التغير نحو الأسوأ والأخطر: جرثومة التضاد مع الآخر


د. رزان إبراهيم *

( ثقافات )


” كيف نفسر ما يحدث الآن من دماء ودمار بعد كل هذه المشاريع الثقافية والعناوين الحضارية, منذ الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده حتى اليوم؟؟” علي حرب
سؤال يتردد في كتاب ( تواطؤ الأضداد) الذي يبحث فيه صاحبه عن إجابة مقنعة تفسر افتتاحاً مؤلماً للقرن الواحد والعشرين, يعيدنا القهقرى بعد دعوات متلاحقة للنهوض والاستنارة والتحديث والتقدم. ويبدو لي أن علي حرب لم يكن مبالغاً حين وصف الوضع العربي بأنه بائس, مثير للحزن والمرارة, بل إن الأمر بعد أكثر من خمس سنوات على كتابه الآنف الذكر, بات أكثر ضراوة وإثارة للخوف والفزع. 
كل من يراقب المشهد العربي بمشاهد دامية تجري هنا وهناك, يدرك للأسف أننا سائرون نحو الأسوأ. وهو أمر لم يظهر على نحو فجائي, بل هو بالتأكيد حصيلة كم من المشكلات التي تراكمت عبر الأيام. والمؤسف حقاً أن المشهد الأكثر ضراوة مصدره فتن مذهبية كانت وما زالت تُشعل أتون الحروب والكراهية فينا, وتجعل منطق الصدام هو الذي يحكمنا.
يكفيك أن تنفتح على مواقع إليكترونية بعينها, لترى كم الحقد والكراهية ورفض الآخر الذي يحفر في النفوس, لتتحول هذه المواقع إلى سبل نهش وتنفيس لأحقاد ما فتئت تأكل الأخضر واليابس. يكفيك أن تراقب بعض البرامج الحوارية على شاشة التلفزيون, لتدرك أنك قبالة متحاورين متحاربين يتشبث الواحد منهم برأيه, ولا يتحرك قيد أنملة عما هو مترسخ في ذهنه. بينما أصل الحوار هو ( اعتراف كل واحد بمسؤوليته عن أزمة أسهم في صنعها على سبيل النقد والمراجعة). وإلا بقينا غارقين في الدماء والأحقاد والحرائق والخرائب. 
لفتني على نحو خاص حديث في الكتاب الآنف الذكرعن صور نمطية يصنعها الواحد للآخر بغرض إلغاء إنسانيته, وتشريع قتله بدم بارد, متوسلاً في ذلك جملة من الثوابت الوهمية, تهيئ الآخر كي يصبح النقيض الأبشع لذات ضيقة لا ترى إلا نفسها. وهو ما يجسد بلا هوادة استراتيجية رفض متبادل بين الجماعات على أسس متفاوتة؛ بعضها ديني وبعضها الآخر قومي أو حضاري. وفي كثير من الأحيان يعكس هذا الرفض حالة جهل متبادل بين الأنا والآخر. ومن هنا يبادر كل طرف بإعمال كل أشكال التبخيس والتشنيع بالآخر, فينعته بأقبح النعوت أقلها العمالة والخيانة والرذيلة أو التخلف والهمجية. وهو أمر وقعت فيه كل الأطراف بما في ذلك أطراف منتسبة إلى النخب الحداثية, بمختلف تياراتها اليسارية والليبرالية التي تعاملت بمنطق إلغاء آخراعتادت على التصدي له من منطلق ما يحمله من فكر أحادي, لتشهد الأيام بعدها أنها تمارس المنطق الدوغمائي ذاته. والنتيجة فشل ذريع في الأداء, لازمته هشاشة فكرية أفقدت الغالبية منهم قدراً كبيراً من المصداقية.
وما يزيد الطين بلة ونحن نشهد حرباً باتت تأكل الأخضر واليابس, أن الواحد منا بات يرى تواطؤاً مفضوحاً مع أعداء يجري الادعاء على محاربتهم في الظاهر. بينما يتم التنسيق والتآمر معهم وراء الأبواب المغلقة. وهم من يجدون نخباً ثقافية لا تجد غضاضة في تأليههم وتقديمهم أبطالاً في وطن يتآمرون عليه, ويقدمونه لقمة سائغة لمن شاء أن يشتري. 
ويبقى السؤال مفتوحاً عن جدوى مؤتمرات وبيانات تعقد للتقريب بين المذاهب والطوائف, لنجد أنفسنا بعد ذلك واقعين في انحرافات فكرية وشعورية ناجمة عن وهم الذات, عاجزين عن تحرير أنفسنا, أو حتى التعرف على الآخر المختلف بعقلية المنفتح الذي لا يرى في الاختلاف نقمة, بل رحمة وفرصة لإغناء الحياة البشرية وبث الحيوية فيها, بدلاً من تشويه وكراهية متعمدين ينجم عنهما الآتي: ( تدمير الذات والآخر معاً) والمشهد الحاضر أكبر دليل على ذلك.

* كاتبة وأكاديمية من الأردن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *