السؤال وهاجس البحث عن الهوية الشعرية في ديوان أدونيس ‘فضاء لغبار الطلع’


*أسامة غالي

(ثقافات)

يسعى أدونيس عبر مجموعته ‘فضاء لغبار الطّلع′ و التي صدرت عن دار الصدى ضمن ملحق بمجلة دبي الثقافية العدد 40، الى استرجاع الاس المعرفي المفقود، او المغيب في الثقافة العربية المعاصرة ،وهو /السؤال/ ، حيث يطل من خلالها على بحر العرب، فيرى صورته تنعكس مكسرة بين امواجه، فيستحضر بمخيلته شخوص أولئك الشعراء /شعراء الجاهلية / واحدا تلو الاخر، ينظر في تجاربهم، كيف عاشوا؟ وماذا كتبوا؟ وكيف انتهى بهم الطريق؟ كي تتضح له بعد ذلك معالم الهوية الشعرية، وبالتالي يعي هويته، والى ما يفضي الشعر! .ثم يقوم بطرح أسئلة تراءت له في ملكوت صنعه، فجادت بها قريحته الشعرية لترى النور بعد ان كانت مكرسة في حجر الذات، مبتدأ سفره مع امرئ القيس في قصيدة عنوانها / اسئلة لامرئ القيس من شرفة تطل على بحر العرب/ يحاول ادونيس ان يستذكر فيها ما قاله طرفة بن العبد: 
من قال الشاعر ‘لا يدخل السماء إلاّ محروسا بالجحيم؟ ‘،
سؤال لا يزال شعر طرفة بن العبد، يطرحه على ابجدية بحر العرب. 
ويبدو لي ان ادونيس بدأ مجموعته بهذا التساؤل كي يحدد مسار الشعر، ويكشف ـ من خلال الإجابة ـ عن الهوية الشعرية التي ينتمي اليها، اذ (ثمة شعر يمسك بخيط الحياة ويسير وراءها، فهو اقل منها، وثمة شعر يحيط بها لكي يأسرها في لحظته، فهو أكثر منها)] النص القرآني وآفاق الكتابة، أدونيس :175[
ان مجيء الإسلام ونزول القران أنجبا ثقافة ـ على ما فُهمتْ ـ تقف من الشعر والشعراء موقف التضاد او التطارد، مما حدا بأدونيس ان يعي هذا الموقف بكليته وعيٍاً ينساب مع ما كان عليه امرئ القيس ومن جاء بعده من الشعراء، لا وعي الحاضر الممتلئ بالمغالطات التاريخية او التفسيرات والاجتهادات، وكأنه أراد ان يعي ما يختبئ وراء تقويض الشعر بعقلية الماضي التي لم تشهد صراعات سياسية وايديولوجية بمستوى ما يشهده الواقع الراهن كي لا تضفي على الموقف بضبابيتها،بدليل انه ينتقي مفردات من التراث الجدلي الاول في صدر الاسلام (العابر/ المقيم/الابدي/الزائل)، بعد هذا يتجه نحو فلسفة الوجود الشعري في الانسان ،وما الذي سعت الى تاصيله الثقافة الاسلامة / القرآنية /، حيث يقول:
‘هو العابر الزائل’ كما تقولين، ايتها السماء،
فلماذا، اذاً، تهتمين به؟’
فيومئ ـ من خلال هذا المقطع ومقاطع اخرى منثورة بين طيات نصه الشعري وفي جسد بعض قصائده ـ الى ان هناك ظاهرة اتباعية للشعر غير صحيحة، ارادت الثقافة القرآنية ان تكشف عنها، وان تعيد للشعر مهمته، فالشعر حسب ادونيس: لقاء غائب لا نراه الا بين كلماته، لكن في زمن اخر، ودور الشعر هو ان يؤسس هذا الزمن الاخر، و ان يخلق وعياً سياسياً وثقافياً واجتماعياً ] ينظر: النص القرآني وآفاق الكتابة، أدونيس:174[، ثم يعالج ادونيس ظواهر التنبؤ التي رافقت الشعر ولمدة طويلة من الزمن،وأفضت عليه بعض الإشكاليات التي لازالت عالقة بمفهومه،فيبدي تصويرا مغايرا لمفهوم التنبؤ السائد،حيث يقول:
ومع انه استطاع ان يتنبأ بمجرى الكواكب،
فانه لم يقدر ان يسيطر على مجرى السفن وشهواتها..
بهذا المقطع يضع ادونيس فارقا معرفيا بين تنبؤ الشاعر وتنبؤ القديس،الشاعر يملك نبوءة اكتشافية فحسب،بينما القديس يملك حق التصرف بما يكتشفه، وهذا ما جعل الشاعر يهيم في كل واد،كما وصفه القرآن،فهو مطلق من حيث الاكتشاف،اما القديس فدائرته اضيق، فهو يسعى في الكون بما يملك من قدرة على التصرف،لا بما يملك من قدرة على الاكتشاف التي هي اوسع واعم.وبذا تكون رؤية أدونيس تساوق قوله تعالى (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)(الشعراء: 226) من حيث شمولية القول /أي الاكتشاف/ على الفعل /أي القدرة على التصرف/ هذا المسار الشعري صاحب التوصيفات القرآنية الذي سار وفقه أدونيس، جعل منه شاهدا على شعره، يقول:
حتى الان ايها الشعر،
لم تفتح لي أية نافذة
على ذلك المجهول الذي تعد به.
يبحث أدونيس في شعره عن حقيقة ما ،قد توعد له الشعر في إن يلامسه اياها كي يتداخل معها فيكّون تناصا شعريا معها كما هو الحال بين الأشياء الخارجية، فللعابر تناص مع المقيم، ولليل تناص مع الفجر،وللامكنة تناص مع الازمنة،وللظلام تناص مع الضوء، وللسحر تناص مع الحقيقة،وللشعر ايضا تناص مع الشاعر نفسه،هذا ما اقام عليه أدونيس مجموعته الشعرية ‘فضاء لغبار الطلع′، وهو يعنون قصائده بعتبات نصية متداخلة كي تحكي عن تداخل وتشابك سري تتشكل منه بنية القصيدة، ويكثف التشابك عبر تقنياته الكتابية، حيث الانتهاء بـ(النقطة) قبل ان يكتمل المشهد ثم نلتقي بالتكملة عند نص اخر جديد تم تسرية المشهد اليه من خلال مد جسور خفية يعيها الشاعر وحده،وثمة هناك مجموعة من (الفوارز) تحيط بقصائده تبعث القارئ نحو رصد تحركات المعنى الشعري داخل النص،فتارة يكون التحرك عمودياً ان ثمة هناك علامة (:) او استفهام (؟) في نهاية المقطع ،وتارة يكون أفقياً ان لم ينته المقطع بشيء ويردف بمقطع آخر مواز له .. 
_______
* كاتب من العراق.
نشر في (القدس العربي) 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *