*فاطمة ناعوت
“لونُ الفراشة/ يشبه صوتَ فيروزَ/ حين تنادي “عاقدَ الحاجبيْن”/ الذي عيناه البُنيّتان تسرقان ضوءَ الشمسْ/ حين تحنو على العاشقيْن في الغسق/ تحت الصفصافةِ المشقوقة./
مَرِّنْ يمناكَ/ على تحريكِ الملعقةِ في الفنجان/ دون سكب القهوة/ ومَرّنْ أصابعك/ على مصافحةِ الفراشات بحنوٍّ/ من دون أن تكسرَ رُسغَها./
تعلَّمْ أن تقرأَ الحزنَ في عينيها/ واحذرْ وعيدَ الفراشات/ فللفراشةِ قانونٌ لا يخلو من مُرٍّ/ حتى وإنْ رفلتْ في الألوانْ.”
ها هي أجواء سبتمبر تملأ أنوفنا بنسائم الخريف الطيبة. أنا خريفيةُ المولد والهوى. ولِدت في هذا الفصل الغامض، الذي ظلمته البشريةُ، وأحبُّه. بل أراه أجملَ الفصول بما يحمل في حقيبته من ألغاز وأسرار انتزعها من الفصل السابق، ويخبّئها للفصل التالي، تحت أوراق الشجر الصفراء التي تتساقط تحت أقدام الشجر، فتكسو الأرضَ السوداء ببُساط من الذهب.
الخريفُ الكهل، ارتبط في ذكرياتنا بلحظات ترقّب العام الدراسيّ الجديد، والاستعداد للمدرسة بالحقائب الجديدة، والأحذية اللامعة، والكرافات، والقميص الأبيض، والتايور الكحلي، والمناديل البيضاء المطرّزة بالزهور الملونة والمكوية بعناية، وشرائط الشعر من الساتان الأبيض، لزوم الضفائر التي تعقصُها الأمهاتُ بقوة، فتؤلمُ البنات. ثم دقائقُ من البهجة والشغف، تشبه الأغنية، نقضيها مع الأمهات في المكتبات لنشتري الكراسات الجديدة وألوان الجلاد البراقة والأستيكة والمسطرة والمبراة والبرجل والمنقلة والمقلمة ذات الأدراج الصغيرة والأبواب الدوّارة. كلما كبرنا عامًا، يزداد عدد الأوراق في الكراسات، حتى إذا تضخمت جدًّا وصارت “كشكولا”، نعرفُ أننا صِرنا كبارًا، فيزداد اعتدادُنا بأنفسنا وتعالينا على مَن هم أصغر منّا. إذا وصل الرقم المكتوب خلف الدفتر، (150 – 200 ورقة) نوقنُ أننا بلغنا الجبال طولا.
ثم أغنية الراديو “بالسلامة يا حبيبي بالسلامة”، حين نسمعها، نعلم أن علينا ان نخطف أكياس الساندوتشات من أمهاتنا، ونفتح الباب ونركض على السُّلم، لأن الباص ينتظر. لم أعرف أبدًّا حتى الآن، مَن المطربة التي تُغني الأغنية. ولم أسع لمعرفة اسمها، وماذا تعني الأسماء؟! كأن تلك الأغنية نزلت من السماء من أجل أطفال المدارس، بصوتها ولحنها وكلماتها، فليس مُهمًّا مَن كتبها، ومَن لحّنها، ومَن غنّاها.
لكن المدرسة بالنسبة لي لم تكن الكراسات والدروس والحساب والعربي، وفقط. هناك أمران أهمُّ وأخطر. التسللُ، في شهر أبريل، لحديقة المدرسة الخلفية، وتسلّق شجرة التوت العتيقة لقطف ورق التوت لكي أطعم دود القز الذي أربيه في صندوق من الكارتون مثقوب غطاؤه. ثم صيد الفراشات. وقتها لم أكن قد “ربّيت” نفسي بعد على أن كلَّ روح خلقها الله حرامٌ إزهاقُها. الآن أتبع تعاليم زرادشت التي تنادي بعدم قتل “أيّ” كائن حي، ولو كان حشرة صغيرة. لكن وأنا طفلة صغيرة في مدرستي الابتدائية، كنتُ أختبئ بين زهور الحديقة لأصطاد الفراشات، أخبئّها في إحدى الكراسات، ريثما أعود للبيت؛ ثم أُصبّرُها في ألبوم خاص. لم أشعر بآلامها إلا حينما فكّرتُ مرّةً: ماذا لو خلقني اللهُ فراشةً يصطادُها الصغارُ الأشرار، ليدفنوها في ألبوماتهم؟! وكتبتُ هذه القصيدة؛ ربما كلونٍ من التكفير عن جُرم “صيد الفراشات”.
الفراشةُ لا تغضب/ إذا طاردَها الأطفالُ/ وألقوا حول جناحيها شِباكًا/ معقودةً في أطراف عُصِيّ.
ترمقُهم بنظرةٍ شَفوقٍ/ ثم تُلقي عليهم/ ظلالاً من الألوان/ وابتسامةً حزينة/ ثم تمضي/ نحو الزهور.
الفراشةُ تعرفُ/ أن جمالَها/ أكبر من قدرةِ الأطفال/ على تحمُّل البهاء/ وتعرفُ/ أن كراريسَ الأطفال.
تتوقُ إلى حبس ألوانها/ بين أوراق الصغار./ الصغارُ/ – آنذاك-/ يظنون أنهم كبارٌ/ لأنهم يسجنون اللونَ/ بين السطور السوداء/ المشخبطة بأقلام الرصاص./ يفرحون/ ويركضون إلى أمهاتهم/ ليكسرن أكوابَ الحليب./ فالكبارُ/ لا يشربون اللبن.”
_______
المقدمة من قصيدة “قطعة سكر واحدة”- ديوان “هيكل الزهر” لـ فاطمة ناعوت. دار “النهضة العربية” 2007
وقصيدة “الفراشة” من قصائدها الجديدة التي لم تُنشر بعد.
______
عن مجلة (نصف الدنيا)