أن يتقدّم العمر بكاتبة


* توي ديريكوتي /ترجمة: أحمد شافعي

كيف يكون ذلك؟ لو لم تكن أنت نفسك كاتبة، فلا يمكن أن أصدق أنك مهتم. ما الذي يجعلك تهتم بالقراءة عن مصاعب تحسب أنك لن تمر بها ما حييت؟ آلام الرقبة، آلام الركبة، آلام الفخذ. أنا نفسي لم أقدر على الاعتراف بذلك حتى اليوم، وأنا في العيادة، والطبيبة تنظر إلى أشعة رقبتي وتهز رأسها في حيرة قائلة «عمري ما كنت سأصدق وأنا أراك جالسة أمامي هكذا أنها بهذا السوء. انظري إلى هذه البقع السوداء. لا مكان تقريباً للنخاع الشوكي. وهو يحتك بالعظم مع أي حركة تقومين بها.».

• • •
ماذا بيدك؟ ولا علاج إلى اليوم لما تيبست بسببه عظام الفراعنة.
• • •
تعلمت طول عمري كيف أعيش مع الألم، وكيف أنقب مناجمه. أصدرت ستة كتب وأنا صابرة عليه إلى أن استوى، وتأهَّبَ للانفجار، ففتحت عليه صنبوراً، صنبوراً يتم التحكم فيه بحذر، صنبوراً اسمه الشعر. لكن آخر كتبي استنفده، استهلكه حتى آخر قطرة.
• • •
يمكن أن أجري جراحة، لكن الطبيبة تفترض، عن حق، أنني غير مستعدة لهذا. ومع ذلك، بالنسبة للركبة على الأقل، هناك ما يمكن عمله. شيء تضعه عليها وتشده إلى الفخذ وقصبة الرجل. وتسألني الممرضة عن إحساسي به: «كأن تمساحاً مربوط على ساقي، وركبتي في فمه». تقول، في هذه الحالة، ربما لا يكون هذا هو الرباط المناسب. سأنظر مرة أخرى إلى صورة الأشعة.
• • •
ولكن هذا خبر جيد، هذا يعني أنني أبليت الماضي. وعليَّ الآن أن أبدأ حياة جديدة. حياة أقوم فيها يوماً بعد يوم، ولحظة بعد لحظة، بالتكيف، أعتني فيها بالحاضر، أعيشه لأنه الآن.
• • •
ليلة أمس. عشاء جميل وغال مع صديقة عزيزة. بعد شهور لم نجد فيها وقتاً للجلوس والكلام. لقاء مثير، وفيه مناطقه المخيفة أيضاً، كتلك اللحظات التي توسَّعنا فيها، ورحنا نتكلم عن التغيرات، التغيرات الإيجابية، كيف أن كتفيها بعد شهور من اليوغا صارت أقل حدة. هي الآن تخضع لعلاج رولف، رولف! شيء لم أسمع به منذ أن كشفت مقالة في مجلة نيويورك تايمز (أكان ذلك في السبعينيات؟) أن الناس يصرفون آلاف الدولارات ( بقيمة منزل!) ـ ليكتسبوا كدمات في أبدانهم باسم التخلص من الذكريات السيئة المختزنة في العضلات. يضغط المعالج إلى أن تطفو الذكرى على السطح طفو عملاق من قلب عضلة باكية.
• • •
إنما الحق أنها بدت جميلة وهي تمشي باتجاه المائدة ـ أربع وستون سنة وتبدو في الأربعين. ولما حكت قصة تحرر كتفيها من خلال ممارسة اليوغا صار بوسعي أن أرى من أين يأتي الجمال. الاسترخاء فتح حلقها حتى أمكن لشيء كأنه السعادة أن يطلع منه، نور لا بد أنه كان حبيس صدرها. بدت جميلة، لا جمال من أضافت شيئاً إلى نفسها، بل جمال من تخلصت من شيء كان يثقلها ويحني ظهرها. وها هي وقد بدت صورة من نفسها. ففهمت أن المفترض فينا جميعاً هو الجمال. وما أقبح أننا مرغمون جميعاً أن نكدح للوصول إليه، لأننا هكذا ولدنا.
• • •
كان صعباً عليّ وأنا في التاسعة عشرة وحبلى في الشهر الرابع أن أكتشف أن عليَّ أنا أن أعتني بأمر نفسي. كان صاحبي ذكياً حلو اللسان، لا يصدر الأحكام (وتلك صفته الأحب لديّ)، ساحراً، وفناناً اعتاد إلى حد كبير أن يعيش على أقل القليل. كان مدمناً على الكحول لا يستطيع الاستمرار في وظيفة. كان يحب أخريات. وأنا التي ما كان يمكن أن تخطر ببالي فكرة الرحيل عن بيت أبوين كانا ينتهكاني، وجدت نفسي حبلى بلا أحد أعتمد عليه. لم يطردني أبواي. أنا التي قررت أنني أوثر الرحيل على إخبارهما، على أن أظهر لهما وجه المحتاجة. ما كنت لأحتمل الشفقة والأسف والخيبة، أو الغضب.
كان عليَّ أن أعبر طبقات عديدة من الخوف ومن كراهية الذات. لقد كنت رئيسة فصلي، وكنت قد قُبلت لأكون راهبة. وبدأت بطني تكبر، وإذا بالذات التي أنفقت عمري في صياغتها تتشقق كالبيضة. (ماذا فعلت؟ لم أسيطر على حياتي! ما الذي كان أبي يضربني في طفولتي بسببه: أني ضيعت المفاتيح!).
• • •
أتذكر مرات محددة في حياتي تغير فيها تفكيري تغيراً فعلياً. تحرك شيء، فإذا بي كلي في عالم آخر. مثل ذلك حدث حينما قررت أن زوجي لا بد أن يرحل. كان ابني عمره سنتان. كنت أفكر منذ شهور في الانتحار، وفي كل لحظة كنت أمنع نفسي من القفز من نافذة في الطابق الرابع عشر من المشروع. وذات صباح صحوت ونظرت إليه نائماً في السرير الآخر ـ سرير المراهقة الذي جلبته معي من بيت أمي ـ فقلت لنفسي: صح، هو هذا. نهضت. لبست للذهاب إلى وظيفتي النهارية (كنت مدرِّسة احتياطية في ذلك الوقت) رجعت إلى غرفة النوم، ولمست كتفه «أنا خارجة الآن، وأريد حين أرجع ألا أراك هنا». أظن أن ما خطر له هو أن ذلك، كما في الماضي، لم يكن إلا مؤشراً على أننا سنخوض شجاراً كبيراً. ولكن بداخلي أنا كانت هناك أنا جديدة.
• • •
ليس بوسعك افتعال الأمر. لكن ببطء، شروقاً بعد شروق، وقمراً بعد قمر، شيء ما تغير. مرة سألت أمي كيف عرفت أن الوقت حان للطلاق؟ فقالت إن ذلك ما لا يمكن لأحد أن يجيبك عنه. لكن حينما يحين الأوان ستجدين أنك تعرفين.
• • •
ربما فكر عقلي لثانية بطريقة مختلفة، كأن يحدث وتستخدم عضلة لم يسبق لك أن استخدمتها من قبل لأنك لم تكن تعرف بها ولم تعرف الفارق بينها وبين ما يحيط بها من عضلات أخريات، كأنما كل تفكيرك من قبل لم يكن غير بقعة من كراهية الذات، ثم حدث في ثانية، ودونما محاولة منك أو إدراك، أن تنحت كراهية الذات تلك عن الطريق.
