وأين ؟ تعددت الأسباب والدوافع.. أهو للجذب وإضفاء المتعة لدى القارىء ، عبرًَ أسلوب تفكيك الواقع وتركيبه خيالياً ? حسب تعبير توماس هادري ؟ أمْ أنّ وضع هذا الحدث في صيغة سؤال محيّر هوَ من جماليات وتقنيات السرد الروائي التخييلي ؟
وهلْ إشاعة مقتل( خربوش) على يد ( مصطفى سيسوان)، وإلصاق التهمة بهِ ، هو إضفاء ( نجومية) مُبرمجة على شخصية ( مصطفى) ، وكأنّهُ الوحيد قلقُ المكان ، ومصدر التهم في الحي ( عرصة القاضي) ، وتذهب إليه بسرعة الصوت والضوء معاً ، ومن دون أدلة كافية مقنعة لصحة ثبوت الإشاعة عليه ؟؟
” مضت الآن سنة كاملة على مقتل خربوش صاحب المقهى ، دونَ أن يعرف مَنْ قتلهُ؟ ولماذا قتله؟
الإشاعات كثيرة ، تتناسلُ لتنتشر انتشار الجراد ، آخرها أنّ القاتل هو مصطفى سيسوان ، وأنّ الشرطة ماضية في نصب الشِباك لتصيده” ? ص46.
حيث تتعدّد الإشاعة في مقتل ( خربوش) صاحب المقهى ، ولا صلة لهُ من بين كلّ ما ذكرَ عنهُ ، فقط هو التشويق والمتعة جوهر العمل السردي الروائي.. إنتماؤه إلى تنظيم سياسي ، تورطه في تجارة المخدرات ، الانتقام للشرف .. كل ذلك يبدو بعيداً عن صاحب المقهى البسيط ، لتبقى الإشاعة باحثة ً عن إشاعة:” اختلفت الآراء حول سبب مقتله ، فمن قائل أنّ السبب سياسي ، إذ يشاع بأنه عضو نشيط في تنظيم سرّي ، يسعى إلى قلب نظام الحكم ، ومَن قائل بأنهُ أحد بارونات المخدرات الذين ينشطون على المستوى الدولي ، وهناك آخرون يقولون بأن الأمر لايعدو أن يكونَ انتقاماً للشرف ، فالفقيد زيرُ نساء” ? ص51.
أما العثور على سيارة ( خربوش) محترقة ، وفي داخلها جثتان متفحمتان مجهولتان ، فإنها لقطة سينمائية مثيرة، بعمق وتعدد الإشاعة والمهارة في صناعتها في ( عرصة القاضي) ..!!.
” إنّ الحياة َ لاتعودُ إلاّ لعبة ً” ? جان بول سارتر !!
وقدْ كانت ( الإشاعة) ( اللعبة) الأكثر فاعلية ً في حياة ( عرصة القاضي) ، مصنعها فاخر الجودة ، ومكان رواجها ، وانتشارها ، وتعددها هذا المكان الضاج ، وكأنّ سماء(عرصة القاضي) لا تمطرُ إلاّ إشاعاتٍ .. تهما ً ، يتمّ إلصاقها جزافاً بمواطنيها .. أهي ( بورتريه) قاتم للمكان المرسوم بفرشاة الواقع المرّ ، وألوان الضيق والقهر والفقر ؟ أمْ أنهُ الفراغ والبطالة والتسكع؟ أمْ أنها نتاج الأرواح والذوات المتهدمة كالبنايات الآيلة للسقوط؟ أمْ أنّ كلّ هؤلاء مجتمعين صنّاع الإشاعة ، كقناة مجانية مهداة برامجها للقريب والبعيد !؟
أمْ أنّ لملكةِ الخيال المنتج التي يمتلكها الروائي ، وتضجّ بها حبال قريحته دورا ٌ في هذهِ اللعبة القاسية الفاضحة من لعبِ الحياة !؟ فترصّد ( مصطفى سيسوان) للمدعو ( خربوش) وعشيقته في أحراش بحيرة سيدي بوغابة ، والسعي لقتلهما من دون أسباب ولا مبرّرات ، أهو مجرد لعبة خيال ولغز لغة موحية، أرادَ بها المتعة واللذة التي ( تسعى إليها الطبيعة كلها) ? كما يقول جورج سانتيانا، أمْ أنها فتنة اللغة في الخيال ? الواقع ، والواقع ? الخيال؟
” الآنَ ظهرتِ الحقيقة ، لقدْ اتّهمَ ابني ظلماً وعدواناً ، هي ذي الشرطة، ألقت القبض على قاتل خربوش ، لقدْ التقطوهُ كجرذٍ قذر ٍ ، لنْ أسمح لكم دنيا وآخرة” ? ص77.
اختلاق الخلاف الحاد بينَ الزوجة ( أم عائشة) وزوجها الذي أخذ شكلاً عدوانياُ ، وفعلاً مبيّتاً ، يُذكّرُ بخلافات الأزواج في المسلسلات التلفزيونية الذي يضعهُ المخرج كـ(مُقبّل) وهو يأخذ شكلاً ساخراً .. أهو يُقراُ من باب الجذب والتشويق ، وكفاتح شهية أكثر للقراءة ، وأنهُ يضيف نكهة جمالية إلى الرواية القصيرة ، المقتصدة في لغتها وأحداثها معاً ، والتي تدور حول موضوع واحدٍ أو حدث ما .. الخلاف لا يبدو منطقياً ، ولكنه جمالياً جاذب ، فليس من المعقول أنْ تقاتلَ زوجة ٌ زوجها ، بعدَ غيابِ سنة أو أكثر ، بالقذف بأدوات المطبخ والشتائم وحتّى التشابك بالأيدي ، بدلاً من أن تبخّر وتعطّر غرفة الزوجية ، وتهيئها للعناق :” في كل عام يحضرُ سيارة محملة بالثياب والبضائع والأثاث ، تجرّ وراءها مقطورة صغيرة، تنوءُ بأحمالها، فيوزع ما يوزع ، ويهدي ما يهدي ، ثمّ يبيع ما يبيع ، تتهمه زوجته بأنهُ متزوج هنالك في بلاد الغربة ، لذلك يتقاعس عن أخذها وابنته لتعيش معهُ هناك ، يحتدمُ النقاش أحياناً حتّى يتحولُ إلى تشابك بالأيدي ، وقذف بأواني المطبخ ” ? ص 66.
عملية القبض على ( شرشور) ، وما بدرَ منهُ من حركات وتصرفات وانفعالات، وهلع وخوف ، بشكلٍ عفوي ، وأحياناً مصطنع ، كيْ يُبعد تهمة القتل عنه ، ويظهر بريئاً ،حالماً بشاطىء المغفرة والعفو الذي بدا لهُ بعيدا ،.. هي أقرب إلى اللقطة السينمائية أيضاً .. وقدْ ألفَ رؤيتها المشاهد العربي ..! 
كذلك شعور الأمّ ( ربيعة) وهي تتلقى خبر اعتقال ( شرشور)، وتتجرأ على التفوه بما يغضب ويشين من اللفظ الفاضح العاري ، والكلام النابي ، كردةِ فعلٍ متوقعة ، دفاعاً عن براءة ابنها ( مصطفى سيسوان) ..!!
البورتريه الذي رسمهُ الروائي لـ( شرشور) كيْ يسهمُ في إدانته ، وإقامة الحد عليه ، وإثبات التهمة عليه ، كشخصية لا تنتسبُ إليها إلاّ الأعمال القذرة ، والصفات الدنيئة ، من القصور العقلي ، والتخلف ، إلى الخبث والحقد .. ترى هلْ كانت تجعلُ منهُ شخصاً مؤهلاً لأنْ يكون واسطة شفافة للعشق ، وحافظ أمين للسرّ بين عشيقين ؟ سؤال يظلُ حائراً في البحث عن إجابة كافية مقنعة أمام لا منطقية المهمة التي أوكلها ( خربوش) إليه .. إذ أنّ مثل هذهِ المهمة تتطلبُ شخصاً آخرَ ، تتوافر فيه صفات الدهاء والجرأة والمكر والخديعة ، وليس الخبل والقصور العقلي .. ويبدو أنّ الكاتب ،بخبرة المبدع الجاد ، قدْ تدارك هذا الأمر في النهاية ، ليخرج ( شرشور) بعدَ فترة اعتقالهِ بريئاً ، ويضفي عليه صفة أخرى ، إمعاناً بالتشويق أيضاً ، كحكّاء ونسّاج لقصص، كانت تقرأ من خلال دموع براءته ، ورآها الآخرون أضغاث أحلام:” وهكذا تقرّب ( شرشور) من ( خربوش) الذي كانَ ينفحُ بعض المال ، مقابل غسل سيارته، أو المساعدة في بعض أعمال السخرة في المقهى .. 
ثمّ استخدمه وسيلة اتصال بينهُ وبينَ معشوقته ، كلما رغب في عقد اتصال بينهما ، حتّى إنهما شرعا في استخدامه كحارس لهما في خلوتهما ، إلى أنْ وضع لهما سماً بالطعام في خلوةٍ ليلية بالبحيرة ، ولما تأكد من موتهما حشرَ جسميهما بالسيارة التي أضرمَ بها النار ، وفرّ هارباً”- ص83.
” الرواية ُ تتميزُ بالقدرة على الانتقال إلى داخل الشخصيات”- أندريه مورو/ الرؤية الإبداعية ? ص206.
وهذا ماكانت عليه ( إشاعات في مهب الريح ) ، وما أبدى كاتبها إدريس الصغير من براعةٍ ، لتبدو الشخصيات كحدثٍ داخل اللغة ،وفعلا مدركاً ، لنرى اللغة َ بطلاً ، كما هي عليه الرواية الواقعية ? الرومانسية .. فاختطاف ( بوغابة) الرجلُ المسلم ، والمسالم المحبوب لدى روّاد المقهى ، وهو فارس ( لعبة الضامة) بلا منافس ، محيرة ٌ أسبابه ، ويكتنفُ دوافعه الغموض ، أهو لقطة درامية ، تمّ استلافها عن قصدٍ من فلم سهرةACTION وتدخّل الروائي بإضافة تفاصيل أكثر إيحاءً وتعبيراً جمالياً ، عبر لغة بسيطة موحية ، وكأنّ الكلمات مللك لهُ وحده ،.. ذلك هو مصدر الجذب والمتعة في الجزء المشهدي من الرواية ، لكنّ الإشاعة في اختفائه جاءت على شكل ملصق ( بوستر) على حائط من حيطان ( عرصة القاضي) ، فأينَ لاعب الضامة الماهر من التهم السياسية ؟
:” مكانهُ ظلّ شاغراً بالمقهى ، ولمْ يعُدْ أحد من الرواد يطلبُ لعبة الضامة، واكتفوا بلعب الورق ، كانوايتحاشون الحديث في أمرهِ خوفاً من المخبرين، لقدْ شاعَ بأنهُ اختطفَ لأسباب سياسية” ? ص96.
” والتاريخُ كلّهُ ليسَ إلاّ قصّة شخصيات عدّة” ? ميلان كونديرا/ ثلاثية الرواية ?ص 63.
من جمال السرد الموحي ، الممغنط بخيال ٍ راق ٍ ، إلى التكنيك وهو الأهم ? كما يرى صنع الله إبارهيم .. إلى التقنية السينمائية المشغولة بحرفةٍ وحنكةٍ ، تصبحُ براءة ( شرشور) أكيدة ، بظهور ( الصعلوك) الذي دخلَ مع ( شرشور) في معركةٍ طاحنة بالأيدي .. كانت هزيمة ( الصعلوك) مؤكّدة على يدِ ( شرشور) ذي اللوثة العقلية ، وقدْ استلفَ كلّ هذهِ الشجاعة من نيران حقدهِ ، وشعوره كرجل مهمّش منبوذ في( عرصة القاضي) :”فجأة ً رأى صعلوكاً ينقضّ عليهما ، ويحاولُ أخذ الفتاة عنوة ً من الشاب الذي بدا عاجزاً عن الدفاع عن نفسهِ وعن محبوبتهِ ، فما كانَ من شرشور إلاّ أنْ بادرَ إلى تخليصهما منهُ ، غير أنّ الصعلوك لمْ يهضم الأمر، فدعا شرشور إلى مبارزة، كانَ من نتائجها كسر يدِ الصعلوك اليسرى وقدمه اليمنى” ? ص102.
إشاعة مقتل( خربوش) على يدِ أخيه ( العربي) ثأراً للشرف ، حينَ بُلّغَ من خلال مجهول بخيانةِ أخيه وزوجته ، ورأى الخيانة واقعاً ? خيالاً ، تظل سؤلاً حائراً ، وباحثاً عن إجابةٍ أيضاً .. أهي إشاعة أيضاً ، نسجتها مفارقات الواقع أمْ جنوح خيال؟ أمْ أنّ الخيانة بمدلولها السردي مرضٌ اجتماعي، تحفلُ بهِ ( عرصة القاضي) ، وكلّ مكان ينامُ فيه إنسانه على وسادة الضيق والملل والفقر والحرمان من أبسط وسائل الحياة.. أمْ ماذا؟. ( إشاعات في مهب الريح ) تضعُ أمامَ الواقع المعيش العديد من علامات الاستفهام والتعجب، فالإبداع الجاد يظلُ سؤالاً، إجابتهُ وإن بدت عسيرة ، لكنهُ هو الذي يحرّك الدمَ في مفاصل الواقع والحياة !!
ماذا أضاف السجن لـ( شرشور)؟ يقولُ عنهُ محمود : ( إنهُ يروي أشياء لا يصدقها العقل) .. أهو الخيال القوة الروحية والعقلية ? كما يرى كولريدج ؟ وهلْ أعاد السجن لـ( شرشور) هذه القوة ، وعقله واتزانه ، بعد أن كانَ مختلاً عقلياً ، ومضطرباً نفسياً ، أمْ أنّ كتاب الحياة المليء بالقصص والحكايات والتخاريف ، قدْ منحَ الزمنُ ( شرشور) بعض صفحاته ، وإذا بهِ ( الحكّاء) الممتع والمثير في الحي .؟:” ? شرشور هذا مخلوق فقدَ عقله ، بعدَ سجنهِ ، إنهُ يروي أشياء لايصدقها العقل ،وينسجُ من مخيلتهِ أحداثاً ، فقط ليثير الانتباه إليه ، إنهُ رجل أخرق ، عاطل لا فائدة فيه” ? ص121.
” أنا لا أخلق تلك الشخصيات ، بلْ هيَ تخلقُ ذاتها عندَ الكتابة” ? أليف شفق !!
إنّ موت ( خربوش) الغامض ، واختفاء( بوغابة) الجارح لأهل الحي ، والضياع الحياتي والغربة الوجودية لـ( شرشور) ، وصناعة وبرمجة التّهم بلا عدد لـ ( مصطفى سيسوان ) ، وغزل ( عائشة) القائم على فنّ الإشارة الذي يغضبُ أمّها ، وحالة العشق المراقب والمصادر بينها وبين ( مصطفى سيسوان) التي ظلتْ حدثاً ثانوياً خلف الكواليس و( ليس الحبّ إلاّ فيضاً من الخيال) على حدّ تعبير شارلس مورجان.. ، وغموض شخصية ( العربي) وعلاقته المعقّدة بأخيه ( خربوش) ، و(محمود ) الذي هامَ على وجههِ بلا اسم ، وقدْ ذهبت الخمرة برأسهِ ، بعدَ زواج الحبيبة .. ، شخصيات خيالية تصبحُ الرواية من خلالها ( تأمّلاً في الوجود) ? حسب تعبير ميلان كونديرا.. من خلال بطل ٍ آخرَ مزهوً بكيميائهِ وهو ( المكان) الذي أفرزَ كلّ هذهِ الشخصيات ، ورسم ملامحها ، وصمّمَ خريطةلأهوائها ، بمفارقاتها وتناقضاتها ، وعاشت في وعاء رمادي، ( الإشاعات) التي لمْ تعُدْ وحدها في مهب الريح ، بلْ الشخصيات نفسها بكلّ ما فيها من ذوات متهدمة ،وحياة سينمائية مثيرة وجارحة ، هي كذلكَ في مهب الريح !! ليظل( المكان) و(الإشاعة) و( اللغة) الأبطال الأوفرحظا ً في رواية ( إشاعات في مهب الريح) للكاتب الكبير إدريس الصغير ..!!
وإذا كان الروائي الكبير إدريس الصغير قدْ تفجّر رؤىً وأحلاماً ، وهو ينسج بداية هادئة حالمة للرواية ، بمحاولة بطله الأوحد ( مصطفى سيسوان) عبور النهر الذي هو الحياة الصعب المنال ، على أنغام نرجسيتهِ ، وفتوتهِ ، ونجوميته المتضخمة الصاخبة ، تغذيها حركات ونظرات وغزل معشوقته ( عائشة) .. تنتهي الرواية بهذا الحلم ِ الذي بدتْ يقظتهُ عسيرة، بقيت في ذاكرة وأذهان أبناء وأهالي ( عرصة القاضي) بينَ الواقع والخيال، وبينَ الحقيقة والحلم.. وكأنّ الحلمَ يبدأ عندما تنهي الرواية ..!!
________
*(العلم)

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *