*عيد عبدالحليم
على مدار قرنين من الزمن انشغل كثير من المثقفين بما يسمى مشروع التنوير الثقافي العربي، والذي ظهرت من خلاله أسماء بارزة في الفكر والثقافة على مستوى الأقطار العربية . فهل حقق هذا “المشروع” المرجو منه، أم فشل في تحقيق أهدافه، وهل كان ذلك لاعتماده على الماضي أكثر من امتلاكه لرؤية مستقبلية؟
هنا مواجهة بين المفكر والباحث السوداني د . حيدر إبراهيم علي، والناقد المصري د . عبد المنعم تليمة .
تلّيمة: نحن في لحظة مكاشفة والتنوير قادم لا محالة
الناقد عبدالمنعم تلّيمة يقول: “لم يفشل مشروع التنوير العربي، بل تعثر لفترة لكنه قادر على التجاوز بما يمتلكه من أسس صحيحة وسليمة، فالفئة التي قادت حركة التنوير في مصر الحديثة في القرن العشرين آمنت بضرورة تحرير العقل واصطناع الأسلوب العلمي في نظر قضايا السياسة والاجتماع والتربية، فإذا كان أصحاب الخط العاطفي يؤيدون العاطفة الوطنية بالدين، فإن مفكري التنوير يفسدونها بالروح العقلاني، المتأثر بالغرب . وكانت نهضتنا الحديثة تمتاز بخصلتين أساسيتين هما خضوعهما لتيارين، يأتي أحدهما من أعماق التاريخ الإسلامي العربي منذ ظهور الإسلام إلى القرن التاسع عشر، ويأتي الآخر من وراء البحار، من حيث توجد البلدان الأوروبية التي تقدمت وسبقتنا إلى الرقي وازدهرت فيها العلوم والآداب .
تألقت الحياة العقلية من عناصر ثلاثة أولها عنصر الرجوع إلى القديم لإحياء ما يصلح الحياة منه وصوغه في الصياغة المعاصرة التي تلائم ما طرأ على العقول من تغيير وتلائم الظروف الجديدة التي تخالف تلك الظروف التي أحاطت بالقديم حين أنتجته الأجيال الماضية، والثاني الاتصال بالحياة العقلية المعاصرة في الحياة الأجنبية لاستخلاص ما يلائم مزاج الشعب منها، ولتغذية هذا المزاج بها، وتمكينه من أن يثبت وينمو ويصفو ويمضي في سبيله إلى الرقي غير متلكئ ولا متعرض للجمود، والثالث الإنتاج الخاص الذي يصور شخصيا وما يكونها من العواطف والأهواء والميول ومن الخواطر والأفكار والآراء، محتفظا في هذا كله بما لا بد من الاحتفاظ به من الخصائص الموروثة، ملائما بينه مع ذلك وبين ما يطرأ من حقائق التطور ومظاهره .
لكن البعض يرى أن التنويريين العرب اشتغلوا كثيرا على الفكر النظري دون وجود تطبيق عملي لأفكارهم في أرض الواقع هل تتفق مع هذا الرأي أم تختلف؟
– يجيب د . تلّيمة: حاول الإصلاحيون العرب في إطار المتاح لهم، تطبيق نظرياتهم على أرض الواقع، فالإصلاح الثقافي الشامل يهز “بنية القيم الموروثة” لدى الجماعة ويتصدى لعناصر التخلف بها بالنقد والتعديل والتقويم والتغيير لتنصب ناهضة قيم المواطنة والعمل المؤسسي والعمل العام، فالعمل الثقافي يهز بنية التجميد والمحافظة لتنهض في إطار من التجديد والابتكار والإبداع، هذه أفكار طرحها “التنويريون” لكننا في مصر على سبيل المثال نجد بلدا تمت إعاقته، حيث يملك إمكانات وثروات وكادرات سياسية وثقافية واقتصادية التي من الممكن أن تجعله في مكانه أعلى عالميا، وتؤهله لدور المشارك الفاعل في بناء العالم الجديد، بيد أن هذه الإمكانات والثروات نجدها بين مهدر ومبدد ومقيد، لذا نجد خلال الثلاثين عاما الماضية فشلاً ذريعاً في نهضة المؤسسات الحكومية، لذا أصبح من الضروري اللجوء إلى العقل، وهنا يكمن دور النخبة المثقفة بما تملكه من عقل تنويري وثقافة قادرة على التغيير، فالإصلاح الثقافي هو القاعدة لأي إصلاح شامل، فالإصلاح الثقافي هو الذي يصنع منهج التطور الديمقراطي، وهو الذي يحدد أسس بناء مؤسسات الدولة .
ويضيف د . تلّيمة: أنا من المؤمنين بوحدة التاريخ، فقانون التاريخ المصري يجعل مراحل هذا التاريخ تتفاعل متعاقبة بغير انقطاع، كما يجعل عناصر البنية الاجتماعية الثقافية المصرية تتفاعل على مما ينتج التعدد كوحدة لهذه البنية، فلا مستقبل للتنوير دون اللجوء إلى أفكار الماضي، وإعادة قراءتها وتفسيرها وفقا للخطة العصرية .
تجديد الفكر وفق مقتضيات اللحظة الثورية التي يعيشها المجتمع الآن . .كيف ترى ضرورته؟
يجيب تلّيمة: الثورة المصرية كانت حالة من النهوض من العثرة التاريخية التي وقعنا فيها بمجيء الإخوان المسلمين إلى الحكم، فما حدث في 30 يونيو 2013 كان تصفية لحكم الفرد المطلق، وتصفية لحكم الأيديولوجية المطلقة المتحمسة بالدين دون سند حقيقي، كل ذلك حدث من أجل استعادة العقل المصري لبناء مؤسسات عصرية في المستقبل، وتصفية الفكر المطلق لمصلحة التعددية والاختلاف، وعلى هذا فإن غاية نهوض النهضة المؤسسية والتعددية، هي أن تضع هذه الثورة الفريدة لها أساساً معرفياً جديداً يقوم على ثلاثية فكرية هي “النقل والعقل والعلم” أي في اتجاه قيادة العلم، فقد قامت الثورة المصرية كنتيجة طبيعية لتقدم وسائل الاتصال التي يستخدمها ملايين الشباب، وهنا لا بد من تفعيل دور المثقف ليتجاوز الغرف المغلقة، ليبدأ حواراً مجتمعياً عقلانيا بين أفكاره التي صاغها لسنوات طويلة وبين متطلبات الشارع في ما بعد الثورة .
فالدور الثقافي في الأساس، وفي تلك اللحظة الفارقة هو دور ريادي، نهضوي قائم على الممارسة لا الملامسة من الخارج، قائم على المشاركة لا الملاحظة والرصد، نحن في لحظة مكاشفة حقيقية، فإما أن نكون أو لا نكون .
د .حيدر إبراهيم: مشروع التنوير معزول فكرياً
نسأل المفكر والباحث السوداني د . حيدر إبراهيم علي . . هل فشل مشروع التنوير العربي؟
ويجيب: مشروع التنوير العربي كان نخبويا بالكامل، بالتالي كان معزولاً، لم يستطع أن يضرب بجذوره داخل المجتمع، كان يتطلب أن يكون شعبياً بحاجة إلى ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية، وبالتالي ظل يدور في دائرة ضيقة من المثقفين .
لذلك كان من الطبيعي أن يفشل، وأصبح فكرة معزولة، وأتساءل لماذا لم يجعل المثقفون العرب من قضية التنوير قضية جماهيرية، البعض حاول تطبيق فكرة الاشتراكية، لكن لم يقترب من الفكرة في جوهرها، فكرة التحديث والتقدم المادي كانت معزولة عن التقدم العقلي بداية من محمد علي الذي كان يرسل مجموعة لتعلم العلوم الصناعية، لكنه لم يرسل أحدا لتعلم الفلسفة، لذلك فشل المشروع المادي، لأنه حاول أن يفصله من العقل . وأقول إنه لا توجد نظرة مستقبلية للتنوير، ولم يكوّن تيار ومجالس قوية يستطيع أن يكون لديها تأثير، وهي نقطة مهمة لا بد أن تناقشها، هناك نوع من الفردية، ليس هناك سيمفونية متكاملة .
لم يتكون تيار تنويري، كذلك كان التنويريون متمسكين بالتأصيل، يعتبرون أن الماضي حدث فيه قطع تاريخي وهم يحاولون وصل هذا القطع، وهذا يدخل بنا في موضوع الهوية الثقافية، فهم يريدون أن يؤكدوا أننا مجتمعات لديها تاريخ فيعودون إلى فكر المعتزلة، يريدون أن يثبتوا أنهم ليسوا أقل من الغرب، لذلك معظم رواد التنوير كانوا يريدون أن ينافسوا الغرب، ولكن بلا نظرة مستقبلية، لذلك مستقبلنا خلفنا، نحاول إعادة فترات من التاريخ .
لكن هل يمكن أن نطلق على ذلك تنوير أصولي؟ . . يقول د . إبراهيم: نعم فهو دائماً يسعى إلى القديم لصناعة الجديد، لا توجد لديه روح المغامرة، هناك تراجع للمغامرة على أكثر من مستوى، أغلب الأسماء التنويرية عملت نوعاً من التراجعات والمراجعات، طه حسين أعاد طبع الشعر الجاهلي أنكر كثيراً من الأشياء التي قالها في الطبعة الأولى، زكي نجيب محمود أصبح في نهاية حياته تراثياً، حتى الأشياء التي ظهرت لطه حسين مثل “على هامش السيرة”، كانت إثباتاً منه للتيار المحافظ أنه ليس خارجاً عن فكرتهم، وهذا يؤكد التنوير الأصولي .
– العنف مظهر بارز لغياب العقلانية، عندما أظن أنني امتلك حقيقة مطلقة، ينتشر العنف، غياب الديمقراطية بمعناها الواسع الشامل وكنظرة للكون والعالم وكموقف للحياة يتم اختزالها في مسألة التداول السلمي للسلطة، مع أن الديمقراطية هي القدرة على الاختلاف، وهي مسألة غير موجودة في الواقع العربي، القدرة على الاختيار مع غيابها لن يكون هناك مكان للعقلانية . الشخص الذي ينتهج العنف لا يعترف بكونه عنيفاً، هو إنسان عنيف لكي يثبت للطرف الآخر قوته، القوة ليست في العضلات، وإنما في العقيدة والمنطق .
ويضيف د . إبراهيم: كلمة المثقف بالمعنى الدقيق صار مشككاً فيها الآن، المثقف الحقيقي هو ضمير أمته رغم مثالية الصورة، فلا بد أن تكون معرفة المثقف خادمة لنفسه ولمحيطه الاجتماعي، لا بد أن تكون لهذه المعرفة رؤية واضحة للإصلاح .
كلمة مثقف مرتبطة بالالتزام والمسؤولية، وبالتالي أعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك مثقف حقيقي أناني، للأسف الآن هناك مثقفون عندهم نوع من النرجسية والأنانية .
مناهج التعليم تقوم بمهام واضحة للتخليف، بمعنى أن هناك أطرافاً لها مصالح لوجود التخلف، فالمناهج عندنا لا تساعد على العقل وتعتمد على الحفظ والتلقين، وهذا يقتل فكرة الابتكار عند الطفل وهو مولود بها، لذلك فبعض المربين التقدميين يقولون إن الطفل يولد ذكيا حتى يلتحق بالمدرسة .
تقوم المدرسة بعملية ترسيخ لما هو موجود في الواقع، هو نوع من التنميط، وهذا ضد الابتكار، وهذا لا يوجد غياباً لفكرة الفردية والخصوصية، وهذا يلغي فكرة الخيال، المراحل التالية تدخل الطالب في حالة من التنافس، ما يلغي الفكرة الاجتماعية، فتفوقك لا بد أن يقوم على هزيمة الآخرين .
وحين يدخل الطالب الجامعة يرى التعليم اللحظي الذي ينتهي بانتهاء الامتحان .
__________
*(الخليج الثقافي)