• • •
أتذكر بوضوح متى حدث ذلك، فقد مرت عليَّ ليلةٌ كدت أقتل فيها نفسي ثم لم أفعل. جارة لي، لم تكن لديها أدنى فكرة عما أمرّ به، طرقت بابي لسبب ما وفي يدها طبق فشار وقالت، سأجلس أنا أتفرج على التليفزيون، وأنت نامي وارتاحي. سألت، ولكن أين أبناؤك؟ أجابت: لا تشغلي بالك، معهم جليسة أطفال، ادخلي أنت ارتاحي. 
صحيح أنني كنت أعاني مرضاً عضوياً، وأنني كنت قضيت قبل فترة قليلة أسبوعاً في المستشفى بسبب ما تصوروا أنه تكتل دموي في ساقي، لكنني لن أعرف أبداً ما الذي جعل تلك الجارة تظهر تلك الليلة عند بابي. وفي تلك الليلة، وأنا مستلقية على سريري الصغير، شعرت بنفسي تطلع من جسمي. ظننت أن الجنون يصيبني، وأن ما خفت منه على مدار شهور قد بدأ يحدث ولكن صوتاً بداخلي كان يقول: دعي نفسك تطلع، سيمنحك هذا شعوراً أفضل من أي شيء شعرت به على مدار سنين. وأنا أطير في تلك الليلة، كما لو كنت أطير حول العالم، بل حول الكون، مطلة من أعلى على زوجي حينما عاد، تلك الليلة تخلصت من الألم. ويوماً بعد يوم صرت أتحسن، وبعد شهور استيقظت في الصباح وقد عرفت. مثل جرح أحدثته بنفسي في جسمي، جرح محاولة الحب، الذي تبين من بعد أن عليّ بنفسي أن أجعله يندمل، وذلك لأنه تبين لي أن جرحك لنفسك ليس هو السبيل إلى الحب.
• • •
كان بالأسفل عقل آخر، عقل ظل حتى ذلك الوقت مختبئاً تمام الاختباء، عقل بطريقته الخاصة كان يسحب الجسم والإرادة من ورائه. كان عقلاً بارداً، وصافياً، كان عقلاً يعرف فجأة متى ينبغي أن تغلق باباً، عقلاً قال لا وهو يعنيها، عقلاً لم يكن يقبل الفصل. كان عقلاً نهائياً. كان عقلاً يقف على قاعدة من غريزة واضحة، وكان له شريك برغم أنني قد أكون لم ألاحظ وجوده في ذلك الوقت، ربما كان مثل أولئك الإخوة التوائم الذين يدورون حول أنفسهم في مركز هذه المجرة أو تلك، هذه التي تواجهك، أو تلك البعيدة، كان شريكه صوتاً عميقاً، صوت غضب، وثورة، صوت قال: لا تموتي.
• • •
لكن شيئاً ما حدث قبل ذلك التحول الذي طرأ على مخي. شيء اندفن، كما لو كان اختفى تحت تجعيدة في الجلد، كأن يتفتح الكون فإذا بمجرات تتلاشى بداخل هوة عميقة ساكنة. شيء مَرَّ بالقلب مرور النور أو الظلام. شيء أبدي، حقيقي، بشري يجفل بداخلنا، رعشة في إبصارنا، رقيقة غاية الرقة فلا نشعر بها، أو مؤلمة أشد الإيلام، شيء أنساه أو نسيته، غير أنه شيء ليس لأحد سبب فيه ولا حاجة، شيء لم يتكون نتيجة لسواه. حدث في اللحظة التي نحيت فيها أشد الألم البشري، حين لم أعد قادرة أن أخرج من حوار مع العالم إلى حوار مع نفسي. كان شيئاً تسهل رؤيته تماماً، وفهمه، شيئاً أولياً بدائياً أصيلاً، وإن هي إلا لحظة، لحظة التفاتة. ما أبسطها وما أشد بداهتها، وإن هو إلا سؤال، سؤال بسيط للغاية لكنه لم يطرح من قبل.
______
*مقتطفات من مقال طويل نشر في العدد 143، عدد شتاء 2013 من مجلة ترايكورترلي
مجلة (الدوحة) 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *