طه حسين و فانون: خطاب النهضة في أزمنة الثورة



*د. محمد الشحات


«إذا كانت الرأسمالية هي التي خلقت ماركس، والفقر المدقع في صقلية هو الذي أنتج غاليبالدي، والأوتوقراطية الروسية هي التي شكّلت لينين، والاستعمار البريطاني هو ما أبدع غاندي، فإن فانون لم يخلقه سوى الرجل الأبيض… كأنه جيفارا القارة السوداء».
– 1 –
ربما لن يجد قارئ كتابي (المُعَذَّبون في الأرض- 1955م) لطه حسين (1889 – 1973) و(مُعَذَّبو الأرض THE WRETCHED OF THE EARTH الذي صدر بالفرنسية عام 1961م) لفرانز فانون (FRANTZ FANON (1925 -1961 علاقةً جليّةً ومباشرةً بينهما سوى تشابه العنوانين فحسب، الذي يُشبه وقع الحافر على الحافر كما يقول القدماء. لكنّ ثمة علاقة قديمة – تسكن في مخيّلتي منذ سنوات – تجمع بين كتابي (المُعَذَّبون في الأرض) لطه حسين و(مُعَذَّبو الأرض) لفرانز فانون، وهي علاقة لا يجسّدها فقط عنوانا الكتابين، بل إننا نجد الرّوح نفسها التي وصف بها فرانز فانون بلدة «المستعمِر»، وما كانت تفيض الصورة به من بؤس وشقاء، ماثلةً في كتاب طه حسين بطريقة أو بأخرى.
– 2 –
في كتاب طه حسين صورٌ ولوحاتٌ قصصيةٌ وحكاياتٌ تجسِّد عذابات الإنسان المصري خاصةً، والعربي عامةً، بعد وقائع الحرب العالمية الثانية، أقصد إلى تصوير المرارة التي ذاقها كثير من أفراد الشعب المصري إبّان ابتلائه بوباء الكوليرا في الفصل الحادي عشر والأخير من كتابه الذي يحمل عنوان «مصر المريضة». «المُعَذَّبون في الأرض» مجموعة حكايات أو قصص تتكوَّن من إحدى عشرة قصة أو حكاية تحكي عن معاناة الفقراء والمعدمين والمرضى وآلام مَنْ ظلمتهم الحياة بحيث تعكس المجموعة أزمات عدّة تفشّت في ربوع مصر في فترة الأربعينيات.
ينهض كتاب طه حسين «المُعَذَّبون في الأرض»، وهو الأسبق في تاريخ النشر على كتاب فانون بستّ سنوات تقريباً، على كشف التفاوت الطبقي البيّن الذي كان سائداً فى مصر قبل ثورة يوليو 1952 ومدى التغيّرات التي أرهصت بها قوانين الإصلاح الزراعي وقوانين العمل والعمّال بعد قيام الثورة بقليل، الأمر الذي جعل طه حسين يلتفت إلى الأمر ويضرب على وتيرة العدل الاجتماعي الذي أكّده بعبارات نارية صدّر بها كتابه، متأسّياً على الحالة التي أسكنت الأغنياء المتنعّمين أبراجاً عاجيّة بعيداً عن أعين الفقراء والبائسين والمظلومين والمهمَّشين والساقطين من مدوّنة العدل الاجتماعي: «إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرّقهم الخوف من العدل. إلى أولئك وهؤلاء جميعاً أسوق هذا الحديث. إلى الذين يجدون ما لا ينفقون، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون، يُسَاق هذا الحديث».
تلتقي فصول الكتاب، أو لنقل قصصه وحكاياته، مع بعضها، حيث تصوّر كلها عذابات الناس وحال الدنيا حين تغيب فضيلة العدل عن دنيا الناس، وتنعدم المساواة بين بني البشر، فيرسم المؤلّف صورةً تمثيليةً للمجتمع المصري الذي ينقسم إلى طبقتين اثنتين لا ثالثة لهما: إحداهما بائسة محرومة، وهي الغالبة، والأخرى لا تحفل بالآخرين، وتعيش في ترف ونعيم دائمين. من بين قصص الكتاب يحكي طه حسين عن أسرة ريفية بائسة تتكوَّن من امرأة عجوز قبيحة المنظر هي «أم تمام»، كانت تجمع روث البهائم من الطرقات وتصنع منه أقراصاً تجفّفها وتبيعها وقوداً تستعين بثمنه على ضرورات الحياة على عادة أهل الريف المصري البسطاء، وولدين يشتغلان في بناء الأكواخ يوماً، وينقطعان أياماً، وبنتٍ في الثالثة عشرة يتصارع في وجهها سيماء القبح وخجل الجمال. كانت هذه الأسرة، رغم فقرها المدقع ورثاثة حالها، تعتصم بكرامتها فلا تمدّ يدها إلى أحد ولا تقبل معونة من أحد، مما أكسبها احترام الناس وكراهيتهم في آنٍ. وعندما ألمّ وباء الكوليرا بالقرية كما هو حاصل في مدن مصر وقراها آنذاك، تغدو أم تمام في طليعة مَنْ يفجعهم الوباء الذي ينشب أظفاره في ابنيها في أقل من خمسة أيام، فتظلّ رغم ذلك هادئة ساكنة مُطْرِقةً بجسمها إلى الأرض هي وابنتها، كمن ينتظر الموت من غير طائل، ثم تتبدّل أحوالها، فتروح تتبّع نسائم الموت في هذا البيت أو ذاك، لا تقول شيئاً للناس ولا يقولون شيئاً لها، بل تبكي وتبكي، حتى إذا ما بلغت حاجتها من البكاء هنا أو هناك تركت هذه الدار إلى دار أخرى ثم إلى دار ثالثة، وهكذا حتى ينقضي النهار كله. وتنتهي القصة بمحاولة أم تمام إغراق نفسها وابنتها في ترعة الإبراهيمية، فيُسْرِع أهل القرية إلى إنقاذها، لكنّ يد الموت تسبقهم إليها، ويسبقونها هم إلى ابنتها التي تُصاب بالجنون فيما بعد.
– 3 –
في كتابه (العالَم والنص والناقد: THE WORLD, THE TEXT AND THE CRITIC)، يصف إدوارد سعيد E. W. SAID كتاب فانون «مُعَذَّبو الأرض» بأنه كتاب مهجَّن، بعضه مقالة، وبعضه حكاية متخيَّلة، وبعضه مجاز قومي، وبعضه تحليل فلسفي، وبعضه تاريخ حالة سيكولوجية، وبعضه تسامٍ رؤيوي للتاريخ. وفانون طبيب نفسيّ وفيلسوف اجتماعي أسود، قادم من جزر المارتنيك، حيث عُرِف عنه نضاله من أجل الحرية ومقاومة أشكال التمييز والعنصرية. وعلى الرغم من كون فانون فرنسياً في الأساس، إذ حارب في جيش فرنسا الحرة ضد النازيين، فإنه قد عمل طبيباً في الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي لها، وانخرط في صفوف المطالبين باستقلال الجزائر عن فرنسا. وفي عام 1955 – وهو العام نفسه الذي صدر فيه كتاب طه حسين! – انضمّ فانون إلى جبهة التحرير الجزائرية وعمل طبيباً فيها، ثم نُفِي إلى تونس وعمل بها صحافياً لفترةٍ. وفي عام 1960 صار سفيراً للحكومة الجزائرية المؤقّتة في غانا. وتوفّي فانون عن عمر يقارب 36 عاماً، حيث دُفِن بالجزائر.
لفانون كتابان أساسيان هما «معذّبو الأرض» و«بشرة سوداء، أقنعة بيضاء BLACK SKIN, WHITE MASKS»، فيهما – كما في أغلب نصوصه – تنسرب الكثير من المقولات التي أصبحت متداولةً بعد ذلك، من مثل: «إن العربي المغترب بصفة دائمة عن بلده يعيش في حالة من تفكّك الشخصية المطلق»، كما أنه يرى في «الاغتراب تجربة فردية أولاً وتجربة جمعية ثانياً».
يعدّ فانون واحداً من أبرز مَنْ كتبوا عن مناهضة الآخر (المستعمِر) في القرن العشرين، جنباً إلى جنب مع التونسي آلبير ميمي ALBERT MIMI، وإدوارد سعيد، وهومي بابا HOMI BHABAHA وغيرهم، بحيث ألهمت كتاباته ومواقفه الكثير من حركات التحرّر في العالم خلال القرن الفائت، وهو الأمر الذي دفع الكثيرين إلى وصفه بصفات عدّة، من بينها «شاعر العالم» و«نبيّ العنف» و«مسيح الثقافات المقهورة»، وغير ذلك، كما كان يقول صبحي حديدي. تلتقي أفكار فانون مع الكثيرين من أسلافه ومجايليه، فيقول عنه دافيد كوت في كتابه المهمّ «فرانز فانون» الذي ترجمه عدنان كيالي إنه يشبه إيمي سيزار في ثلاثة أشياء: «كلاهما مواطن فرنسي، من جزر المارتنيك، وأسود». ثم يضيف قائلاً: «إذا كانت الرأسمالية هي التي خلقت ماركس، والفقر المدقع في صقلية هو الذي أنتج غاليبالدي، والأوتوقراطية الروسية هي التي شكّلت لينين، والاستعمار البريطاني هو ما أبدع غاندي، فإن فانون لم يخلقه سوى الرجل الأبيض… كأنه جيفارا القارة السوداء». لقد أصبح فانون في أواخر حياته القصيرة ثورياً مثالياً متصلّباً كأمثاله من الرجال الذين لا يعرفون طعم الراحة.
لعلّ من أبرز الصور السردية التي يجب التوقّف عندها مقارنة فانون في كتابه «معذّبو الأرض» بين بلدتي المستعمِر والمستعمَر، منطلقاً من فضاء ما بعد كولونيالي، يخلق باستمرار، وبطريقة متزامنة، صورتين متجاورتين للمستعمِر COLONIZER والمستعمَر COLONIZE، أو لنقل: التابع والمتبوع. وعلينا أن نلاحظ كيف يتمّ إسقاط صورة المرأة المدلَّلة على بلدة المستوطِن، والصورة/ النقيض على بلدة المواطن: «إن المنطقة التي يقطنها المواطنون المحلّيون ليست ملحقةً بالمنطقة المأهولة من قِبَل المستوطنين ولا مكمِّلةً لها. والمنطقتان متقابلتان، لكنه ليس التقابل الذي يخدم وحدةً أسمى. فالمنطقتان كلتاهما تتبعان طبقاً لقواعد المنطق الأرسطي المحض مبدأ العزلة المتبادلة. ولا يمكن التصالح بينهما، فأحد التعبيرين [يقصد المستعمِر والمستعمَر] زائد ولا لزوم له. إن بلدة المستوطنين بلدة ذات بناء راسخ مصنوع كله من الحجارة والحديد المسلّح، إنها بلدة تتلألأ فيها الأضواء وشوارعها مغطّاة بالإسفلت، وعربات نقل المخلَّفات تبتلع كل الفضلات، وتعبر الشوارع غير مرئية وغير معروفة، وبالكاد تخطر على البال. وأما قدما المستوطِن فلن تراهما أبداً إلا، ربما، في البحر، ولكنك حتى هناك لن تكون على مقربة كافية منه حتى تراهما، إذ هما محميّتان في حذاء قويّ على الرغم من أن شوارع بلدته نظيفة ومستوية وخالية حتى من الحفر أو الأحجار. إن بلدة المستوطن بلدة خير وطعام وفير، وهي بلدة آمنة مطمئنة، ومعدتها مملوءة دائماً بالأشياء الطيبة. بلدة المستوطِن هي بلدة الناس البيض، بلدة الغرباء. وأما البلدة التي تخصّ الشعب المستعمَر COLONIZED أو على الأقل البلدة الوطنية فهي قـرية السود THE NEGRO VILLAGE، المدينة MEDINA، البلـدة الاحتياطية، وهي مكان سيّئ السمعة يسكنه رجـال ذوو صيت سيّئ، إنهم مولودون هنا. أما أين وُلدوا، وكيف وُلِـدوا فأمران ضئيلا الأهمية. كما أنهم يموتون هناك. أما أين يموتون، وكيف يموتون فأمران لا يخطران على البال. إنها عالم من دون أية سعة أو رحابة، الناس فيه يعيشون بعضهم فوق بعض، وأكواخهم مبنيّة بعضها فوق بعض. البلدة الوطنية بلدة جائعة تتضوّر جوعاً، تلهث خلف الرغيف واللحم والأحذية والفحم والنور. البلدة الوطنية قرية ذليلة، تجثو على ركبتيها، وتتمرّغ في الوحل، إنها بلدة السود والأعراب القذرين. النظرة التي تنظر بها البلدة الوطنية إلى بلدة المستوطن هي نظرة اشتهاء، نظرة حسد، ونظرة تعبّر عن أحلام المواطن بالتملّك، كل أنواع التملّك: أن يجلس إلى منضدة المستوطِن، أن ينام في سريره مع زوجته، إن كان ذلك ممكناً. الإنسان المستعمَر إنسان حسود. وهذا الشيء يعرفه المستوطِن معرفة جيدة، فحين تتلاقي نظراتهما يتأكد من ذلك بحسرة، ويظل دائماً متحفَّزاً للدفاع عن نفسه. «إنهم يريدون أن يحتلّوا مكاننا». وهذا صحيح، إذ ليس هنالك من مواطِن لا يحلم، ولو لمرة واحدة في اليوم على الأقل، بوضع نفسه موضع المستوطِن» (نقلاً عن إدوارد سعيد: THE WORLD, THE TEXT AND THE CRITIC).
– 4 –
لعلّ مفردات «العدل» و«الحرية» و«الثورة ضد الظلم» هي ما يجمع بين كتابي طه حسين وفرانز فانون، فضلاً عن غيرهما من المفكّرين والكتّاب الذين أشرنا إليهم ممن شيّدوا دعائم خطابهم الفكري أو السردي أو التاريخي على آليات واستراتيجيات تُعْلِي من خطورة الوعي بـ «خطاب النهضة» في أزمنة الثورة. وما أحوجنا في مثل هذه الأيام إلى استعادة أمثال: فانون، وإدوارد سعيد، وألبرت ميمي، وهومي بابا، ومالك بن نبي، وغيرهم ممن أدركوا قديّماً ضرورة تخلّصنا من «القابلية للاستعمار» قبل السعي إلى مواجهة كل آخر «محتلّ أو مستعمِر».
_____________
*ناقد وأكاديمي مصري 
(مجلة الدوحة)

شاهد أيضاً

جماليّة الموت عند الشاعر المغربي مراد القادري: ديوان “و مْخَبّي تَحْت لسَانِي رِيحَة المُوتْ” نَموذجاً

(ثقافات) جمالية الموت عند الشاعر المغربي مراد القادري ديوان “و مْخَبّي تَحْت لسَانِي رِيحَة المُوتْ” …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *