*أمجد ناصر
انقسمت بيروت في الحرب الأهلية قسمين: شرقية وغربية، في “الشرقية” كانت السيطرة للقوى “الانعزالية”، فيما تسيطر “القوى الوطنية” على “الغربية”. دينيا كانت “الشرقية” مسيحية بالكامل، فيما كانت هناك أغلبية مسلمة في “الغربية” مع وجود أعداد ملحوظة من المسيحيين لم يستجيبوا، لسبب أو لآخر، لمعادلة اللبناني-الغريب.
لم يقع الانقسام، على أساس الهوية الدينية، في سائر أنحاء لبنان، فمن المستحيل فصل القرى والبلدات المتداخلة بعضها عن بعض على أساس ديني. كما أن الحرب في نظر الطرف الأقوى والأكثر سيطرة على الوضع اللبناني (المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية) لم تكن دينية.
فعلى رأس اثنتين من المنظمات الفلسطينية كان هناك قائدان يتحدران من عائلات مسيحية، هما جورج حبش ونايف حواتمة، فضلا عن وجود قادة من خلفيات مسيحية في الحركة الوطنية اللبنانية أبرزهم جورج حاوي وإنعام رعد.
انقسمت بيروت إلى قسمين، كان هناك فاصل بين البيروتين يسمى “خط التماس”، لكنه كان فاصلا وهميا، منطقة مهجورة بين البيروتين. لم يقم أحد ببناء جدار، لم يفكر أحد أصلا بفاصل من هذا النوع. كان المواطنون يتحركون بين الشطرين من خلال معابر، لم تكن الحركة طبيعية تماما، غير أن الحركة ظلت موجودة حتى أثناء الحصار الإسرائيلي. كان هناك بعض الخجل عند الذين يرغبون بالفصل والانعزال التامين.
حدث ذلك قبل أن يعصف النظام السوري بالحركة الوطنية اللبنانية ويحجّم مقاومتها في جنوب لبنان من خلال دعم وإسناد نموذج مقاوم من طراز مختلف يقوم هذه المرة، على اللحمة الطائفية (الصفاء الطائفي الكامل). انتهى، كما نعلم، زمن الحركة الوطنية اللبنانية ليبدأ زمن الطوائف التي بنت بين بعضها جدرانا أكثر بؤسا من الحجر أو الإسمنت.
الجدار ليس فعل حماية فقط، بل هو في الوقت نفسه، فعل عزل يقوم على وضع حد وفاصل، مرة بين الحضارة والبربرية، ومرة باسم الدفاع عن النفس.
سور الصين العظيم أنشئ لوضع حد لهجمات قبائل الهون البدوية، تعاقب أباطرة على بنائه، لكنه لم يقض على التهديدات التي كانت تأتيهم من السهوب الشمالية، 6700 كلم لم تقم بالغرض المنوط بها. ها هو السور اليوم مجرد أثر معماري نفذه أكثر من 300 ألف عامل صيني، لا أحد يعلم كم عدد الذين قضوا نحبهم وهم يشيدون أكبر جدار فصل في تاريخ البشرية.
وبعيدا في الجغرافيا ولكن ليس بعيدا في الفكرة أقيم جدار “هدريان” في بريطانيا الرومانية قبل نحو 122 عاما من الميلاد، ليفصل كذلك بين “الرومان” و”البرابرة” (قبائل الشمال البريطاني)، وقد تكون من المصادفات أن آخر توسعة لهذا الجدار تمت على يد الحاكم العسكري الروماني في بريطانيا -الليبي الأصل- سبتموس سفيريس الذي أصبح إمبراطورا في ما بعد وأنشأ مع زوجته -السورية- جوليا دومنا سلالة حكمت روما لأمد قصير.
أما أغرب جدران العزل فهو الذي فكر نظام مبارك بإقامته على الحدود مع قطاع غزة. لا أظن أن هناك غرضا أيديولوجيا من وراء فكرة “الجدار المصري”، فلا أعتقد أن لدى المصريين فكرة عنصرية تجاه الفلسطينيين، رغم الأصوات “الفلولية” التي تنعق الآن على هذا الصعيد.
فهو لن يكون، على غرار الجدران التي استعرضنا بعضها آنفا، جدارا يفصل بين الحضارة والبربرية، ولا جدارا يعزل “الأخيار” عن “الأشرار”. إنه جدار سياسي أمني. وقد يكون السبب من وراء التفكير فيه، بل والبدء في إنشائه أيام “المخلوع”، مجرد فزاعة لدفع “حماس”، التي تبسط سلطتها على “القطاع”، إلى إبداء مرونة أكثر حيال مبادرات القاهرة المنسقة إسرائيليا وأميركيا. ولمزيد من دب الرعب في أوصال الحركة الإسلامية سمي الجدار فولاذيا. قامت الثورة وأسقطت فكرة الجدار.. حتى الآن على الأقل.
وفي بغداد حاول المحتلون الأميركيون أن يفصلوا أحياء بغداد بعضها عن بعض، على أساس طائفي-أمني. لكن “السنّة” و”الشيعة”، رغم النفخ المتواصل في كير الفتنة الطائفية بينهما، لا ينطويان على فكرة عنصرية بعضهم حيال بعض. ولم ترتق التباينات بينهما إلى حد تشكل هويتين متصادمتين، لذلك لم يكتب لتلك المربعات الخرسانية المتحركة أن تفصل فعلا بين البغداديين بيد أنها استثارت الاستجابة نفسها التي تفرضها فكرة الجدار العازل على محيطها.
فقد قام رسامون عراقيون بتحويل كتل الخرسانة الضخمة إلى جدارية لفضاء أوسع، فالرسم على جدران من هذا النوع هو، على نحو أو آخر، هدم له. فأن ترسم على جدار كهذا يعني أنك تغير شكله ووظيفته وتحوله إلى كراسة احتجاج.
وهذا يقودنا، أخيرا، الى آخر جدار فصل عنصري في العالم هو “الجدار الإسرائيلي” الذي يتلوى كأفعى سامة بين حقول الفلسطينيين وبيوتهم فاصلا أخا عن أخ وأبا عن ابن. هناك، عدا الدواعي الأمنية، جذر أيديولوجي ونفسي مؤسس لفكرة العزل والانعزال عند اليهودي.
إنها، بوعي أو من دون وعي، ابنة “الاصطفاء” و”الاختيار” (شعب الله المختار)، كما أنها ابنة “الغيتو” الأوروبي الذي عاش فيه اليهود طويلا. ففي زمن لم تعد الجدران تحمي دولا يقيم الإسرائيليون جدارا لدواع “أمنية”، والحال أن تطور الأسلحة وتغير أدوات القتال تجعل فكرة الجدار مضحكة، (طبعا ليس للفلسطينيين حاليا الممنوعين من التسلح بمقتضى اتفاقية أوسلو سيئة الصيت)، فليس هناك، اليوم، جدران تفصل بين الدول بعضها عن بعض.
صحيح أن هناك حدودا قد تكون مسيجة، ولكن تلك الأسيجة لا تقف عائقا أمام من يملك دافعا قويا لاجتيازها، وهي في كل حال لا ترتقي رمزيا إلى ما يمثله الجدار الفاصل سواء في غابر الأزمنة أم في الحالة الإسرائيلية الراهنة.
وبصرف النظر عن جدارة الجدار في تحقيق الأمن لاسرائيل أم العكس فإنه شكل هدفا لعدد من المناهضين للعنصرية كي يحتجوا ضده (لا يزالون يفعلون)، كما شكل نقطة جذب مغرية للفنانين الذين يحترفون الرسم على الجدران (غرافيتي) كالفنان البريطاني المعروف باسمه المستعار “بانكسي”.
لقد حول “بانكسي”، وغيره من الفنانين الأجانب والفلسطينيين جدار الفصل العنصري إلى جدارية للاحتجاج ومعرض لدعاوى “السلام”. ومن رسمة لـ”بانكسي” استوحى، على الأغلب، الفنان الفلسطيني خالد جرار معرضه المقام هذه الأيام في لندن.
في واحدة من لوحات “بانكسي” نرى ثغرة في الجدار الإسرائيلي تظهر بعضا مما يختفي خلفه، وهذا بالضبط ما فعله الفنان الفلسطيني جرار الذي أعاد بناء جانب من الجدار الإسرائيلي في أحد غالريهات لندن بإسمنت مجلوب من الجدار نفسه.
فكرة الفنان الفلسطيني التي أخذت عنوان “ثقب في الجدار” ذكية، إذ قام ببناء مجسم مصغر للجدار في وسط القاعة يعبر من خلاله الزوار بصعوبة إلى مشاهدة نماذج صنعها جرار من مواد الجدار نفسه. هذا الإحساس بالضيق الذي يعكسه عبور شق في جدار فعلي محاولة لتقريب ما يعانيه الفلسطينيون من آخر جدار للفصل العنصري في العالم.
______
* شاعر من الأردن (الجزيرة)