سقوط الشعر في فناء «الثورات العربية»



*فواز الشروقي

روى لي الشاعر والمؤرخ البحريني الراحل مبارك الخاطر أن البحرين شهدت في خمسينات القرن الماضي أزمة في استيراد اللحوم.. وفي هذه الأثناء، قام التجار ببيع لحوم رديئة وبأسعار مرتفعة، مما دفعه إلى كتابة قصيدة ساخرة حول هذا الموضوع نشرت في صحافة البحرين آنذاك، وسرعان ما تناقلها الناس وحفظوها عن ظهر قلب. وتفاجأ الخاطر حين زار السوق المركزية بالمنامة ورأى أن جميع التجار في السوق يرفضون بيعه أي قطعة من اللحم بسبب هذه القصيدة الساخرة.

هذه الحادثة وقعت أيام كان الناس يقرأون الشعر العربي الفصيح ويتأثرون به ويتفاعلون معه، وأيام كان الشعر يعبر عن الواقع المعيش و«يحمل المصباح من بيت إلى بيت»، كما يقول محمود درويش. أما اليوم، فلا أظن أن الشعر العربي يقوم بهذا الدور، أو يكون له مثل هذا التأثير. لقد كان مبارك الخاطر حينها يشتكي من مقاطعة تجار اللحوم له بسبب قصيدته. ولو عاش بيننا اليوم فإنه سيشتكي من نشره قصيدة لم يتأثر بها أي أحد.
الأمر ذاته ينطبق على الشاعر الكويتي الراحل فهد العسكر، فقد كان الناس يتناقلون قصائده فيما بينهم في أربعينات وخمسينات القرن الماضي ويتأثرون بها. ولقد كان شعره معبرا عن ثورته على الأفكار البالية وانتقاده الركود والرجعية، ومثلما شغل الناس في حياته، فقد شغل الناس في موته في عام 1951، بعد أن رفض أهله أن يصلوا عليه صلاة الجنازة بسبب اتهامه بالزندقة، وقاموا بإحراق جميع قصائده المكتوبة. أما لو كان فهد العسكر اليوم بيننا، فهل كان سيترك مثل هذا الأثر في ظل انصراف الناس عن الشعر العربي؟ وهل يكون لموته مثل هذا الصخب؟
لا أظن أن شاعرا أثار صخبا في البلدان العربية مثلما أثاره نزار قباني. فهو الذي قلب كل الموازين وتمرد على جميع الأشكال الشعرية والأوزان والتعابير والتراكيب، وكتب في موضوعات الحب والسياسة من دون تحفظ، وأثار رجال الدين حين نشر في عام 1955 قصيدته «خبز وحشيش وقمر»، حتى طلب أعضاء البرلمان السوري وقتها من المتدينين والمتحفظين منعه من التمثيل الدبلوماسي لسوريا. وحين نشر قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» في أعقاب هزيمة 1967، ثارت ثائرة المثقفين وطالبوا بوقف بث قصائده المغناة على القنوات والإذاعات العربية، ونجحوا في ذلك. فهل كان نزار قباني آخر الشعراء المؤثرين؟
ربما نحن نستعد اليوم للإعلان عن وفاة الشعر العربي الفصيح، بعد أن أخفينا وفاته عن العامة لسنوات طوال. فلم يعد لنا أن نخفي هذا الأمر أكثر من ذلك، بعد مرور عامين على ما يسمى مجازا الثورات العربية وما جرته على بلداننا العربية من مصائب ومصاعب من دون أن نقرأ قصيدة عربية واحدة مؤثرة، يحفظها العرب وتتناقلها الألسن وتثير ضجة مثلما أثارت قصائد كثيرة ضجة كبرى في منعرجات تاريخية أقل حدة من المنعرج الذي تمر فيه بلداننا العربية.
لقد خلفت «الثورة السورية» ما يزيد على مائة ألف قتيل، وفتحت «الثورتان المصريتان» الأبواب على مصائر مجهولة، وما زال شبح الانقسام يهدد ليبيا، وغول الإفلاس يهدد تونس، واليمن السعيد يخشى العودة إلى يمنين غير سعيدين، ولم نجد في خضم هذا المنعرج التاريخي الهائل من شاعر واحد يعبر عن حال العربي المنذهل مما يحدث.
حضرت أخيرا عددا من الأمسيات الشعرية في البحرين وخارجها، ولم أجد فيها من الحضور غير «النخبة الثقافية»، فالعامة منصرفون كليا عن حضور أمسيات الشعراء، ولم يعودوا يحفظون أسماءهم. أصبح الشعراء ينتقون أصغر القاعات لتبدو مكتظة بالجمهور القليل المهتم هذه الأيام بالشعر. الشاعر يقف على المنصة ويلقي الشعر ويختم قصيدته من دون أن يعلم الجمهور أنه أنهاها. الحضور لا يصفقون للشعر مثلما كانوا يصفقون في السابق. ربما العرب لم يعودوا يحتملون رمزية شعراء اليوم وإغراقهم في الغموض وفي التهويمات حتى أصبح الشعر العربي اليوم كالطلاسم. أو ربما أصبح العرب لا يفهمون لغتهم في خضم انشغالهم باللغات الأخرى. وصار العربي، المتهم بانصرافه عن القراءة، يفضل قراءة رواية من أربعمائة صفحة على أن يقرأ قصيدة من عشرة أسطر.
الملاحق الثقافية في صحفنا صارت تنشر الشعر كجزء من ديكورها. لم يعد الناس يحتفظون بقصاصات الشعر كما كانوا سابقا، ولم يعد أحد يحفظ الأبيات ويستشهد بها في المواقف. وأصبحت هذه الملاحق تفرد الدراسات النقدية على القصائد كجزء من العلاقات العامة، وليس لأن القصائد تستحق الدراسة والتحليل.
وبعد أن تنتهي «الثورات العربية» وتداعياتها، ولا أظنها ستنتهي قريبا، وبعد أن ينجلي الغبار ونجلس لنحصي خسائرنا الفادحة بسببها، فإننا سنذكر خسارة الشعر إلى جانب الخسائر الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. لقد سقط الشعر العربي سقوطا مدويا في «الثورات العربية»، أو ربما سقط سقطته الأخيرة في فناء الثورات، فما عاد هناك من شعر مؤثر يقرأه الناس ويتأثرون به ويتفاعلون معه، إذ أصبح الشعر مجرد كلام يشبه طلاسم المشعوذين.
_________
* كاتب بحريني(الشرق الأوسط)

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *