*أحمد الرحبي
قبل أن أدخل في الحديث عن مدى الاهتمام الذي حازه العالم والملاح الكبير شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد بن عمرو السعدي النجدي لدى واحد من المستعربين الروس البارزين، والمكانة التي حظي بها لديه، أود أن أقدم تعريفا مقتضبا بهذا المستعرب وأتوقف عند محطات مختلفة من حياته ومسيرته ومواقفه العلمية.
ولد المستعرب الروسي تيودور آدوموفيتش شوموفسكي عام 1913 من أبوين بولنديين، وإبان الحرب العالمية الأولى اضطر أبواه للاستقرار في بلدة شماخ من جمهورية أذيربيجان. في تلك البلدة حدث التماس الأول بين الصبي تيودور وطيف من الثقافة العربية والإسلامية، فقد كانت جولاته اليومية تمر بجوار المساجد وبين القبور التي نقشت على شواهدها كلمات عربية. ومع أن تحصيله التعليمي الأول كان في معهد للتعدين، انتقل بعده للعمل في أحد المناجم، إلا أن اللغة العربية ما برحت تراود أفكاره وترتسم في أحلامه. وفقط في عام 1932 تحقق ما كان يصبو إليه، حيث تم قبوله كطالب في قسم الدراسات الشرقية في جامعة لينينجراد. حينئذ لم يدخر شوموفسكي وقتا فأقدم على التخصص في الأدب العربي وتاريخ الشرق الأوسط.
قبيل الحرب العالمية الثانية، اتهم بتشكيل حركة طلابية معادية للاتحاد السوفيتي فأرسل بموجب ذلك إلى معسكر الاعتقال، واستمر الاعتقال بحقه بعد الحرب، فقضى ما مجموعه ثمانية عشر عاما في تلك المعسكرات. ولكن السجون لم تفت من عضده ولم تضعف رغبته وهمته المعرفية والعلمية، فقام مع زمرة من أصدقائه بتشكيل حلقات درس للسجناء، كان دوره فيها إلقاء دروس في الثقافة العربية. كما أن فترة الاعتقال جمعته بأناس من قوميات مختلفة، استفاد شوموفسكي من قربهم للتعرف على لغات وثقافات مختلفة.
في عام 1956 يستعيد حريته كلية وينخرط مرة وإلى الأبد في عمله الأكاديمي وتأليفه البحثي، كما يعود إلى موضوعه المفضل وهو البحث والاستقصاء والترجمة لآثار الملاح والعالم الكبير أحمد ابن ماجد، والتي كانت محصلتها في تلك الفترة، رسالة دكتوراه حملت عنوان “موسوعة البحار العربية في القرن الخامس عشر” والتي اعتمدت على البحث والترجمة لأهم وأشهر أعمال ابن ماجد ألا وهو كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد الذي يعد من أهم المؤلفات الكلاسيكية في تاريخ العلوم البحرية.
وإلى جانب اهتماماته بالبحار الشرقية ـ والعربية على وجه الخصوص ـ ودراسة التاريخ الحضاري والثقافي الذي شهدته، أولى شوموفسكي اهتماما بالجانب العقائدي لأمة العرب والإسلام، فجاءت ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الروسية عام 1992، وقد اتخذ في ترجمته هذه لغة شعرية وجد أنها الأقرب إلى روح القرآن. ولاقت الترجمة ترحيبا واسعا بين الأوساط الروسية المسلمة. توفي تيودور آدوموفيتش شوموفسكي عام 2012 عن عمر ناهز المائة عام ودفن في مدينة سانت بطرسبورغ بجوار أستاذه الأكاديمي والمستعرب الروسي وأحد مترجمي القرآن الكريم إلى اللغة الروسية، إغناتي كراتشكوفسكي.
***
مدخل إلى ترجمة مختارات من كتاب آخر أسود البحار العربية
لقد قمت في السابق بترجمة مختارات من كتاب “آخر أسود البحار العربية” للمستعرب الروسي تيودور شوموفسكي وهو كتاب صادر عن منشورات جامعة سانت بطرسبورغ عام 1999. وقد نُشرت الترجمة متفرقة في الصحف العمانية ومجتمعة في مجلة نزوى الثقافية العمانية العدد ٤٦. وسأقوم في هذه الورقة باستعراض شواهد من تلك الترجمة، وذلك من أجل الوقوف على طبيعة العلاقة التي ربطت شوموفسكي بأحمد بن ماجد. ولكن وقبل ذلك وجب ذكر أن الفصول التي قمت باختيارها للترجمة إنما جاءت لتلبي رغبة لدي في استخلاص مادة بعينها من الكتاب ونقلها إلى اللغة العربية، وذلك دون سواها مما ورد في الكتاب بمجمله . ولا أظن أن الخطوة التي قمت بها، أي العملية الانتقائية للترجمة، قد أدت إلي انحراف عن مقاصد شوموفسكي ومرامي بحثه أو تمزيق لكتابه، ولم تكن ترفعا أو ابخاسا لقيمة الفصول التي لم تشملها الترجمة. بل على العكس من ذلك تماما.
لقد استخدم شوموفسكي في كتابه “آخر أسود البحار العربية”، قاصدا بالأسد الأخير، البحار والعلاّمة، أو فلنقل علاّمة البحار أحمد بن ماجد، استخدم ضربا من التأليف الحماسي امتزج فيه التاريخي بالعاطفي: ما فصّله التاريخ من أحداث وخطه من مجريات بما سطرته المخيلة وأشاعته في حنايا الكتاب، متخذة من الشعر والأدب والأخلاق ألسنة لسردها. وكان نتيجة ذلك أن تفرعت مادة الكتاب الخام، أي الكتابة عن أحمد بن ماجد، إلى مواد أخرى مختلفة تستقل عن المادة الأولى وتنفرد عنها بمناخ يخصها وحدها، وهي مواد تخاطب القارئ الروسي وتؤنسه بشؤون ثقافية ذاتِ سمات روسية بيّنة.
ولكن لماذا سلك المؤلف هذا الضرب من التأليف؟
نجيب عن هذا السؤال بالقول إن شوموفسكي قد تناول شخصية أحمد بن ماجد وكتب عن إنجازاته في علم البحار، ووضع إشارات كثيرة لمآثره في الاكتشافات العلمية وتحدث عن أخلاقه التي قلدها رفيع الألقاب، وكان لا يتردد لحظة في إدراج اسم ابن ماجد بجانب أسماء تاريخية كبيرة مثل المستكشف كولومبوس والفنان دافينشي، وقد فعل كل ذلك بأسلوب أظهر أن المستعرب الروسي لا يني يضع نفسه أمام شخصية مشعة الجوانب، وافرة المعارف، ليس في علوم البحر والريح والنجوم وحدها، وإنما أيضا في أفلاك الشعر والأدب والنفس. والحال كذلك، فإن شوموفسكي وجد في أحمد بن ماجد لُقية ناصعة، وجوهرة نادرة، همّ عليها بكل جوانحه وشرع يقلبها أمام قارئه الروسي الذي لا علم له بها، ممهدا أمامه الطريق لفهم شتى جوانبها واستجلاء ألمعيتها. والحال كذلك مرة أخرى، فالمؤلف في كتابه يقدم شخصية يكّن لها منتهى الإعجاب ويمحضها عظيم الإجلال… ولكن لقارئ روسي لا يعرفها! ولكي يوازن بين طرفي المعادلة، ومن أجل أن يصل إلى مبتغاه في إشراك قارئه الروسي، الجذل الذي يشعر به تجاه شخصية كتابه، ناهيك عن إشهارها في اللغة الروسية، اتبع منهجا توافقيا في التأليف، طرق فيه أساليب عديدة وجدها نافعة لمسعاه. وربما كان واحدا من أنجع تلك الأساليب، تضمين دفتي كتابه بمقتطفات وقبسات من سيْر شعراء ورحالة روس وذلك سيرا بالمثل القائل: المرء بقرينه يعرف.
شواهد من كتاب آخر أسود البحار العربية
سأسترشد فيما يلي بمقاطع وعبارات من كتاب “آخر أسود البحار العربية” تعبر عن عمق الأثر الذي تركه أحمد بن ماجد عند شوموفسكي وسأضع تلك الاختيارات في مساقين اثنين: أولهما الخيالي، وهو ما رسمه خيال المؤلف عن حياة ابن ماجد، وثانيهما التاريخي وهو ما تردد في كتب التاريخ عن ابن ماجد وأورده شوموفسكي في كتابه معَززا بوجهة نظره.
أولا المساق الخيالي
يرسم شوموفسكي لوحة شاعرية شفافة عن طفولة أحمد بن ماجد وعلاقته بالبحر منذ نعومة أظفاره. يقول:
التأمل زاد من عمره وأبعده عن رفاقه فصارت أعدادهم تتناقص. يجلس ساعات على الشاطئ ويشاهد تعاقب الأمواج. ساكن كأنه عمود خشب. أية أفكار كانت تراوده؟ ربما لا يفكر بشيء، وما شروده ذاك سوى تسلية صبي أعياه اللعب وضجيجه فجعل ينتحي جانبا من الفسحة الزرقاء ويستسلم لسكونها. يُسرح البصر في الفسيح الأزرق اللامنتهي مترقبا عودة أبيه الوشيكة. في تلك الساعات تطفو على سطح الذاكرة قصص رواها أبوه عن البلدان البعيدة والجزر الضائعة واختطاف اللؤلؤ من مهاد المحار. يرتسم كل هذا في خياله المنفعل فيما الأمواج المترنحة أمامه تولد وتموت بلا نهاية.
ويواصل شوموفسكي حديثه عن طفولة ابن ماجد، مغدقا عليه الألقاب والصفات الحميدة. نستمع إليه يقول:
يمضي طفولته المبكرة مثل باقي أترابه: حرك، دؤوب في اللعب، فائض الطاقة وأمين الجانب. يتسلق جذع شجرة ليعبث بعش عصفور أو يناوش قاربا قديما محطما: يقيم أشرعة في أحلامه ويحيل القارب إلى حصن منيع.
ومن بين المشاهد التي نسجها خيال شوموفسكي عن ابن ماجد نختار مشهد انتظاره لعودة أبيه من البحر، ومنه نستشف الأسلوب الأدبي في كتابة تيودور شوموفسكي، وهو ما يذكرنا دائما بحقيقة التكوين الأدبي لدراسة شوموفسكي الجامعية. يقول:
اليوم يصل أحمد البالغ عشرة أعوام مبكرا إلى الميناء. يترقب عودة أبيه التي طالت هذه المرة. أترى مصيبة حلت به وهو يائس من النجاة؟ “مستحيل”… سريعا ما ينفض عنه الوساوس، فهو يعرفه سباحا لا يقهره الموج مهما علا ومهما شطت المسافة بينه وبين البر. سيصل وسيتقدم متهاديا إلى ولده ليعبث بشعره ويعودان سوية إلى المنزل القريب. هناك تبدأ القصص الجديدة عن المياه البعيدة، فتتسع عينا الطفل وتلمعان، وبين حين وآخر، يرتجف صوت البحار الكهل المريض: “إذا شاء الله سيكون الولد مساعدا جيدا وسيغدو رجلا قويا”. ولكن أين هو الأب؟ ينقضي النهار وتبدأ أشعة الغروب تهتز على سطح الماء. هل عبرت سفينته بين الصخور السوداء التي قد تجرها إلى القاع في أية لحظة؟ أو تراها تتهادى الآن في ميناء المدينة البعيدة حيث يضج الكلام الغريب في سوقه وحيث التجار بالأردية الملونة يمسدون لحاهم المخضبة بالحناء! ربما يكون قد رمى بمسعاه لجمع اللؤلؤ! “عندما يعود سأسأله عن اللؤلؤ وأين يجمع، وكيف، ومن أين له ذلك اللمعان الفاتن؟ بماذا سيجيب يا ترى؟” يلمح الولد الغارق في التفكير نقطة تهزها الأمواج. الأب! إنها سفينته إذا ما خانه البصر! ينزل البحار المتعب فيخطف أحمد يده الخشنة ويقوده إلى المنزل.
ويذهب شوموفسكي بعيدا في إضاءة جوانب خاصة وحميمة من حياة أحمد بن ماجد وإن كانت إضاءاته تلك تتوقد بزيت الخيال، ومنها هذا الحوار بين أحمد ووالديه
ـ رجعت إذن يا ماجد. (تهمس الزوجة مقتربة من زوجها راضية الخاطر).
ـ الحمد لله. (يرد ماجد مستعيدا نشاطه)
ـ كان يخرج كل يوم لاستقبالك (تواصل الزوجة) حمدا لله على السلامة
يعلق ماجد ابتسامة على وجهه وهو ينظر إلى أحمد، فينتهز هذا الفرصة ليبوح بالسؤال المحبوس في صدره:
ـ قل لي، من أين يجمع اللؤلؤ؟
ـ لا تثقل على أبيك. ألا ترى أنه متعب؟ (تردعه الأم بصرامة).
ارتمى ماجد على الفراش وأجاب بصوت متعب وقاطع في الوقت ذاته:
ـ سأحدثك لاحقا. إنه عمل شاق يا بني!
وفي موضع آخر من المواضع التي تخيلها شوموفسكي واستأنس بها ليرسم صورة لأحمد بن ماجد في سنواته المبكرة، يصف لنا الخطوة الأولى التي تقدم بها ابن ماجد لركوب البحر. يقول:
تكر الأيام وتمضي السنون إلى أن أتى مساء أخبر فيه ماجد ابنه بأن الوقت قد حان لركوب البحر وعليه أن يستعد للخروج:
ـ يا أحمد.. سأصطحبك غدا إلى المركب.
تلعثم الصبي وأخذ قلبه يخفق من الفرح والخوف معا.
ـ ولكنه لا يزال طفلا! (قالت الأم متوسلة).
ـ لم يعد طفلا (رد ماجد بصوت يشوبه الحزن) ولم أعد أنا شابا مثلما كنت. عليه أن يعتاد العمل ليعيل الأسرة. عليه أن يتعلم، أم تريدين الانتظار حتى تنبت له لحية؟!
في اليوم التالي خطى أحمد الخطوة الأولى واجتاز البر إلى سطح المركب. ارتعشت قدماه باهتزاز المتن واستند إلى جانب المركب.
ـ ابتعد من هناك (صاح الأب) ستسقط في الماء. اجلس في الوسط وتمسك بالحبل.
كان كل شيء جديدا وغريبا بما فيه وجوه البحارة المساعدين. قرأ ماجد بن محمد الفاتحة بصوت عال فيما همس بها البحارة بعده. وقفوا جنبا إلى جنب والتصقوا بالمناكب، وبدأت المسافة بين شريط الساحل والمركب تزداد وتتسع، ومعها يزداد الخفقان في صدر أحمد.
ـ لا تخف. كنت مثلك عندما قادني والدي محمد بن عمرو رحمه الله إلى المركب أول مرة، ولكنك ستفهم سريعا بأن البحر يُضيّع الغبي المتخاذل ولا مكان فيه للمتسرع المتشاطر. ثم أردف الأب ضاحكا: فيما يتسع بهم البر.
ـ وإلى أين نذهب؟ (سأل الابن)
ـ ليس بعيدا. سنوصل الصوف ونعود بالسمك الجاف إلى جلفار. هذه المرة للتجربة، وقد تطول بك الأسفار في المرات القادمة!
ثانيا المساق التاريخي.
في هذا الجزء الذي ترجمناه لكتاب “آخر أسود البحار العربية”، يورد شوموفسكي وقائع ذكرتها كتب التاريخ وتحدث عنها المؤرخون. غير أننا نجد أن نبرة شوموفسكي المبجلة لابن ماجد تظل على حالها ونراه لا يترك فرصة لإبراز قيمة هذا الملاح الكبير إلا واستفاد منها في كتابه. يقول هنا ذاكرا أهمية كتاب أحمد ابن ماجد “الفوائد في أصول علم البحر والقواعد”:
كان لم يزل في عمر الخامسة والثلاثين حين وضع الكتاب، وهي سنوات قليلة لو قيست بقيمة الكتاب والمجهود الذي بُذل لتأليفه وحجم التجارب التي سبقته. كانت نيته قبل الشروع في التأليف، الربط بين ما عَلِمه في كتابه الأول وما كشفته التجارب من بعد. ويعود نجاح الكتاب إلى كون ابن ماجد رجل صاحب رئاستين.. حسب كلام العرب، كما لا تقتصر قيمة كتاب الفوائد وسبب شيوعه على وضوح اللغة وجزالة الأسلوب وحدهما، فقد ضم بين دفتيه أبوابا جديدة عن الملاحة لم يوردها أحد قبل ابن ماجد. كتب فيه عن طباع البحر وأخلاق البحارة وما يجب أن يكونوا عليه، وأورد جميع أسماء الشواطئ المعروفة في ذلك الوقت، أي قبل ألف يوم من اكتشاف أمريكا، وجمع فيه تفاصيل دقيقة عن الطرق البحرية في البحر الأحمر. وقد اغتنت اللغة في كتاب الفوائد بمطالعة ابن ماجد للأدب والشعر العربيين وقراءته للشعراء السابقين كالأخطل وعمرو بن أبي ربيعة وابن المعتز والطغرائي، مثلما آنسه كثيرا شعر أبي نواس وإبداع جرير.
وفي موضع آخر يسمعنا شوموفسكي صوت الحسرة التي لازمت ابن ماجد بعد قدوم البرتغاليين ومساعدته إياهم في الاهتداء إلى الهند مما أدى إلى سيطرتهم على الطرق البحرية التقليدية للعرب آنذاك. يقول:
شهد ابن ماجد اجتياح البرتغاليين المحيط الهندي وهو شيخ يناهز الستين من عمره. في تلك الفترة طُردت السفن العربية من طرقها التقليدية في المحيط فصارت تبحر حذو السواحل وقد نكست أعلامها… وكبرياءها. كان ذلك أشد من أن تحتمله نفس ابن ماجد، إذ لم تكن أبية عن الإبحار في تلك الطرق الضحلة والرتيبة فحسب، وإنما كذلك لإحساسه بالذنب والمسؤولية أمام ضحايا البرتغاليين الذين أوصلهم إلى ساحل الهند عام 1498. لم تجد الطمأنينة سبيلا إليه بعد. في عام 1501 يصنف ثلاثة أعمال صغيرة تقوم كأدلة ملاحية يذكر فيها متفرقات يسيرة عن التيارات وعلم النجوم والرياح، ثم ما نلبث نسمعه وهو يهتف كسير النفس: “آه.. لو كنت أعرف ما سيأتي منهم”
ثم يتولى شوموفسكي الدفاع عن ابن ماجد وكأنه يخفف عنه الحسرة ويحرره من وطأة الذنب: يقول:
نادرا ما يتطرق المؤلفون العرب المعاصرين إلى هذه الحوادث التي ألقت بظلالها على تاريخهم، وإن فعلوا نسمع بينهم من ينكر قطعيا علاقة ابن ماجد بدخول البرتغاليين الهند. آخرون ينددون بما قام به ابن ماجد ويردونه إلى طمعه في الجائزة التي وعده بها البرتغاليون، وهناك من افتعل قصة أن البرتغاليين الكفار غرروا بالرجل البسيط، المسلم المسالم وسقوه الخمر.
ويواصل شوموفسكي دفاعه عن شخصية كتابه في مسألة عرفت جدلا تاريخيا وأخلاقيا، ألا وهي الدور الحقيقي لابن ماجد في مساعدة البرتغاليين قض مضاجع المسلمين في آسيا. يقول:
من العبث بمكان تقريع ابن ماجد ولا طائل من وراء البحث عن أعذار تبرئ ساحته من تهمة ليست في محلها، فقد حُسم أمر تقسيم العالم بين البرتغاليين والإسبان قبل أربع سنوات من صعود ابن ماجد متن المركب البرتغالي: تحصل مدريد على العالم الجديد وتفوز لشبونة بالعالم القديم. ويصبح من السذاجة بمكان الاعتقاد أن مرافقة ابن ماجد للبرتغاليين كانت بشارة للفتح البرتغالي، وبأن فاسكو دي جاما لم يكن بوسعه الحصول على مرشد آخر يدله على الهند ولو كان أقل كفاءة من ابن ماجد.
***
من خلال ترجمة مقاطع من كتاب “آخر أسود البحار العربية”، للمستعرب الروسي تيودور شوموفسكي، أدركنا ـ من جهة ـ القيمة العلمية والتاريخية للعالم والبحار العظيم أحمد بن ماجد، ومن جهة أخرى ألقينا الضوء على جانب من اهتمامات المستعربين الروس، ولكن الشيء الهام الذي يدعو ـ في تقديرنا ـ إلى التأمل والتفكر، هو إنصاتنا للنبرة الودية التي تميز بها الاستشراق الروسي وذلك في مقابل ما عهدناه في الاستشراق الغربي وطبيعته التي غلبت عليها السطوة المعرفية وارتفعت فيها نبرة الخطاب الفوقي والمتسيد.
وتشتمل هذه الورقة على دعوة للمستعربين الروس للبحث والترجمة وتعريف مواطنيهم والناطقين باللغة الروسية بشخصيات عربية ساهمت في صياغة الحضارة الإنسانية، وهي في الوقت نفسه دعوة لمشاركة المستعرب الروسي الكبير تيودور شوموفسكي حبه وولعه الكبيرين لأحمد بن ماجد ولمواصلة ما توقف عنده من تقصي لحياة هذا الملاح ودراسة لإنجازاته العلمية، لا سيما أن النتائج البحثية لحياة وسيرة ابن ماجد ما تلبث تتغير وتتجدد مع الزمن ومع توفر وثائق جديدة من شأنها قلب ما كان يعد في السابق من قبيل الحقائق التاريخية الراسخة. وفي هذا السياق نشير سريعا إلى النتيجة التي توصل إليها الدكتور سلطان القاسمي في كتابه “بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد”، وهي النتيجة التي قوضت الفرضية التاريخية القائلة بأن ابن ماجد هو بعينه من أرشد المستكشف البرتغالي فاسكو دي جاما إلى الهند، وهي الرحلة التاريخية التي دشنت لمرحلة جديدة كبرى في العلاقة بين الغرب والشرق.
كما توصي الورقة الجانب العربي للإقبال على الاستشراق الروسي بشكل أوسع وخلق الباحثين والمترجمين في هذا المجال وتمتين العلاقات مع المؤسسات العلمية والثقافية الروسية وذلك سعيا لإثراء المكتبة العربية بركن كبير من أركان الاستشراق العالمي الذي، وللأسف، مازال متواريا عن أنظار العرب.
________
*(عُمان)