أهل اليقظة بين الحلم والواقع


*إدريس كثير

«يجب تعلم العلم قبل التيولوجيا حتى لا يقضي على الإيمان، لأن مستقبل العالم في العلم..»

ها هناك شعلة. انقشعت يوما ما، في مكان معين. بعد تحديده لا بد من محاولة الحفاظ عليها. هذه الشعلة المتوسطية انقدحت في اليونان وحاول فيتاغوراس بعد أن لخّصها في الأعداد أن يكتمها في الموازين الموسيقية وأن يُؤسس لها جماعة من اليقظانين لرعايتها وحراستها. هل كان أفلاطون واحداً منهم ؟ هل كان أرسطو آخرهم في اليونان ؟ 
1
كان ?يتاغوراس (1)(ولد سنة 560 ق.م في جزيرة صاموس غير بعيد عن ميلت، توفي حوالي سنة 500 ق.م) رجل دين وعالم في آن واحد. حامت حوله العديد من الخرافات . ساهم في التجديد الديني الذي عرفته اليونان في ق 6. ق.م، وأسس جماعة أخوية تؤمن بقداسة جديدة طقوسها هي التصوف والامتناع عن أكل اللحوم والاكتفاء بالنّبات كما ترفض الخمر، وترفض الألبسة الناتجة عن قتل الحيوانات. يسيرون حفاة الأقدام وبلباس موحد إناثا وذكورا ? باختصار جماعة بسيطة وفقيرة قنوعة. ربما كانت الجماعة رد فعل ضد تهتك أتباع ديونيزوس. 
يعتقد الـ?يتاغوريون في التناسخ الجزئي أو الكلي ويعتقدون في انتقال الأرواح من كائن حي إلى آخر. ولما ارتبطت الأفكار الدينية بالسياسة اضطر فيتاغوراس إلى ترك صاموس والهجرة إلى كُرتون جنوب إيطاليا حيث أسس أكاديمية أخلاقية سياسية دينية تطالب بالحكم الأرستقراطي ضد الديمقراطي. لكن فيما بعد اتضح أن أفكاره مستحيلة فاضطر ثانية اللجوء إلى ميتابونتMétaponte نحو خليج طارونت Tarénte حيث قضى نحبه نحو 500 ق.م. العديد من أعضاء جمعيته انتشروا في الشمال الشرقي لطارونت وكان لهم تأثير سياسي فلسفي إلى حدود 350 ق.م. كل هذه الاختيارات والتجارب تجعل من فيتاغوراس أول اليقظانين.. 
زار ?يتاغورس في شبابه كل من مصر وبابل، ربما من هنا جاء ميله للرياضيات. ودافعه إلى القول ” إن كل شيء يعود إلى الأعداد “. يبدو أن هذه النظرية الأنطولوجية قد تأسست على ثلاث ملاحظات : 
– الأولى تؤكد على وجود علاقة رياضية بين نوطات السلم الموسيقي وطول وتر ما أو قصبة ما (كقصبة الناي). إذا اختزل الطول إلى نصفه كانت النوطة أعلى من ثمانية (octave). إذا كانت صلة الطول من 2 إلى 3 وحدات فهي تعطي الفاصل الموسيقي المعروف بالخماسي (quinte). وإذا كان من 3 إلى 4 يمنحنا الرُبع نوطة. هكذا إذا أخذنا وترا من 12 وحدة طولا، واختزلنا طولها إلى 8 ينتج عنه صوتا يفوق خُماسِي النوطة الأصلية؛ أما إذا اختزلناها إلى 6 وحدات فإنها تنتج الثمانية. انطلاقا من هنا أعلن ?يتاغورس ما يسمى بالأعداد المنسجمة (12، 8، 6..) كما اعتبر المكعب شكلا منسجما لأنه يحتوي على ستة أوجه و8 زوايا و12 ضلعاً. 
2- الثانية هي المتصلة بما يعرف بخاصية ?يتاغوراس : ” مربع الوتر يساوي مربع المقابل زائد مربع المحادي “. 
3-الثالثة تؤكد على وجود علاقات عددية محددة بين الزمن الضروري لمختلف الأجرام السماوية لكي تحقق دورتها حَوْل الأرض. 
وإذن كل”شيء في الكون عدد” نفس الخلاصة يمكن أن يصل إليها الرياضي والإعلاماتي الآن. الفارق الجوهري هو أن الـ?يتاغوري يمنح للأعداد سلطة مطلقة إلهية في حين يدركها العالم المعاصر كأدوات فعالة لإدراك الظواهر الطبيعية. 
كان للفيتاغوريين ذوق فطري للأشكال. فهم يحسبون من خلالها النقطة ? تساوي 1. وثلاث نقط = 3 و ست نقط::: = 6 وعشر::::: = 10 هذا العدد الأخير يعتبر عددا كاملا لأن 1+2+3+4 = 10 ولأن كل جهة من جهاته تتضمن أربع نقط فهو إذن عدد مقدس مثل الأعداد التي تتساوى مع مجموع أعدادها كالعدد 6 (= 1 + 2 + 3) و28 (1 + 2 + 4 + 7 + 14) إلخ، وهناك الأعداد في شكل نقط مربعة (1) (4) (9) أو في شكل أهرام. كما هناك الأعداد المتحابة التي مجموع مكوناتها العددية متساوية مثل 220 و284 (ص 102).
ولقد أثار انتباههم ما يسمى بالمتوسط الحسابي أو الهندسي. مثلا في المتوالية 4، 5، 6. الوسط الحسابي هو 5، أو 4، 8، 12 الوسط هو 8 …
الفيتاغورية أخوية فلسفية دينية و علمية قريبة من النزعة الأورفية. عرفت تراتبية ذات درجات و سمحت للغرباء و النساء بالانتماء إلى حظيرتها وفق السلم التالي:
الدرجة الأولى: يسمى أصحابها بالمرشحين و يراعى فيها ملامح الوجه و الحركات و العلاقات الأسرية و الضحك و الرغبات و العلاقات الانسانية .وفق هذه الشروط يقبل المرشح أو لا يقبل في الأخوية. 
الدرجة الثانية: ينعت أصحابها بالمبتدئين (النبتة الجديدة).يدوم الاختبار فيها ثلاث سنوات .يلاحظ فيها الصبر و الرغبة في التعلم .بعد القبول تتم تأدية قسم الصمت .
الدرجة الثاثلة: هي درجة المستمعين .دراستهم تدوم خمس سنوات في شكل مبادىء شفوية دون برهان، الغرض منها تخزينها في الذاكرة، وعادة ما يكون المستمعون صامتين ينصتون إلى أقوال فيثاغورس وهو من وراء حجاب.
الدرجة الأخيرة: هي درجة العلماء من الرياضيين . يسمح لهم برؤية المعلم . يلجون إلى المعرفة الباطنية عن طريق الرموز أو الصيغ المرموزة .
يهتمون بالدين و الموسيقى و الحساب والهندسة ..و يخضعون لقواعد شتى منها غذائية (كلهم نباتيون) دينية (يقدمون الأضحيات)روحية (احترام الذات ومحاسبة النفس)رياضية (الألعاب العشرية) … 
فما معنى كل هذه الممارسات ؟ إنها دليل على مهارات وقدرات حسابية جمة. كما أنها تفصح عن جرعة صوفية وعلاقات سرية ثاوية في الأعداد كتعبير عن الأشياء، لقد كان الشكل الخماسي المسمى ” البانتاغون ” (pentagone) يُشكل رمزا صوفيا لدى الـ?يتاعوريين وهو رمز الصحة ، ذلك أننا حين نُمدد أضلاعه نحصل على النجمة الخماسية المتضمنة لما يُسمى بالمثلث الذهبي (؟). وكان رمز الانتماء هو المثلث الذهبي tetraktys،كان هذا الشكل رمزا للتعارف بين أعضاء الجمعية الـ?يتاغورية. 
ولما اكتشف الفيتاغوريون الأعداد الصماء أو اللامعقولة، اهتزت نظريتهم القائلة “العالم أعداد”(2).. وأقاموا جنازة رمزية للذين اكتشفوا هذه الأعداد الغريبة. وأطلقوا عليها اسم alogos (اللاعقل) وحاولوا جاهدين إخفاءها. 
لا معقولية هذه الأعداد تبدو في عدم خضوعها للثنائية المعروفة في الحساب : الأعداد الزوحية/ والأعداد الفردية. هذه الأعداد الصماء ليست زوجية ولا فردية أو هي زوجية وفردية في آن واحد. 
لذا لابد من كتم السر.هل سيكون أفلاطون هو أمين السر؟
2
أفلاطون (ولد بأثينا سنة 427 ق.م، ومات سنة 348 أو 347).صلة أفلاطـون بالفيتـاغوريين تعـود إلى شبابه ( كان في 30 عمره) حيث سـافر إلى إيطاليا وتعرف عليهم هناك ؛ رغم أن شيشـرون يؤكد على سفره إلى مصر أولا. وكان مثلهم شغوفا بالأعـداد وبالأشكال الهندسية. فـأي سر ورثه أفلاطـون عن هؤلاء الإخوة ؟ 
كل نظرية المثل الأفلاطونية هي نظرية أنطولوجية للماهيات والجواهر. المثال ليس شيئا إنما فكرة مثله مثل العدد. من هنا أهمية الرياضيات؛ لا فقط في تمثل الوجود ولكن أيضا في التربية وفي التربية السياسية (ص312 النواميس). في محاورة تيماووس يمكننا تلمس السر الذي ورثه أفلاطون عن أرشيطاص الـ?يتاغوري. تتكون المحاورة من ثلاثة كتب. الأول عبارة عن تقديم يتضمن سردا لأسطورة أطلانطيد ? الثاني يتطرق “لروح العالم”، حيث توجه نظرية العناصر الأربعة (الأسطقسات) ونظرية المادة ?أما الكتاب الثالث فيتناول موضوع الفزيولوجيا ويتطرق لروح الإنسان وجسده. لذا الكونُ لدى أفلاطون عالم منتظم معقلن. و”روح العالم” شبيهة بروح الإنسان. أما الأفلاك والثريا والنجوم فهي أفكار أو مثل حتى لا نقل آلهة.الرياضيات هي العلم الذي يمكنُنه أن يفسر حركات هؤلاء الآلهة المساوقة لموسيقى سماوية ربانية. والناس حين يموتون تتوجه أرواحهم نحو نجومها ومآلها. 
في الأكاديمية، مدرسة أسسها أفلاطون في حدائق بطل يُوناني يدعى أكاديموس، كان التعليم يبدأ بالرياضيات ثم الجدل والميتافزيقا… وكانت هناك دروس سرية لأفلاطون حسب فراسنوا شاتلي(3)، لذا فنحن نعرف ما يسمى بالتعليم الظاهري فقط (exotérique) ولا نعرف شيئا عن التعليم الباطني أو السري (ésotérique) الذي ضاع كليا للأسف. والدليل على ذلك دوما حسب فرانسوا شاتلي، هو أننا نعثر، في بداية الكتاب التاسع من الجمهورية على مقطع غامض وملتبس يشرح فيه كيف يمكن للعالم أن يفنى في اللامعقول. فلربما يعد هذا المقطع جزءا من التعاليم السرية لأفلاطون انحشر صدفة في هذا النص البيداغوجي (!) (ص 65 نفسه) وهذا تأثير واضح للتوجهات الأساسية للـ?يتاغورية كما لاحظنا ذلك. 
هل كان هاجس أفلاطون هو بناء خطاب بواسطة الخطاب نفسه (المفهوم) يكون حكما على كل خطاب ؟ هل كان بهذا الهاجس واحدا من اليقظانيين الذين يهمهم السهر على الشعلة حتى لا تخبو وتنطفئ ؟ 
لقد كان هدف أفلاطون الدفاع عن سقراط لا فقط بوضع الأسئلة، وإنما أيضا بالإجابة عنها، لكي يحيا سقراط ويستمر. كان هدفه الإصلاح الكلي للتنظيم الاجتماعي، حتى يستطيـع أمثال سقراط الذين يحملـون في جوفهم نفس الشيطان (Daîmon) العبقري ، التعبير عن ذواتهم . هذا ما كان أفلاطـون يسميه ” إتاحة الفرصة للإنسان لكي يحيا تحت ألوان إلهية.. (ص 27، شاتلـي. م. س) أي لكي يصل إلى الخلـود والسعادة المطلقة. 
أليست هذه هي فكرة كتاب أرسطو المفقود ” رسالة في الخلود المطلق “؟.
3
أرسطو : (ولد سنة 384 ق.م، بستاجير، وتوفي سنة 322 ق.م). كان لأرسطو(4) احترام كبير للرياضيات. لكنه مال أيضا للجدال، و كان يعتقد مثل أفلاطون في أبدية الروح ومَنَح للأفلاك والأجرام روحا سماوية . كل الأشياء الأخرى تخضع للتحليل والتأمل المنطقي سوى “المحرك الأول” : الله.
يمكن تقسيم فلسفة أرسطو إلى مرحلتين : في الأولى ما زال تحت تأثير أفلاطون أما في الثانية فقد استقل عنه نهائيا. الأولى تمت في رحاب الأكاديمية، أما الثانية فقد تمت داخل أسوار اللوقيوم.أما الموسوعة المعرفية فتنقسم إلى ثلاثة أقسام:1- صناعة المنطق. 2- العلم الطبيعي. 3- وما بعد الطبيعة. 
1-في المقولات وكتابي التحليلات يضع أرسطو قواعد البرهان والدليل : القضايا، الحجاج، الاستنباط. وإن كان لم يخترع في مجالات الرياضيات أي شيء، فإن مساهمته الكبرى تتجلى في نقاشه لمفهومي النهائي واللانهائي (ص 143، نفسه). 
2-كانت له مساهمات عديدة في مجالي علم الفلك والفيزياء( السماع الطبيعي). كما أبان عن هوس كبير بعلم الإحياء يبدو من خلال جمعه لأكثر من 500 نوع حيواني(كتاب الحيوان) .
3- أما القسم الميتافزيقي فيتضمن المقالات الأربعة عشرة الموجودة في كتاب ما بعد الطبيعة. 
إذا نحن تأملنا متن أرسطو والمتكون مما يناهز العشرين مؤلفا في الكون والفساد والنفس والأخلاق وتاريخ الحيوانات والفيزيقا والميتافيزيقا والأرغانون والسياسة ودستور أثينا والبلاغة والشعرية… سنجد أن ضمن مؤلفاته ما يعرف بالرسائل : رسالة في السماء. ورسالة أخرى في الأجزاء المكونة للحيوانات، فلم لا تكون “رسالة في الخلود ” من ضمن هذه المجموعة الأخيرة ؟. 
لذلك … “من المحتمل أن تكون جل النصوص الفلسفية القديمة قد ضاعت. من حين لآخر نعثر على بعض منها، فتغير نظرتنا للحقبة المعنية. يمكنُ أن نشير على سبيل المثال إلى ترجمة جون شاد?يك (Chadwick) في الستينيات من القرن الماضي، لنص تحت عنوان : “الخطية بـ” (Linéaire B) والذي قدم لنا أفكارا جديدة عن تاريخ اليونان. كما عُثر في القرن 19م على “دستور أثينا” لأرسطو والذي غيّر العديد من تصوراتنا الأرسطية في السياسة […]
كل الجزء الأول من الفكر الأرسطي قد ضاع. وقد كان، إذا ما صدقنا الرومان، عبارة عن محاورات أكثر جمالا من محاورات أفلاطون (ص 41، ف. شاتلي. م. س). في هذا السياق تندرج رواية جاك أطالي : “الزاوية الأخوية لليقْظانيين”(5)
ينبهنا الروائي(ص 8) إلى أن كل الأحداث التـاريخية المسرودة في الرواية حصلت. وأن كل الأفكار وطرق العيش الواردة فيها تنتمي لذات الحقبة (القرن 11م وبداية ق 12) وأن كل الشخصيات حقيقية إلا استثنـاءات نادرة. وأن ابن رشد في الرواية هو ابن رشد الحقيقي وكذلك موسى بن ميمون وابن طفيـل وأنهم تحاوروا فيما بينهـم في أماكن عدة خاصة في فاس. إلا الأخـوية “ورسالة الخلود” فهما تقريبا من نسيج الخيـال. رغم أن العديد من الإشاعات من هذا القبيـل وأخرى كاعتبار أرسطـو صاحب رسالة وأنه كان بوذيا أو تأثر به خاصة بعد أن سافر إلى الهند… قد شاعت وانتشرت في آخر حياة أرسطو بشدة. 
هل ألّف أرسطو كتاب “رسالة في الخُلود المطلق” حقاً ؟ وهل أوصى ابنه نيكوماخوس بنسخ أربع عشرة نسخة، وترك له نفس العدد من العملات الذهبية تسمى الدراخما لتعيين المختارالذي يتم اختياره لامتلاك نسخة منه ؟ لماذا هذا العدد بالضبط ؟ ما هو محتوى هذا الكتاب ؟ كيف تم الحفاظُ على الكتاب وسره إلى زمن ابن طفيل وابن رشد وابن ميمون ؟ متى يُمكن الإسرار به ؟.. هذه الأسئلة وأخرى يُجيب عنها جاك أطالي إجابات شافية في روايته هاته وفي قالب روائي محكم وجميل. 
إحالات:
1- Christophe Rogue, Comprendre Platon. Armand Colin, 2004.
2- تم التعارف من خلال المدعو أرشيطاص من طارونت (Archytas de Tarente) (ص 129).
2- François Chatelet, Une histoire de la raison, entretiens avec Emile Noël, Ed. du Seuil, 1992, p. 28.
2- Colin Ronan. Histoire Mondiale des sciences, op. cit. p. 141.
5- Jacques Attali. La confrérie des Eveillés, Fayard 2004.
______
*(العَلَم) المغربية

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *