* محمّد محمّد الخطّابي
(ثقافات)
آخر عمالقة المسرح الإسباني المعاصر أنطونيو بويرو باييّخو يعتبره النقّاد من أكبر الكتّاب المسرحييّن الإسبان فى النّصف الثاني من القرن ‘العشرين. خلال الحرب الأهلية الإسبانية، زجّ ببايّيخو فى السّجن لمدّة سبع سنوات لمعارضته للنّظام الفرنكاوي وتأييده للجمهورية .ولقد كان لتجربة الحرب ثمّ السّجن التي عاشهاعلى مضض تأثير بليغ على نفسه،وحياته وأعماله التراجيدية، ومن ثمّ جاءت مناهضته الرّاسخة للرقابة،ودفاعه المستميت عن الحريّة وإحساسه العارم بمأساة الكائن البشري حيث سوف ينعكس كلّ ذلك على معظم مسرحيّاته .
شاهد على عصره
كان بايّيخو شاهدا على عصره ، كان كاتبا ملتزما فى مسرحه وكتاباته وحياته نحو قضايا الإنسان ومعاناته،كان التزامه التزاما إجتماعيّا وسياسيّا للدّفاع عن الحريّات ،وقد أصبح بذلك من أشهر الكتّاب المسرحيّين فى هذا القبيل فى إسبانيا.
تحفل أعمال بايّيخو بالعديد من الإشارات للأحداث التاريخية التي عرفتها بلاده ،وقد كان من أكبر المدافعين عن الحريّة والإنعتاق، ومن ثمّ تتفجّر فى أعماله المسرحية معاني الإحتجاج والانتقاد، والتمرّد والثورة والإنسلاخ.
وبقدر ما كان بايّيخو حريصا على رواية الأحداث التاريخية برمزية عميقة ، كان كذلك حريصا على انتقاء أسلوب أنيق ومبسّط يتوافق مع إستعمال الرّموز والإيحاءات هروبا وفرارا من الرقابة الفاشستية فى عصره، فكان يلجأ إلى إستعمال التعابير العامية الموحية والموفية المسستوحاة من لغة الشارع اليومية فى أسلوب يعتمد على التركيب اللغوي المزجي ، وقد أدرك بهذه الخاصيّة المتفرّدة مراتب عليا من الجمالية اللغوية فى سلاسة تعبيرية ، وطلاقة وتلقائية وعفوية.
هذا الرجل ملأ الحياة الأدبية الإسبانية ، وشغل الناس خلال نصف قرن من الزّمان بالعطاءات المختلفة التي تركت بصماتها على الساحة الأدبية الإسبانية فى زمن اتّسم بالشحوب والألم والحزن والبؤس والشقاء خلال الحرب الأهلية اللإسبانية (1936 -1939)التي أتت على الأخضر واليابس، وجعلت شعبا واحدا يدخل فى عراك دام ومواجهة حامية عاتية دامية، وفى عداء سافر بسبب أيديولوجيات قد تكون مستوردة ودخيلة . ولقد صوّر باييخو فى أعماله المسرحية مواقف درامية ومأساوية مؤلمة لهذه المواجهات وهذا التطاحن، كما سلّط الأضواء على التناقضات التي كانت تعيشها إسبانيا فى ذلك الحين والصّراع ليس بين ما هو وافد أو وارد، أو أصيل وتليد ، بل وكذلك بين التقاليد والعادات المجذّرة والتطلّع نحو المعاصرة والحداثة فى مختلف مناحي الحياة .خمسون سنة من المسرح الملتزم الهادف ميّزت أعمال هذا الرجل الذي قدّر له أن يعيش فى زمن شاحب كئيب سماؤه تعتريها غيوم داكنة حالكة وملبّدة.
الظلام الملتهب
تنوّع مسرح بايّيخو يكمن كذلك فى توحّده، فعلى الرّغم من تعدّد مسرحياته واختلاف عناوينها ومضامينها إلاّ أنها دائما تصبّ فى مصبّ واحد وهو معاناة الإنسان وتناقضاته وسلبياته وتعنّته وتعجرفه وكبرياؤه وتكبّره ومأساته، وأخيرا احتراقه فى ظلام دامس متوقّد.
ولبايّيخو بالفعل مسرحية تحت هذا العنوان “الظلام الملتهب” كتبها عام 1946أي عشر سنوات بعد أن وضعت الحرب أوزارها ، وتمّ تقديمها على مسارح إسبانيا 1950. وهذه المسرحية ذات مغزى عميق، ففيها يضع باييخو المتفرّجين (نحن) فى المرآة ويعلّمنا كيف لا نخشى ولا نخجل ممّا نرى أو يتراءى لنا فيها..!.
إنّه يضع أمامنا مركزا لتعليم الشبّان كلّهم عميان منذ الولادة ، وتطفو على سطح المسرحية حقيقة مرّة مفادها نكران حقيقة العمى لدى هؤلاء ، وجعلهم يعيشون فى قناعة محدودة لا تعدو المقاييس المتّفق عليها بالنسبة لهؤلاء الذين أصيبوا بهذه العاهة . وفى بداية موسم دراسي جديد يلتحق بالمركز طالب يدعى إغناسيو الذي سوف يعارض ويناهض بشدّة الأكاذيب الرسمية التي يروّجها المركز حول العمى والقول جهارا وبكل جرأة أنه أعمى كما أن جميع الذين يتابعون دراستهم بهذا المركز هم عميان كذلك، وأن همّهم الأوّل الآن هو رغبتهم فى أن يصبحوا مبصرين، أي أن يروا العالم مثل سواهم . ويشير الباحث الإسباني” ريكاردو دوفيش” :” أنّ العمى هنا هو رمز لمحدودية الكائن البشري، وأن الرّغبة فى الرؤية أو النظر تعني التطلّع نحو المطلق وهذه هي المفاتيح الأساسية لفهم هذه المسرحية وبشكل عام لفهم مسرح بايّيخو”.
ففي هذه المسرحية التراجيدية يسعى البطل وزملاؤه إلى الرؤية ، رؤية العالم وأنّ بعض العاهات الجسدية أو النفسية ( العمى) الجنون ، الصّمم..على سبيل المثال فى معانيها العديدة : العزلة، الوحدة، الإكتئاب، المعاناة،أي عدم التمكّن من معرفة الحقيقة او رؤيتها إنّما تعني تفجيرا لمأساة الإنسان فى أسمى معاني الصّراع الدرامي عنده وهنا يكمن ما يسمّى بالواقعية الجديدة أو الواقعية الإجتماعية ، ومسرح بايّيخو يحفل بهذا الإتّجاه، ذلك أنّ مسرحه بالأساس هو مسرح رمزي وواقعي فى آن واحد.فعندما كان البطل فى أحد مشاهد مسرحية ” الظلام الملتهب”يعبّر عن رغبته العميقة فى أن يصبح مبصرا نرى الظلام فجأة وقد طفق ينتشر ويشمل رويدا رويدا خشبة المسرح ثمّ يعمّ الظلام المسرح كلّه فيغدو كلّ شيئ فى ظلام دامس ،وفى هذه اللحظة يصبح الجميع بمن فيهم المشاهدون أو المتفرّجون عميانا مثل إغناسيو..! .
وفي مسرحية أخرى لباييخو وهي ” حلم العقل” يقاسم المتفرّجون صمم ” غويا”. وفى مسرحية ” المؤسّشة” يصبح جنون البطل هو نفس جنون المشاهدين أنفسهم وهذا الغرق أو الانغماس أو التغطية أو الغطس بمعنى ” المشاركة” هي من أهمّ السّمات التي يمتاز بها مسرح باييخو.
ونجد فى مسرح باييخو ثلاثة محاور أسطورية أساسية تعتبر من أبرز مضامين المسرح منذ الإغريق: فأسطورة ” أوديب” تتجلّى فى معالجة الكاتب لعاهة العمى كبعد إنساني عميق ومؤثّر بهدف تجلية الحقيقة وهو هاجس تراجيدي معروف لدى الإغريق. وأسطورة ” قابيل وهابيل” نجدها عند باييخو عند معالجته للحرب الأهلية الإسبانية والتطاحن والإقتتال بين الإخوة ، ثمّ أخيرا أسطورة ” دون كيشوت” التي تتوق لسبر أغوار المستحيل والتطلّع نحو المجهول أو الغيب أي إكتشاف ما وراء الأفق أو الظاهر وهي ميزة أخرى تطبع مختلف أعمال باييخو ، ومن هنا يكتسي أو يكتسب مسرح هذا الكاتب قيمه التراجيدية الماساوية، فرؤيته للعالم هي رؤية تختلف عن الرؤية المادية البحتة، بل هي نموذج من التفكير الطليق على غرار الفيلسوف الإسباني الكبير ” ميغيل دي أونامونو”.
الدراما التاريخيّة
إنّ رؤية العالم التي تقدّمها لنا الدراما التاريخية هي نتيجة تداخل عملية تركيب أيديولوجي للحقيقة التاريخية بواسطة الكاتب وبمساعدة المتفرّج . هذا التركيب عادة ما يكمن فى بنيوية رؤية الماضي عن طريق تلاقي الكاتب والمتفرّج فى الحاضر: وإنّ البعد القائم بين الزمنين يغدو ملكا للسّرد التاريخي، ذلك أنه من أهمّ المميّزات الأساسية للدراما التاريخية القدرة على الرّبط بين الماضي والحاضر ،وهنا تكمن مقدرة باييخو فى الوساطة التراجيدية بين الزمنين. فمسرحيتاه ” حكاية سلّم” (1949) و” الظلام الملتهب” (1950) تعتبران تقصّيا مهووسا للظرف التراجيدي للإنسان كنعنصر بارز من عناصر التاريخ ، بل إنّ هذا الهاجس فى تقصّي عامل الزّمن نجده فى مسرحيتين أخريتين للكاتب وهما: “الحاكم للشّعب”(1958) و”الإنفجار”(1974)، إنّ الفرق بين “الضمير المعتقدي” و”الضمير التراجيدي” لا ينحصر فى تقبّل الحقيقة أو تغييرها بل على العكس من ذلك يكمن فى عدم قبول إنشراح المتفرّج بإجابة أو تفسير يؤدّيان إلى تلاشي الصراع القائم، وإنّ الضمير التراجيدي يحوّل السؤال أو عملية الساؤل إلى تناوش تراجيدي وذلك بتفجير السؤال نفسه على خشبة المسرح ،وبالتالي نجعل المتفرّج مشاركا بالضرورة فى البحث عن الإجابة ليس على خشبة المسرح وحسب، بل فى الحيّز التاريخي كذلك،والإجابة رهينة بطبيعة الحال بمقدرة وكيفية تلقّي المتفرّج للسؤال وفهمه وإستيعابه.
إننا إذا تامّلنا مسرحيات باييخو سوف نجدها حافلة بهذا العنصر التساؤلي التاريخي،وهو بذلك يزيد من مضاعفة وظيفة الأعضاء السمعيّة والبصريّة لدى المتفرّج، وتنشيط السّمات الكلامية لديه، فتغدو التراجيديا عنده وسيلة مفتوحة لا مغلقة لانّه بذلك يستبدل مفهوم القدرية بالحرية محوّلا إيّاها إلى المحور المحرّك لنظرته التراجيدية للتاريخ ، وتغدو المسافة الممتدّة بين العطاء والاستقبال (الكاتب والمتلقّي) للنصّ هي المسافة القائمة بين” الضمير التراجيدي ” وتساؤله و”الضمير” وجوابه ولذلك تتحوّل الدراما إلى حقيقة تاريخية، ويظلّ المتفرّج وحده باستطاعته تخطّي الحواجز وتجاوزها وإيجاد الحلول للصّراعات المحتدمة فى سياق التاريخ.
ولد أنطونيو باييخو فى مدينة ” وادي الحجارة” الاسبانية عام1916، ( فى 29 أبريل الفارط 2013 حلّت الذكرى الثالثة عشرة لرحيله ). وعندما كان فى الثامنة من عمره طلب من والديه أن يشتريا له مسرحا صغيرا مصنوعا من الورق المقوّى، وظلّ باييخو مخلصا لهذه الهواية التي سرعان ما أصبحت إحترافا فى حياته التي وهبها للمسرح حتى آخر رمق. للكاتب باييخو ما يقارب 27عملا مسرحيا ناجحا وقد ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات(18) لغة وقدّمت مسرحياته فى جلّ العواصم الأوربية والولايات المتحدة الامريكية وأمريكا الجنوبية. وكان باييخو من أشدّ المعجبين بالشاعر العالمي فيدريكو غارسيا لوركا وقد دارت كلمته عند إلتحاقه بأكاديمية اللغة الإسبانية حول هذا الشاعر بالذات.كما خلّد فى أعماله المسرحية العديد من الأعلام الإسبان فى مختلف المجالات الإبداعية مثل” دييغو فيلاسكيز” (أنظر مقالي حول هذا الإشبيلي العالمي فى ” القدس العربي” عدد7251بتاريخ 8 تشرين الأول(أكتوبر) 2012) ، و”غويا “و” لارا ” وسواهم .
_________
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب يقيم فى إسبانيا.