الأسلـوب هو ترك الأسـاليب


*أبو بكر العيادي

من القضايا التي تثار بين الحين والحين في الساحة الأدبية الفرنسية قضية الأسلوب، وقد صدرت في الآونة الأخيرة جملة من الكتب تتناول مرة أخرى هذا المفهوم الذي لا يقرّ للأدباء قرار حوله، مثل “الأسلوب بوصفه تجربة” لبيار برغونيو، و”حلم الأسلوب التام” لجيل فيليب، و”أدراج ميشيل هولبيك” لبرونو فيار.

الفرنسيون على اختلاف مشاربهم يعتبرون فلوبير وبروست مثالين للأسلوب الرفيع المتفرد، فكلاهما كان يحتفي باللغة وبنيتها الصرفية وإيقاعها الداخلي، وإن كانا يختلفان قليلا في النظر إلى الأسلوب، ففلوبير يرى ألا وجود في الأدب لنوايا طيبة، وأن الأسلوب هو كل شيء، فيما يرى بروست أن الأسلوب ليس مسألة تقنية بل هو رؤية. وبرغم المكانة التي يوليها الكتاب الفرنسيون لصاحبي “مدام بوفاري” و”في البحث عن الزمن الضائع”، فإنهم لا يذهبون مذهبهما، فستندال مثلا يقول: “أفضل أسلوب هو الذي يفرض نسيانه”.
(أي الذي لا يلفت الانتباه)، وجول رونار يعتبر أن الأسلوب هو ترك كل الأساليب. أما جان كوكتو فيتساءل: “ما الأسلوب؟” ويجيب: “هو في نظر الكثيرين طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة. وفي نظرنا نحن، هو كيفية بسيطة جدا لقول أشياء معقدة”.
و”نحن” هذه تعود على الفريق الذي تمرد على القواعد الصارمة، مثل غي دومَباسان وأناتول فرانس ورأى أن الأسلوب ليس نظرية بقدر ما هو مراس وحساسية لمقاربة الواقع. وهو ما درجت عليه مختلف التيارات الأدبية التي شهدتها فرنسا منذ القرن التاسع عشر إلى الآن كالعبثية والمستقبلية والسريالية والدادائية والموضوعية وجماعة “تيل كيل” والرواية الجديدة ورواية السيرذاتية… وأغلبها تَمثّل رأي الكونت دو بوفون (1788 – 1707) أول من حاول تعريف الأسلوب في خطبة انضمامه إلى الأكاديمية الفرنسية عام 1753 حيث قال : “ليس الأسلوب سوى النظام والحركة اللذين يضعهما الكاتب في أفكاره.
إذا شددناهما شدا وثيقا، وضغطناهما، صار الأسلوب متينا، متوترا، موجزا. وإذا تركناهما يتعاقبان ببطء دون أن يلحق أحدهما بالآخر إلا بفضل الكلمات، ولو كانت بديعة، صار الأسلوب مشوشا، رخوا، وبطيئا”.
فقد سعى بعضهم إلى تملك أسلوب متفرد، متمثلا قولة زولا : “الرجل هو الأسلوب”، فيما ترك الآخرون الأمر للسليقة، وحذروا من التكلف، لأنه ينفر الناشر والقارئ. وهذه مثلا مارغريت دوراس تقول إن رواياتها المكتوبة بامتياز رفضها الناشرون، وتذكر أن ريمون كينو قال لها مرة : “ينبغي الاحتياط من الروايات، فالرواية ذات الكتابة الممتازة تنفر القراء”. وهو ما نبه إليه بوفون حيث قال : “لا شيء يعارض الجمال الطبيعي كالجهد الذي نبذله للتعبير عن أشياء عادية أو مألوفة بكيفية مفخّمة، متصنّعة. فليس ثمة ما يحط من قدر الكاتب مثل ذلك.
ونحن نشفق عليه بدل أن نعجب به، نظرا للوقت الذي قضّاه في ابتكار تشكيلات جديدة للمقاطع والكلمات ليقول في النهاية ما يقوله كل الناس”.
أما ألبير كامو فقد نهج نهجا جعل الأولوية فيه للأفكار، حيث جاءت أعماله مثل “الطاعون” و”الغريب” تشكيلا حيّا لفلسفته في الحياة، وصاغها وفق ما سماه رولان بارت “أسلوب الغياب”، أو “الكتابة البيضاء” كما وصفها النقاد، أي غياب مقصود للأسلوب.
وحاول كثيرون تقليده، أو السير على خطاه، ولكن “ما كل من كّور العمامة بعلاّمة” كما يقول مثلنا العربي، فباستثناء بعض الآثار القيمة لأعلام كبار مثل لوكليزيو وفرنسوا نوريسييه وجان دورمسون وبول كينيار، تراجع الأدب الفرنسي منذ ستينات القرن الماضي، وافتقرت لغة الرواية، وصارت غاية الكتاب صياغة رواية متماسكة البناء لا محالة، ولكنها تفتقر إلى الروح فضلا عن الأسلوب المتفرد، فالنحو مبسط، والبنية الصرفية ضعيفة، واللغة أقرب إلى الخطاب الذي يتوسل به الإعلاميون، وحتى الخطاب العادي.
وقد فسر النقاد ذلك بأن “ما بعد الحداثة الروائية” تميل إلى نسج حكاية التنوع التي تشكلها الخطابات السائدة، وهو ما لم يعد يسمح بانتهاج لغة ذاتية في كامل العمل الفني.
هذا الرأي يجد صداه لدى ميشال هولبيك المتوج بجائزة غونكور للعام 2011، فهو يركز في كتاباته على النقيضة والتضاد والمفارقة، ويعدد مختلف أوجه النظر من المتداول في المعيش اليومي إلى العلوم بأنواعها كعلم الأحياء وعلم الاجتماع والماورائيات. وتلك علامة لديه مميزة، ولكنها لا ترقى إلى مستوى أساليب سابقيه، وحتى إلى “الأسلوب” كما تواضع عليه أعلام الفن الروائي من قبله.
يقول هولبيك : “كثير من الكتاب هم ضحايا فكرة شائعة، للأسف، مفادها أن الأسلوب يكمن في تصرف الكاتب في اللغة بكيفية خاصة به وحده”. وفي رأيه أنه من الطبيعي أن يكون للكاتب الواحد أساليب متعددة.
والنتيجة أن أساليب الرواية في فرنسا في عمومها ظلت منذ الستينات تتأرجح بين ما هو “مكتوب بشكل يفوق الحدّ” trop écrit، يثير استنكاف القراء – إذا قدّر له أن ينشر – وما هو “مكتوب بشكل رديء” mal écrit لا يبقى أثره.
يقول الناقد جيل فيليب : “عندما يحين وقت الفرز والنظر إلى الوراء، سيكون من مهمة المؤرخين أن يشرحوا لماذا لم تعد مسألة “الأسلوب” القديمة ضد “الأساليب” تثير اهتمامنا، وفي الأقل لماذا لم تعد تهيكل مخيالنا، أو أي صياغة جديدة تتلقاها اليوم تلك المسألة”.
_______
*(العرب)

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *